اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
سيرٌ إلى الله في طريق التفكر
أن أول مقام وأول شرط في التوجه نحو السير والسلوك إلى الله ومجاهدة النفس هو (التفكر) بل يُعد من المقومات الأساسية لبدْء المسير, ومن دون الارتقاء إلى مقام التفكر لا يمكن الخروج من عالم الغفلة والدخول في عالم اليقظة, ومعرفة من أين المبدأ وإلى أين المنتهى, قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: ( رحم الله امرأً عرف من أين وفي أين وإلى أين).[1]
إن التفكر في هذه الأمور المهمة تجعل الإنسان يصل إلى معطيات ونتائج تجعله على بصيرة من أمره في سيره إلى الله, وفي هذا الصدد قال أمير المؤمنين عليه السلام: ( العامل من دون بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده كثرة العطاء إلا بعداً ) .[2]
والتفكر في هذا المقام هو أن يأخذ من وقته بضع دقائق في خلوة مع نفسه يفكر في خالقه ومخلوقاته, واحتياج الكل إليه واستغنائه عن الكل (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وهو الغني ) [3]
والتفكر في مبدأ الوجود (من أين وجوده) حتى لا يصل إلى ( جئتُ ولا أدري من أين أتيت)[4] والتفكر أيضاً في غاية وجوده في هذه الدنيا وفي الذين يرحلون عنها وما خلفوه فيها وإلى أين مصيرهم وكذلك التفكر في النفس وتقلباتها, وفي الجسم وعجائبه, وفي الكون وغرائبه (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق....).[5]
(عالم الإنسانية .. عالم عميق الأغوار.. عالم غامض ومجهول, كثيرون من البشر يتصورون أنفسهم صغاراً محدودين لكننا لو أصغينا إلى هؤلاء وتساءلنا معهم عن شعور بالبداية أو إحساس بالنهاية لقلما وجدنا منهم من يذكر له بداية أو تخطر في باله نهاية.
إن المرء يكاد ينكر أن تكون بدايته لحظة الميلاد ويكاد يرفض في الوقت نفسه أن يكون الموت هو النهاية.. هذا الإحساس المتجذر في الذات قد يكون أول الأدلة على أن تاريخ الإنسان روحياً يمتد إلى ماضٍ سحيق أمّا مستقبله فسوف يستمر إلى ما شاء الله و ما الدنيا إلا مرحلة عابرة في مسار طويل.. طويل جداً. يقولون إن الشعور بالضمأ أكبر دليل على وجود الماء.. والشوق إلى الخلد دليل على وجود عالم الخلد.. وإن الإنسان أكبر مما نتصور)[6] .
يقول الإمام علي عليه السلام في الشعر المنسوب إليه:
دواؤك فيك وما تبصر
وداؤك فيك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر.
الإنسان مخلوق من طين من صلصال من حمأ مسنون ثم نفخ الله فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها وسجدت له الملائكة أجمعون وكرمه الله وخلقه في أحسن تقويم وشاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يُمتحن الإنسان في عالم الدنيا, وأن يكتشف بنفسه الطريق إلى الله، وتكفل الله هدايته إلى معالم الطريق. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾العنكبوت69
يقول الإمام علي عليه السلام:(من عرف نفسه فقد عرف ربه).[7]
لقد انطوى العالم الأكبر فيك بغرائبه وعجائبه وأطواره المختلفة وقواه الكبيرة, فعلى الإنسان أن يتفكر في كل ذلك حتى يتوصل إلى معرفة نفسه وما مدى قواها لمجاهدتها والانتصار عليها و ترويض وكبح جماح قواها الغريزية وهواها الشهوانية الحيوانية, واصلاً إلى جنة اللقاء (لقاء الله) (أما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى),[8] بعد الانتصار في سوح الجهاد الأكبر مع النفس.
قال أحد أساتذة العرفان:( كان شاب ما انفك يتودد إليَّ ويطلب أن يكون تلميذاًُ عندي لتنمو روحه قال لي يوماً: لست لطيفاً بي ولا أدري لماذا؟ فأنت لا تعلمني شيئاً يساعدني في كبح شرور الهوى.. لا تعلمني ذكراً ولا دعاءً أو ورداً أستطيع به ترويض نفسي حتى لا تجرني إلى المعاصي, قلت له: أنت لا تعرف حتى إلى الآن حقيقة نفسك ولا تعرف مدى قوتها فكيف تريد صراعها, إن من لا يعرف مدى قوة عدوه فكيف يستطيع منازلته؟
النفس قوة كبيرة تستطيع جر الإنسان إلى الخطيئة, النفس عفريت لا ينام, حتى الأنبياء مع ما هم فيه من قدرة روحية يخشون نفوسهم ويستغيثون بالله من شرورها يقول أمير المؤمنين:( إن نفسك لخدوع إن تثق بها يقتدك الشيطان إلى ارتكاب المحارم, إن النفس لأمارة بالفحشاء, فمن ائتمنها خانته ومن استأمن إليها أهلكته ومن رضى عنها وردته شر الموارد, وإن المؤمن لا يمسي و لا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده فلا يزال زاوياً عليها مستزيداً إليها).[9]
وعلى هذا إن أردت جهاد نفسك فعليك أن تستعد بأكثر من هذا ولقد كان لي صديق سافر إلى الهند وذهب إلى المرتاضين هناك وإلتقى معلماً لبعضهم فسأله: كيف يبدأ تلامذتك رياضتهم وما هي تعليماتك لهم؟ قال: إننا نختبر التلميذ في الأشياء التي يحبها أكثر والتي ينفر منها أكثر, وعندما يتضح لدينا ذلك تأتي التعليمات بضد ذلك انظر إلى هذا مثلاً- وأشار إلى تلميذ بيده ملعقة كبيرة يحرك بها محتوى قدر مليء بالعذرة- إنه حساس جداً يكاد يتقيأ إذا وقعت عينه على لعاب إنسان, لا يتناول طعامه إلاَّ بالشوكة والسكين وهنا أنت ترى كيف يعمل وفق هذه التعليمات لكي يتمرن على تحكمه بنفسه لا العكس!!
وهذا الآخر متكبر ومغرور بثروته جاءنا وعرض علينا مالاً كبيراً مقابل تعليمه ورداً يستطيع أن يكبح أهواءه قلنا له: المال لا يصنع لك شيئاً إذا أردت أن تقهر نفسك فعليك أن تجلس في باب شركتك وتسأل الناس أن يتصدقوا عليك, أن تتسول من أجل تمريغ غرورك الفارغ بالتراب.
لهذا قلت للشاب هكذا يفعل المرتاضون الهنود وكل هذا من أجل تقوية أرواحهم وهم يفعلون ذلك عن طريق غير مشروع, فإن أردت النجاح في جهاد نفسك عن طريق مشروع فما عليك إلا أن تقاوم رغبات نفسك وأهواءها, وتعاليم الإسلام ليست أعقد مما يفعلون, سواء أكانت في اتجاه إيجابي, يعني أداء الواجبات والمستحبات, أو الاتجاه السلبي وهو ترك المحرمات والمكروهات, كما إن هذه التعاليم الإسلامية مفيدة وتقرب الإنسان من الله زلفى وتوفقه ليكون من أتباع أهل البيت حقاً ومن أنصارهم في الدنيا وأحبابهم في الآخرة, وتزيل عن قلب الإنسان الحجب الظلمانية وتضع خطاه في الصراط المستقيم وتوصله إلى المقصود.
وقرر الشاب أن يبدأ جهاده الأكبر بشهامة الشباب المؤمن وقال: سأقوم بكل ما من شأنه أن يكبح هوى النفس, حتى لو اضطرني ذلك للقيام بما يقوم به الهنود.
قلت له: إن أردت أن تغلب هواك فكن شديداً على نفسك, لأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله يقول :( لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده) [10] ويقول أمير المؤمنين عليه السلام:(غالب الهوى مغالبة الخصم خصمه فحاربه محاربة العدو عدوه لعلك تملكه) . [11]
كل هذا وذاك يعطي الإنسان وقفة تأمل واسترجاع الأمور برمتها ليكتشف إنه لم يُخلق إلا لهدف أسمى من إشباع الرغبات والشهوات, فلو تفكرنا في الإنسان الآلي ومما يتركب وفككنا أعضاءَهُ لرأينا أنه مزود بذاكرة تتلقى أوامر معينة, أي غاية صنعه هو نقل الأشياء من مكان إلى آخر فقط, أما لو تفكرنا في أنفسنا وفي مملكة جسمنا الغريب وكل النعم التي أنعم الله علينا بها, وما الغاية من إرسال الرسل والأنبياء إلينا لعرفنا أن كل تلك النعم ليست لأجل أن نعيش الحياة الحيوانية وإشباع شهواتنا ورغباتنا التي نشترك فيها مع الحيوانات بل هي من أجل هدف وغاية أخرى.
(إن الإنسان إذا فكر للحظة واحدة, عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر, وأن الغاية من هذا الخلق, أسمى وأعظم وأن هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحد ذاتها, وأن على الإنسان العاقل أن يفكر بنفسه, وأن يترحم على حاله ونفسه المسكينة, ويخاطبها: أيتها النفس الشقية التي قضيت سني عمرك الطويلة في الشهوات ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة, ابحثي عن الرحمة, واستحي من مالك الملوك, وسيري قليلاً في طريق الهدف الأساسي المؤدي إلى حياة الخلد والسعادة السرمدية, ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيام قليلة فانية, التي لا تتحصل حتى مع الصعوبات المضنية الشاقة, فكري قليلاً في أحوال أهل الدنيا, والسابقين, وتأملي متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر وأكثر بالنسبة إلى هنائهم, في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأي شخص.
ذلك الذي يكون في صورة الإنسان ولكنه من جنود الشيطان وأعوانه, والذي يدعوك إلى الشهوات, ويقول: يجب ضمان الحياة المادية, تأمل قليلاً في حال نفس ذلك الإنسان استنطقه, وانظر هل هو راضٍ عن ظروفه, أم أنه مبتلٍ ويريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!
وعلى أي حال, فادع ربك بعجز وتضرع أن يعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه سبحانه و تعالى, والأمل أن يهديك هذا التفكير -المقترن بنية مجاهدة الشيطان والنفس الأمارة- إلى طريق آخر, وتوفق للترقي إلى منزلة أخرى من منازل المجاهدة)[12] .
وقد يصل الإنسان السالك إلى (مقام التفكر) وهو صامت, يفكر في نفسه ومن حوله وفي الآفاق, وليس شرطاً أن يكون في عزلة قد يكون في وسط الناس في عالم الكثرة وهو في عالم الوحدة مع الله سبحانه وتعالى, ولهذا جاء في الأثر إن عيسى بن مريم قال: (طوبى لمن كان صمته فكراً ونظره عبرة).
أتذكر موقف في خصوص التفكر حصل معي مع أحد المشايخ المهتمين بالسير والسلوك و العرفان والأخلاق, وكان ذلك في بداية دراستي للعلوم الدينية وبحسب قناعتي بكلام الإمام الخميني (رهـ) بأن على الطالب إذا أراد أن يدرس في الحوزة عليه أن يبدأ بعلم الأخلاق قبل أي علم آخر,وعلى هذا الأساس ذهبت إلى هذا الشيخ الجليل وطلبت منه درساً في علم الأخلاق لكنه اعتذر لكثرة الانشغال وعدم وجود فسحة من الوقت للالتزام بدرس جديد, وجلست ألح عليه لحاجتي الماسة لهذا الدرس ولكن دون جدوى, وهنا انقدح في ذهني أن لا أخرج من عنده إلا بفائدة تعينني على تهذيب نفسي فقلت له: إذن أعطني توجيهاً أو نصيحة أعمل بها تنفعني في حياتي, سكت الشيخ عني لفترة وهو ينظر إلى الأرض وكأنه يبحث عن دواء من صيدليته الأخلاقية يتناسب وحالتي, وبعد هذا السكوت والتفكير قال لي: عليك بالصمت, قلت متعجباً: الصمت!! قال: نعم الزم الصمت ولا تتحدث إلا لحاجة وإذا كان هناك غيرك سوف يتحدث بشيء كنت تريد أن تتحدث به فاصمتّ, قلت له: ولماذا الصمت بالذات دون غيره؟ قال: إن الصمت يقودك بعد فترة إلى باب التفكير وسوف تستفيد منه كثيراً وأضاف قائلاً: واعلم إن أكثر المشاكل التي يتورط فيها الطلبة آتية من كثرة الكلام والتدخل فيما لا يعنيهم.
وخرجت من عند أستاذنا الشيخ وأنا أفكر فيما قاله مما جعلني أبحث في بطون الكتب عن أحاديث لأهل البيت حول الصمت وقد حصلت على بعضها واكتشفت من خلال قراءتي لتلك الروايات أن الصمت شيءٌ مهم جداً للسالك, وتتضح أهميته عندما ينزِّل السالك هذا المفهوم النظري إلى حيز التطبيق العملي, بعدها يلمس الأثر الإيجابي على نفسه.
يقول أحد العرفاء: في ليلة من الليالي فقدت حالة من إيماني بالله وولاية صاحب الزمان ومن اليقين التام بحقائق ومعارف يوم القيامة(وبالآخرة هم يوقنون) وكنت أتمنى أن تدوم معي هذه الحالة ولا تفارقني لحظة واحدة ولكني فقدتها ولعل ذلك يعود إلى ترددي على محافل مختلفة وتحدثي بأشياء لا طائل من ورائها, حيث الصمت والسكوت من شروط التكامل الروحي.
العزم:
وهناك مقام آخر ينبغي على السالك أن يرتقيه وهو في طريق التفكر وهو مقام العزم.. وهو أن يوطن نفسه ويتخذ قراراً بترك المعاصي وهجرانها هجرة لا عودة لها أبداً والعمل بواجبات وتدارك ما فاته منها من الأيام الماضية, وأن يعمل على أن يكون إنساناً شرعياً عاقلاً أي أن تكون كل سكناته وحركاته وأعماله متوافقة مع الشرع والعقل وبدون العمل والالتزام بهذين الأمرين لا يمكن للإنسان أن يحقق إنسانيته ويكون سائراً إلى الله, لأن طي المراحل وسلوك طريق السير إلى الله يبدأ من الالتزام بآداب الشريعة الحقة, يقول سيد العرفاء الإمام الخميني (رهـ): (واعلم... أن طي أي طريق للمعارف الإلهية, لا يمكن إلا بالبدء بظاهر الشريعة, وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة, لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة, كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف العلوم الباطنية وأسرار الشريعة, وبعد انكشاف الحقيقة, وظهور أنوار المعارف في قلبه, سيستمر أيضاً في تأدبه بالآداب الشرعية الظاهرية.
ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: (إن الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر,أو أنه وبعد الوصول إلى العلم الباطن ينتفي الاحتياج إلى الآداب الظاهرية).وهذه الدعوة ترجع إلى جهل من يقول بها, وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية).[13]
ـــــــــــــــــــــــــــ
1] السيد حسن الأبطحي, بين يدي الأستاذ /ص38.
[2] الإمام علي , نهج البلاغة.
[3] القرآن الكريم, سورة فاطر /الآية: 15.
[4] ديوان/إيليا أبو ماضي
[5] القرآن الكريم, سورة فصلت/ الآية :53.
[6] السيد حسن الأبطحي, بين يدي الأستاذ/ص5.
[7] السيد حسن الأبطحي, بين يدي الأستاذ/ص5.
[8] القرآن الكريم, سورة النازعات/ا40 -41.
[9] جامع أحاديث الشيعة,13/246ح12.
[10] المجلسي,بحار الأنوار, 67/72ح22.
[11] السيد حسن الأبطحي, بين يدي الأستاذ/ص260
[12] الإمام الخميني, الأربعون حديثاً /ص24.
[13] الإمام الخميني, الأربعون حديثاً /ص25.