«إلهي... خَسِرَت صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً»(1).
ويطلب الرسول الأكرم(ص) من الله تعالى: «واجعل حبّك أحبَّ إليَّ من الماء البارد»(2).
وبكى شعيب(ع) من حبّ الله عزّ وجلّ حتى عميَ، فردَّ الله عزّ وجلّ عليه بصره ثم بكى حتى عميَ فردَّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عميَ فرد الله عليه بصره،فلما كانت الرابعة
أوحى الله إليه: يا شعيب إلى متى يكون هذا أبداً منك؟ إن يكن هذا خوفاً من النار فقد آجرتك، وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك؛
فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك،
فأوحى الله جلّ جلاله إليه: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدمك كليمي موسى بن عمران»(3).
نعم، إنَّ الذي يتذوّق حلاوة الحب الإلهي، يصبح على هذا الحال من عدم القرار.
وأما قول القائل: «فهبني... صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك...»(4)،
فذلك لأن حب الله قد سكن قلبه فتذوق حلاوته:
«وعزّتك وجلالك لقد أحببتك محبّةً استقرت حلاوتها في قلبي»(5)،
وظهرت آثاره عليه.
• آثـــــار الـمـحــبــــــة الإلـهـــــــيّـة
أ ـ ترك المعصية
المحبة شجرة طيبة تمتد جذورها إلى أعماق وجود الإنسان وأغصانها إلى فضاء سماء المعنويات. أما ثمار شجرة طوبى هذه فهي العقيدة الصحيحة والأخلاق الصالحة والأعمال الخيّرة التي تظهر بواسطة أعضاء وجوارح الإنسان. وكما أن ثمار الشجرة ولون وطعم ورائحة ثمارها تدل على حياتها ونضارتها، كذلك فإن أعمال الإنسان تدل على نشاط أو موت شجرة المحبة في وجوده:
«من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب»(6).
إذا وجدت المحبة الحقيقية في داخل الإنسان، فإن أول آثارها جلب رضا المحبوب وتقديمه على رضا الآخرين:
«دليل الحب إيثار المحبوب على ما سواه»(7).
وإيثار المحبوب يقتضي عدم الإقبال على المعاصي.
لذلك يُنْقل عن الإمام الصادق(ع): «ما أحبَّ الله عزّ وجلّ مَنْ عصاه».
وقد مثلوا هذه المقولة شعراً فقيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا محالٌ في الفعال بديع
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته
إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيع (8)
إن هذه الطاعة، هي طاعة عامة لا تختص بجانب معين، بل هي المسيطرة ظلالها على كل شيء:
«وإذا هاج ريح المحبة واستأنس في ظلال المحبوب وآثر المحبوب على ما سواه وباشر أوامره واجتنب نواهيه واختارهما على كل شيء غيرهما ... وصل إلى روح المناجاة والقرب...»(9).
يلتذ العاصي بارتكاب المعاصي وبما أنه يظن أن كماله هو في الوصول إلى تلك اللذة غير المشروعة، لذلك نراه يحب تلك اللذة وسببها أي المعصية. وعلى هذا الأساس فجذور المعصية تعود إلى المحبة؛ كما أن جذور التقوى وترك المعصية تعود إلى المحبة أيضاً. في النتيجة فإن روح الإنسان تشهد صراعاً بين محبة الله ومحبة اللذائذ غير المشروعة. وكلما كَبُرَ أحدهما ترك الثاني مكانه وزال.
وأما معنى تمامية المحبة الإلهية فهو أن أرواح تلك الذوات المقدسة مملوءة بمحبة الله وعشقه ولا وجود فيها لأي مكان خالٍ لتدخل إليه محبة غير الله:
«واجعل... قلبي بحبّك متيماً»(10).
بناء على ما تقدم فإن هكذا أشخاص لا يوجد لديهم أرضية لمحبة اللذة غير المشروعة لذلك نراهم لا يتوجهون نحو المعصية وبالتالي فهؤلاء سيكونون معصومين مع العلم أن إمكان المعصية موجود عند كل إنسان بسبب الطبع الإنساني ولا يوجد أي إنسان مجبور ليكون معصوماً. وعلى هذا فالطاعة في حد المعصية، لها جذور في محبة الله وعشقه.
ب ـ محبة من الطرفين وغفران الذنوب
إن الطّاعة ـ التي هي من آثار محبّة الله والتي تتجلى في طاعة حبيبه ـ ومحبوبية الله وغفران الذنوب:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31)،
تستتبع لذّة المناجاة والقرب إلى الخالق:
«وإذا استقام على بساط الأنس بالمحبوب مع أداء أوامره واجتناب نواهيه وصل إلى روح المناجاة والقرب»(11).
يتحدث القرآن الكريم عن الجواب على اليهود والنصارى الذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة: 18). وعلى هذا الأساس فإن أحباب الله لا ينالهم العذاب.
نُقل عن رسول الله(ص) قوله: «إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له»(12).
ومعنى الحديث الشريف أن العبد إذا وُفق لتبعية حبيب الله(ص) وأصبح محبوباً لله، عند ذلك سيهيئ الله تعالى له الأرضية لاجتناب المعاصي وسيقدم له وسيلة الخروج منها أي التوبة. فالتوبة تؤدي إلى زوال المعصية السابقة كما أن الإسلام يزيل تبعات الكفر السابق: «الإسلام يجبّ ما كان قبله»(13).
ج ـ حيازة سمع الله وبصره
عندما يصبح الشخص محبوباً لله تعالى، أصبح الله تعالى في مقام الفعل هو المجرى الإدراكي والتحريكي له:
«... فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها»(14).
من الواضح أن الأعضاء التي يكون لها هكذا نسبة مع الله تعالى، فإنها لن تقترب من المعصية.
وبعبارة أخرى أوضح الرسول(ص) أن نتيجة المحبة الإلهية هي الواعظ الداخلي الذي يأمر الإنسان وينهاه ويمنعه عن الاقتراب من القبائح،
يقول الرسول(ص): «إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه»(15).
أما أتباع الشيطان الذين وقعوا في فخه والذين هم ليسوا من محبي الله تعالى، فقد أصبح الشيطان مسلَّطاً على كافة مجاريهم الإدراكية والتحريكية:
«اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً واتخذهم له أشراكاً فباض وفَرّخ في صدورهم ودبّ ودرج في حجورهم فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم... ونطق بالباطل على لسانه»(16).
من الواضح أن كل عمل تقوم به هكذا جوارح لن يكون شيئاً آخر سوى المعصية.
د ـ معيار الإيمان والكفر
إن الأعضاء والجوارح المنسوبة والمتعلقة بالذات الإلهية المقدسة، ليست لا تقترف الذنب فقط، بل كل الأعمال التي تقوم بها تتخذ صبغة إلهية؛ فتتحد مع الأسماء والصفات الإلهية حيث تصبح مظهر الحب والبغض الإلهيين.
لذلك جاء في الحديث القدسي: «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» (17).
وفي مرحلة أعلى يصبح الحب والبغض لهم معياراً للإيمان والكفر.
«لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قُضي فانقضى على لسان النبي الأمين(ص) أنه قال: «يا علي! لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق»(18).
ويشهد على هذا الكلام ذاك الرجل الأسود الذي أجرى الإمام أمير المؤمنين(ع) الحد عليه فقطع يده. هذا الرجل لم يحمل حقداً على الإمام رغم ما حصل، بل حمل يده معه وبدأ يردد صفات الكمال التي يمتاز بها أمير المؤمنين(ع)، وعندما اعترض عليه ابن الكواء الخارجي أوضح له أن حُبّ أمير المؤمنين قد خالط لحمه وجلده (19).
ونقل عنه(ص): «من أحبنا أهل البيت فليحمدِ الله على أول النعم،
قيل: وما أول النعم؟
قال(ص): طيب الولادة ولا يحبنا إلا من طابت ولادته» (20).
الهوامش:
(1) مفاتيح الجنان، دعاء الإمام الحسين(ع) يوم عرفة، ص 477.
(2) المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج 8، ص 6.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 12، ص 380 ـ 381.
(4) مفاتيح الجنان، م. س، دعاء كميل، ص 131.
(5) بحار الأنوار، م. س، ج 91، ص 108.
(6) م. ن، ج 67، ص 18.
(7) م. ن، ص 22.
(8) م. ن، ج 67، ص 15.
(9) مصباح الشريعة، منسوب للإمام الصادق(ع)، ص 120.
(10) مفاتيح الجنان، م. س، دعاء كميل، ص 134.
(11) مصباح الشريعة، م. س، ص 4.
(12) المحجة البيضاء، م. س، ج 8، ص 63.
(13) بحار الأنوار، م. س، ج 6، ص 23.
(14) أصول الكافي، الكليني، ج 2، ص 352.
(15) المحجة البيضاء، م. س، ج 8، ص 67.
(16) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 1، ص 42.
(17) أصول الكافي، م. س، ج 1، ص 144.
(18) نهج البلاغة، م. س، ج 4، ص 13.
(19) بحار الأنوار، م. س، ج 4، ص 281.
(20) م. ن، ج 27، ص 46.
آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي