اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بيان الحكمة في أصل وجوب الإحرام وتقييده بمكان الميقات
مع بيان الحكمة في وجوب التلبية
إن الإحرام للحج أو العمرة من الميقات هو أول واجب يقوم به الحاج أو المعتمر وحيث أننا عزمنا على بيان الحكمة والسر في أصل تشريع وجوب الحج بصورة عامة وتشريع كل واحد من مناسكه المعهودة بصورة خاصة فلابد لنا من الإشارة إلى الحكمة في ذلك إجمالاً بالنسبة إلى أصل التشريع وتفصيلاً بالنسبة إلى كل واحد من مناسكه.
وقبل الشروع ببيان ذلك بالنسبة إلى مناسك الحج ـ موضوع البحث أحب أن أمهد بمقدمة مختصره أبين فيها الحكمة في أصل تشريع العبادات بصورة عامة والسر في إلزام المكلف وتعبده بها بكيفيتها الخاصة فأقول :
إن المتأمل في الجانب التعبدي البارز في تشريع هذه الفريضة المباركة أي فريضة الحج ـ يدرك أن الحكمة في تشريع وجوبها هو نفس الحكمة الداعية لتشريع سائر العبادات وهي تقوية روح العبودية في حياة الإنسان المؤمن ليبقى على حالة عبادة لله سبحانه وانقياد إليه في جميع تصرفاته الاختيارية.
فالله لم يأمر المكلف بالتعبد له بالصلاة بكيفيتها الخاصة إلا من أجل أن ينتقل من ممارستها والمحافظة عليها ـ شكلاً ومضموناً ـ إلى الصلاة بمعناها الواسع الشامل المتمثل بالخضوع الكلي والاتصال الدائم بذاته تعالى فكرياً بالتفكر والتدبر فيما يرضي الله تعالى وروحياً بالتعلق والمحبة ونفسياً بالتقرب إليه بكل الممارسات المحبوبة له سبحانه مع ترك كل ما ينافي ذلك التقرب إليه ويحجب عنه وهذا معنى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وهكذا الصوم لم يوجبه الله تعالى على المكلف شهراً في السنة إلا من أجل التحول من معناه المحدود المتمثل بالإمساك عن تلك المفطرات المحدودة ضمن الأيام المعدودة ـ إلى الصوم بمعناه العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في جميع الشهور والأيام وهذا هو المقصود بالتقوى التي جعلها الله سبحانه غاية لوجوبه حيث قال تعالى :
( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
ونفس الشيء يقال بالنسبة إلى تشريع وجوب الزكاة والخمس ونحوهما من الفرائض المالية فالله سبحانه قد أوجب مقداراً من المال في الفريضتين المذكورتين ـ الخمس والزكاة ـ ليتعود المكلف على البذل والعطاء من كل ما يملك من الثروة المالية أو المعنوية كالعلم والجاه والمنصب كما يستفاد من قوله تعالى في أول سورة البقرة :
( الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )
وذلك لأن الله كريم يريد من عبده المؤمن أن يتخلق بأخلاقه بصورة عامة وصفة الكرم بصورة خاصة باعتبار أنها أرفع وأنفع صفة يتجمل بها الإنسان الرسالي المثالي في هذه الحياة نظراً لما يترتب عليها من الفوائد الهامة العامة للكريم الباذل ولسائر أفراد المجتمع.
وخصوصاً في الوقت الذي تشتد فيه الأزمة الاقتصادية وتشمل سلبياتها الكثيرين من المستضعفين كما في هذه الأيام.
وعلى ضوء إدراك الحكمة من تشريع وجوب الزكاة والخمس ونحوهما من الفرائض المالية ـ وهي التجمل بصفة الكرم دائماً ببذل ما يتيسر وخصوصاً عندما يطلب السائل المحتاج ذلك ـ نعرف أن تأدية الفريضة المالية إذا تجردت عن صفة الكرم التي يتجاوز بها المؤمن الكريم البذل الواجب إلى المستحب ولو بالقليل الأفضل من الحرمان ـ تكون ناقصة بتراء ما دامت لم تؤثر أثرها المنشود ولم تحقق غايتها المقصودة فهي تكون كالصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والصوم الذي لا يؤدي إلى صفة التقوى.
وهكذا الحج إذا تجرد عن هدفه الأصيل ولم يحقق صفة التقوى المقصودة منه كما يفهم من سياق بعض الآيات الواردة في مقام الحديث عن فريضة الحج مثل قوله تعالى :
( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَأتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ )
ومثل هذه الآية آية أخرى واردة في مقام بيان الحكمة من تشريع وجوب الهدي على من كانت فريضته حج التمتع وهي قوله تعالى :
( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ )
وخلاصة القول في المقام أن الله سبحانه لم يشرع العبادات الخاصة إلا من أجل أن تكون فروضاً تمرينية طُلبت من المكلف من أجل أن يتوصل بها إلى تقوية العقيدة والإيمان بالله سبحانه ليبقى على حالة خضوع دائم وعبادة مستمرة بفعل ما اُمر به وترك ما نُهي عنه وهذا ما يعبر عنه بالتقوى والعبادة بمعناها العام الشامل لكل تصرف اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره وفق إرادة الله تعالى.
وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية ندرك أن الحج لم يشرع وجوبه بصفته الخاصة إلا من أجل التوصل به إلى الحج العام الذي يتمثل بالإحرام العام الذي يقتضي كل التروك الواجبة ولا ينحصر بتروك الإحرام الخاصة المعهودة.
كما يتمثل بالطواف العام والسعي الدائم والوقوف المستمر في عرفات التقوى ومشعر الاستقامة مع رمي كل الشياطين بكل الممارسات المستقيمة في خط الهدى والمنحرفة عن درب الهوى ـ ومع ذبح هوى النفس الأمارة بالسوء والمحرك لها في طريق المعصية ـ من شياطين الإنس والجن.
الحكمة في تشريع كل منسك من مناسك الحج وشعائره المقدسة
إن الإحرام من الميقات هو أول خطوة يخطوها الحاج أو المعتمر على درب التعبد لله سبحانه بهذه الفريضة المقدسة.
وهنا يقع السؤال أولاً عن السر في أصل تشريع وجوب الإحرام
وثانياً عن الحكمة في تقييده بكونه من مكان معين وهو الميقات الذي يقع في طريق الحاج أو المعتمر بحيث لا يجوز له الإحرام من مكان آخر كما لا يجوز له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه بدون مبرر شرعي
وجواب السؤال الأول يظهر من معرفة الحكمة العامة في أصل التعبد بالشعائر الدينية وهي استفادة المكلف درساً تربوياً في العبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة لله سبحانه في محراب الحياة لذلك يصدر التكليف من المولى في أغلب الأحيان ـ بأمر من الأمور ويحيطه ببعض القيود والحدود التعبدية ليتمرن العبد على الخضوع والتعبد بامتثاله مع التقيد والتعبد بقيوده حتى وإن لم يعرف السر في أصل التكليف والإلزام بتلك القيود مع لزوم إيمان المكلف بحكمة الله سبحانه كما سبق وأنه لذلك لا يشرع حكماً بلا غاية وحكمة كما لا يخلق شيئاً بدون غرض وهدف.
ولذلك لا يتوقف المؤمن عن الامتثال لمجرد عدم الاطلاع التفصيلي على الحكمة الخاصة في تشريع هذا الحكم أو ذاك.
وإذا كان المعروف والمشهور في النظام العسكري للبشر أن يقال للجندي : نفذ ثم اعترض ـ فالمناسب للنظام السماوي المشرع من قبل المولى الحقيقي والقائد الواقعي وهو الله تعالى : أن يقال للعبد المؤمن :
نفذ ولا تعترض لأن اعتراض العبد المخلوق على خالقه يتضمن اتهامه بفقد الحكمة والغرض العقلائي فيما أمره بفعله أو نهاه عنه وهذا يتنافى مع ما يجب أن يكون الإنسان المؤمن متصفاً به من الإيمان بالحكمة البالغة والكمال المطلق لله تعالى.
والحكمة التي يمكن أن تكون المصدر لتشريع وجوب الإحرام من الميقات المحدد للحاج او المعتمر على ضوء بعض الروايات والتوجيهات الواردة عن أهل البيت
هي التعبد لله سبحانه ولفت نظر الزائر لبيت الله الحرام أنه عندما يصل إلى الميقات يُطلبُ منه أن يُحضر في ذهنه صورة الإقدام على دخول حرم الله وأمنه الذي جعل الله له أحكامه الخاصة وقدسيته المميزة ليستشعر بذلك عظمة الله تعالى وجلالته ويصحب معه هذه الحالة عند قيامه بأي منسك من مناسك الحج باعتبار أن الإحرام هو بداية أعمال هذه الفريضة المباركة نظير تكبيرة الإحرام في الصلاة.
وحتى يتعمق هذا الشعور في نفس الوافد إلى بيت الله سبحانه ـ طُلب منه أن يغير وضعه الخارجي من الحالة التي هي من شؤون الدنيا وأهلها مثل ارتداء الملابس المخيطة وتغطية الرأس بالنسبة إلى الرجل مع ارتداء ثوبين غير مخيطين للإحرام بالنسبة له أيضاً.
وذلك من أجل أن يتذكر يوم وفاته حيث يُجرد من ملابسه الحياتية العادية ويُلف بقطع الكفن الثلاث المعهودة غير المخيطة وذلك يزيده خضوعاً لله سبحانه وخشوعاً بين يديه وزهداً في زخارف هذه الحياة الزائلة وزينتها الفانية ليبدل ذلك بالرغبة فيما ينفعه ويرفعه في كلتا الدارين.
ويأتي النطق بصيغة التلبية ليكون تعبيراً عن الاستعداد النفسي لتلبية كل نداء يوجه إليه ويتضمن طلب فعل أو ترك عمل وتتمثل هذه التلبية والإجابة العملية بامتثاله التكاليف الشرعية الموجهة إليه حال إحرامه وانطلاقه في طريق تأدية فريضة الحج وهي قسمان :
الأول : التكاليف الإلزامية المتمثلة بمحرمات الإحرام وواجبات
الحج الثاني التكاليف الترخيصية المتمثلة بمستحبات الحج والعمرة ومكروهاتهما ويُطلب من المكلف عندما يقوم بهذين العملين المباركين ( وهما الحج والعمرة ) أن يلتفت إلى أن كل واحد منهما يعتبر دورة تدريبية رياضية يراد بها تقوية روح العبودية في نفس المسلم ليبقى على حالة تلبية دائمة وإجابة مستمرة لكل نداء شرعي وتكليف إلهي في كل الأوقات بتركه المحرمات العامة كما ترك محرمات الإحرام حال تلبسه به مع فعله كل واجب مطلوب منه كما فَعَلَ واجبات الحج.
وبذلك يُعرف أن فريضة الحج تحمل في طيها فريضة الصوم والصلاة والخمس والزكاة والجهاد في سبيل الله تعالى.
وذلك لأن تروك الإحرام نوع من الصوم والإمساك طُلِبَ من المكلفين في وقت معين وهو وقت تلبسه بالإحرام كما يُطلبُ منه الإمساك عن المفطرات المحدودة ضمن الأيام المعدودة من أجل أن يتوصل الحاج والصائم ويتحول من الإمساك الخاص عن المحرمات والمفطرات الخاصة إلى الإمساك العام عن كل حرام في كل الشهور والأيام ويعبر عن ذلك بالتقوى التي جعلت الغاية الباعثة لتشريع فريضتي الحج والصيام
وكذلك يوجد في الحج صلاة الطواف مضافاً إلى أنه في نفسه صلاة وعبادة لله تعالى بالمعنى العام للعبادة والخضوع لإرادة الله سبحانه وهو ـ أي الحج ـ يقتضي بطبعه بذل المال ثمناً للهدي مع سائر المصارف التي تقتضيها طبيعة الحج قبل السفر إلى مكان مناسكه وأثناءه وبعده كما هو معلوم.
وبذلك كان شبيهاً يفريضتي الخمس والزكاة كما أنه شبيه بالجهاد بسبب ما يقتضيه بذاته من المشقة والعناء مع تعرض الحاج للكثير من
الأضرار والأخطار التي تؤدي إلى الوفاة ومفارقة هذه الحياة كما يتعرض المجاهد لذلك في الغالب وبالنسبة إلى الكثيرين من الحجاج ولذلك يُودع المسافر في هذا السبيل بالدموع والتهيب من حدوث حالة الموت أو الضياع والفقدان ونحو ذلك من الأخطار المثيرة للخوف والقلق لدى أكثر الناس.
ثم إن تجرد المحرم من الثوب المخيط بالنسبة إلى الرجل ـ لا يترتب عليه أثره المنشود إلا إذا اقترن بتجرد فكره من الشبهات التي تحجب عنه رؤية الحقيقة في العقيدة والشريعة والممارسة مع تجرد قلبه من الميل والرغبة في ممارسة المحرمات التي تدفعه للخروج من حرم العبودية والانطلاق في ميدان الأهواء المنحرفة والرغبات المتطرفة.
وذلك لأن الإنسان ليس بجسمه المادي وإنما هو بروحه الطاهرة ونفسه المطمئنة وقلبه السليم وطُلب منه التجرد من الملابس المادية المخيطة ليكون ذلك رمز التجرد من كل الصفات الذميمة والمعاني الوضيعة فيكون باطنه مطابقاً لظاهره.
وبذلك تثبت مصداقية صدقه في إيمانه وواقعيته في تعبده.
ومن النتائج الإيجابية المترتبة على تجرد الناسك من الملابس العادية المخيطة المتعارفة ـ عودته إلى حالته الأولية التي يلتقي بها مع سائر أفراد البشر عندما تسقط كل الامتيازات وتزول كل الحواجز الجغرافية والقومية والعنصرية والمذهبية والمميزات الاجتماعية التي تصنف الناس إلى فئات وطبقات متمثلة بطبقة الأغنياء والفقراء وطبقة الرؤساء والمرؤوسين وطبقة البيض والسود كما هو السائد في بلاد الغرب وحكوماتها العنصرية.
وبنزع الملابس العادية المميزة لهذه الطبقات بعضها عن بعض يبرز المجتمع أمام الخالق المعبود الواحد ـ بثوب واحد على صعيد واحد مرددين شعاراً واحداً.
( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك )
فلسفة الحج في الإسلام للشيخ حسن طراد
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين