سماحة الشيخ محمد جعفر الدرازي .. : حياة الأئمّة ( عليهم السلام ) حافلةٌ بالأحداث والوقائع ، ـ نقف وقفةً نستلْهِم منها بعض الدروس والعبر ؛ علّنا نقف على بعض الجوانب التي كنّا غافلين عنها فيما مضى .
الإمام الجواد ( عليه السلام ) عاصر شطراً من حياة الأمين ، وقسماً لا بأس به من حياة المأمون ، وسنتين من حياة المعتَصِم ، والتي كانت نهاية حياته الشريفة على يده الأثيمة ، وعلى كلّ حالٍ ، بماذا تميّزت حياة الإمام ( عليه السلام ) ؟ والجواب :
* أوّل شيءٍ :
تسلُّمه منصب الإمامة في سنٍّ مبكِّرة جداً ، هي بين السابعة والثامنة ، وهي سنٌّ صغيرةٌ جداً بمقاييسنا البشرية القاصرة ، بينما بمقاييس الله نرى الأمر مختلفاً ، فإنّه يقول : ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) ، فهذا عيسى ( عليه السلام ) ، ويحيى ، وإبراهيم ، تنطبق عليهم الآية الآنفة الذكر .
فمسألة السنِّ ليست هي المِقياس الأساس في مسألة التقديم ، بل المعوّل على الكفاءة والجدارة . ففي الكافي ، ج1 ، ص321 ، كما نقل بحار الأنوار : عن محمّد بن الحسن بن عمّار ، قال : كنت عند عليّ بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة ـ وكنت أقمت عنده سنين أكتب عنه ما سمع من أخيه ، يعني أبا الحسن ـ إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا المسجدَ ، مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فوثب عليّ ابن جعفر بلا حِذاء ولا رداء ! فقبّل يده وعظّمه ، فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا عمّ اجلس رحمك الله ؟ فقال : يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم . فلما رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه ، جعل أصحابه يوبّخونه ، ويقولون : أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل ؟ فقال : اسكتوا ! إذا كان الله عزّ وجلّ – وقبض على لحيته – لم يؤهِّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، أُنكر فضله ؟! نعوذ بالله ممّا تقولون ، بل أنا له عبدٌ .
وهذه القضية تدلّل على مدى جدارة الإمام ( عليه السلام ) باعتراف عليّ بن جعفر عمّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) وهو رجلٌ عالمٌ فقيه ، وتدلّل أيضاً على احترام أصحاب الكفاءات والفضل .
* ثانياً :
أوْلَى الإمام ( عليه السلام ) الجوانب الفكرية والعلمية قسطاً وافراً ، أي إنّه قام بالتدريس والردِّ على الشُبهات العقائدية التي كانت منتشرة في الأمّة آنذاك ، وقام بتعليم الفقه وعلوم الشريعة ، حتى قيل أنّه قد ورد عليه جماعة من الشيعة وسألوه في مجلسٍ واحدٍ ثلاثين ألف مسألةٍ ! .
وقصّته مع يحيى بن أكثم في مجلس المأمون حينما أراد أن يسأل الإمام سؤالاً تعجيزيّاً ، فقال له : ما تقول ـ جعلت فداك ـ في مُحرِمٍ قتل صيداً ؟
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( قتله في حلٍّ أو حرمٍ ، عالماً كان المحرمُ أو جاهلاً ، قتله عمداً أو خطأ ، حرّاً كان المحرم أو عبداً ، صغيراً كان أو كبيراً ، مبتدئاً أو معيداً ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد أم من كِبارها ، مصرّاً على ما فعل أو نادماً ، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار ، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً ؟ ) .
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، فهذه القصّة معروفةٌ لدى غالب الناس .
وهذا يدعونا إلى التوجّه اقتداءً بفعل الإمام ، وكذلك بقية الأئمة ( عليهم السلام ) ، لمسألة الجوانب العلمية ؛ فقيهةً وعقائديةً وغيرهما .، وقد يقول قائلٌ : وما حاجتنا لهذه الأمور حالياً ، فهناك ما هو أهم منها ؟
والجواب : الإمام ( عليه السلام ) كان في عصرٍ حرجٍ جداً من الناحية السياسية ، فكانت هناك ثوراتٌ وانتفاضاتٌ ، ولكن لم يترك هذه الجوانب بالإضافة لقيامه بالأعباء والمسؤوليات الأخرى ، هذا بالإضافة إلى أنّ هذه الجوانب هي الأساس والبناء للجوانب الأخرى ؛ فأنت تحتاج إلى جانبٍ عقائديٍّ ، وإلاّ ما معنى هذا التديّن والانقياد للأئمّة ( عليهم السلام ) ؟؟ وأنت تحتاج في كل تحرّكٍ أن تعرف الحكم الشرعيَّ فيه وإلاّ ستقع في المعاصي والمحرَّمات من حيث لا تشعر ، والتقليل من هذا الجانب من البعض يدلّ على غفلةٍ وجهلٍ مركبٍ !!
* ثالثاً :
قول كلمة الحقّ حتى لو كانت ثقيلةً ومرّةً ، ففي قصّة مفصّلةٍ ذكرها صاحب البحار نقلاً عن كتاب الاختصاص ، وتدور أحداثها حول عمّ الإمام الجواد عبد الله بن موسى ، وكان شيخاً كبيراً نبيلاً ، وقد دخل على الإمام وكان هناك في المجلس جماعة كثيرة من الشيعة من كل بلد ؛ جاءوا لرؤية الإمام بعد وفاة الإمام الرضا ( عليهما السلام ) ، فسأل رجل من المتواجدين في المجلس عمّ الإمام ، فقال : أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمةً ؟ فقال : تقطع يمينه ويضرب الحدّ ، فغضب الإمام أبو جعفر( الجواد) ( عليه السلام ) ثمّ نظر إليه ، فقال : ( يا عمّ ، اتق الله ؛ إنّه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجلّ فيقول لك : لِمَ أفتيتَ الناس بما لا تعلم ؟! فقال له عمّه : يا سيدي ، قال هذا أبوك صلوات الله عليه ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إنّما سُئِل عن رجلٍ نبش قبر امرأةٍ فنكحها ، فقال أبي : تقطع يمينه للنبش ، ويضرب حد الزّناء ، فإنّ حرمة الميّتَةِ كحُرمة الحيّة ) . فقال : صدقت يا سيدي ، وأنا أستغفر الله .
فهنا يلاحظ أنّ الإمام بالرغم من وجود جمع كبير في المجلس ، وأنّ المجيب خطأً هو عمّ الإمام ، لم يمنعه من الردّ عليه وتصحيح اشتباهه ، مع ملاحظة خطاب العمّ للإمام بـ ( سيدي ) ؛ ممّا يحتوي على الاحترام التام ، وكذلك استغفاره ممّا صدر منه مع كِبَر سنّه ، وجلالة قدره ، وأَمام الملأ كان هذا الاستغفار والاعتراف بالخطأ ، وهذا درسٌ لنا من حياة الإمام ؛ بعدم الجرأة على الفتوى بغير علمٍ ، والاعتراف بالخطأ ، وتقديم صاحب الكفاءة لكفائته في مجال اختصاصه ، وعدم الجرأة على الله سبحانه وتعالى …
هذه بعض الشذَرات من حياة الإمام الجواد ..أسأل الله التوفيق فيما ذكرته ..
سماحة الشيخ محمد جعفر الدرازي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين