في معنى الرّوح
روي عن الإمام الصادق«عليه السلام» أنّه قال:
(تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) المَلائِكَةُ فِي هَذَا المَوْضِعِ المُؤمِنُونَ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ عِلْمَ آلَ مُحَمَّد«عليهم السلام» وَالرُّوحُ رُوحُ القُدُسِ وَهِي فَاطِمَةُ«عليها السلام» .
تُرى فما المقصود بالروح؟
وما هي الأدلّة الّتي ينبغي أن نسوقها في إثبات المراد؟
في الحقيقة هذا اللفظ واقع في كتاب الله، وصادر من جهة الحقّ تعالى، لذا يستدعي بحثاً تامّاً، حتى نصل من خلال القرآن الكريم لتفسير الروح بما بيّنا ونبيّن إن شاء الله.
القرآن الكريم يدعونا إلى التأمّل الدقيق، وهذه الكلمة احتلّت مساحة مهمّة في كتاب الله المجيد، وشغلت واقعاً وحيّزاً كبيراً في مفاهيم القرآن الكريم لتبيّن لنا أمراً هاماً.
لماذا يقول القرآن: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالْرُّوحُ فِيهَا)؟
فالأمر النازل عبارة عن شيئين:
الأوّل: الملائكة.
الثاني: الروح.
العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فعندما يقول إنّ الملائكة والروح هي الّتي تتنزّل فإنّه يريد أن يقول إنّ هناك صنفين: صنفٌ مسمّى بالملائكة، وصنف مسمّى بالروح، قد بيّن الأئمة صلوات الله عليهم، ذلك وقالوا: لو كان المراد بالروح هو جبرائيل، لما صحّ العطف، لأنّه يريد أن يبيّن قسمين وصنفين، والثابت أنّ جبرائيل من الملائكة، والقرآن يقول: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ) بمن فيهم جبرائيل (وَالْرُّوحُ).
وعلى هذا لابدّ أنّ الروح لها هوية ثانية تختلف تماماً عن هوية الملائكة، فما هي هذه الهوية، وما هي حقيقتها؟
هذا مرادنا، نريد أن نصل معكم إلى جولة قرآنية لمعرفة الأسرار النورانية لأئمتنا عليهم الصلاة والسلام; لأنه إذا حلّلنا المعنى، واكتشفنا الحقيقة سوف يبرز لنا سرّ في أُفق الولاية عجيب، فأوّل شيء لابدّ منه هو بحث الآيات المباركة.
الآن أنا استعرض الآيات الّتي تعرّضت إلى بيان موقف الروح، ليس الروح العاديّة، وإنّما الروح الّتي تتنزّل في ليلة القدر، إذ لها شأن عظيم، ومنزلة عظمى لا يرقى إليها أحد إلاّ أهلها.
قال تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الْرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا).
لاحظ دقّة التعبير إذ أسند القيام إلى الروح، وقدّمها على الملائكة، وقوله تعالى: (يَقُومُ) يشعر هذا التعبير أنّ هناك قياما وحركة، حيث تقوم الروح والملائكة صفاً، فهي على هذا لها مقام الإشراف على أهل المحشر جميعاً، هذه الروح لها مقام الوقوف بين يدي الله أمام الخلائق أجمعين.
فالآية الكريمة تبيّن أنّ للروح شرافة الوقوف، وشرافة القيام (يَوْمَ يَقُومُ الْرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا) هنا أسند لها الحركة، وبالتالي خرجت عن كونها من دائرة الواجب المطلق، يعني ليست قضية أزلية، وإنّما هي مخلوق.
وقال تعالى في آية أخرى: (يُلْقِي الْرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ).
الروح في هذه الآية المباركة ملقاة من أمره على من يشاء، الله يشاء مجموعة، صفوة خاصّة من العباد، اصطفاهم وعلاّهم بتعليته، وسما بهم إلى حيث يشاء، وأقامهم مقامه.
التعبير دقيق، فالروح تلقى على من يشاء من عباده، لتكون مع هذه العوالم (عَلَى مَن يَّشَآءُ) لا على كلّ شخص.
قال تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ).
تنزيل الملائكة بمن يتحقق؟
الروح هي الواسطة في تحقيق الإنزال، يعني الروح هي الواسطة في تحقيق النزول والهبوط من أمره على من يشاء من عباده، هنا التنزيل على من يشاء ولاحظ تنزّل الملائكة والروح، هناك ذكرت تتنزل في ليلة القدر على المطلق من الحجج، على المعصوم في زمانه، والمعصوم في زماننا هو الحجّة المطلق صلوات الله عليه وعلى آبائه. إذن، لاحظ إنّه فى كلّ ليلة قدر تتنزّل الملائكة على من يشاء الله تعالى من عباده، هنا يقول: تتنزّل الملائكة بالروح على من يشاء من عباده.
بعض التفاسير تقول:
إنّ الروح، جبرائيل، ونحن نفينا هذا المعنى; لأنّ جبرائيل من الملائكة.
وهناك تفسير يقول: إنّ الروح شيء وخلق أعظم من جبرائيل!
فما هو هذا الشيء الأعظم من جبرائيل؟
القرآن الكريم يقول: إنّ الروح حقيقة وجوديّة فرديّة شخصية مشار إليها، والروح ليس شيئاً ملائكياً، وإنّما المراد بالروح شيء خارجي، قال تعالى:
(وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) لاحظ، أطلق كلمة روح على عيسى على نبينا وآله «عليه السلام» ولذلك يصبح عيسى روح الله، كلمة الله.
إذن، هنا الروح صارت عبارة عن وجود شخصي حقيقي خارجي مسمّى بعيسى بن مريم، فعيسى روح.
الروح قرآناً لا تطلق على المَلك، وانّما المراد هنا بالروح هذه الشخصية المشار إليها بعيسى بن مريم.
فكلمة الروح صحّ إطلاقها على عيسى بن مريم، فإذا صحّ ذلك قرآناً، ترى فماذا تقول روايات أهل البيت«عليهم السلام»؟ الروح المتنزّل من هو؟
هذه الّتي تتنزّل وتقدّم كلّ التقارير الربّانيّة، وكلّ الملفّات النورانية إلى الإمام الحجّة«عجل الله فرجه» وكلّ الملفّات ما كتب فيها من شرّ، وما كتب فيها من خير، كلّ هذا بين يدي الإمام، تعظيماً لمقام الروح، وتعظيماً لمقام النازل عليه، وهو الإمام الحجّة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإذا صحّ قرآناً أنّ الروح تطلق على شخص اسمه عيسى بن مريم«عليه السلام» أفلا يصحّ إطلاقها على فاطمة الزهراء«عليها السلام» الّتي قال بحقّها الإمام العسكري«عليه السلام»:
نحن حجّة الله على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجّة علينا.
فالمراد بالروح في هذه السورة، هي فاطمة الزهراء«عليها السلام» بل هي الروح الأعظم، والاسم الأتمّ، والمجلى الأكمل; لأنّ عيسى كلمة، بينما هي الكلمة التامّة، عيسى روح، بينما هي الروح الأعظم، ولهذا يوم الحشر يستبين لك هذا المعنى:
روى الصدوق بإسناده إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر«عليهم السلام» قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: قال رسول الله«صلى الله عليه وآله»:
إذا كان يوم القيامة تقبل ابنتي فاطمة على ناقة من نوقِ الجنّة، مدبّجة الجنبين، خطامها من لؤلؤ رطب، قوائمها من الزمرد الأخضر، ذنَبُها من المسك الأذفَر، عيناها ياقوتتان حمراوان، عليها قبّة من نور يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها داخلُها عفو الله، وخارجها رحمة الله، على رأسها تاج من نور، للتاج سبعون ركناً، كلّ ركن مرصّع بالدرّ والياقوت، يضيء كما يضيء الكوكب الدرّي في أُفق السماء، وعن يمينها سبعون ألف ملك، وعن شمالها سبعون ألف ملك، وجبرئيل آخذ بخطام الناقة، ينادي بأعلى صوته:
غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد.
فلا يبقى يومئذ نبيّ ولا رسول ولا صدّيق ولا شهيد، إلاّ غضّوا أبصارهم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد، فتسير حتى تحاذي عرش ربّها جل جلاله، فتزجَّ بنفسها عن ناقتها، وتقول:
إلهي وسيّدي! أُحكم بيني وبين من ظلمني، الّلهم أُحكم بيني وبين من قتل ولدي!
فإذا النداء من قبل الله جلّ جلاله: يا حبيبتي وابنة حبيبي، سليني تعطي، واشفعي تشفّعي، فوعزّتي وجلالي لا جازني ظلم ظالم.
فتقول: إلهي! ذُرّيتي وشيعتي وشيعة ذُرّيتي، ومحبّي ومحبّي ذرّيتي.
فإذا النداء من قبل الله جلّ جلاله:
أين ذرّية فاطمة وشيعتها ومحبّوها ومحبّو ذرّيتها؟
فيُقبلون وقد أحاط بهم ملائكة الرحمة، فتقدُمهم فاطمة حتى تُدخلهم الجنّة.
هذه منازل ليس فيها مبالغات ولا تجاوز عن الحدّ، فهذا إكرام من الله لأولياء الله صلوات الله عليهم، ولشيعة آل الله.
ولعلّ ما ينبغي ملاحظته هنا أنّ الزهراء سلام الله عليها، في المحشر هي في الوسط، إذ هي المحور، وكذلك في المباهلة أيضاً، عندما نزلوا الوادي، كان رسول الله«صلى الله عليه وآله» محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وخلفه فاطمة، وخلف فاطمة عليّ، فقال رسول الله«صلى الله عليه وآله»:
إذا دعوت على هؤلاء في أن تحترق الأرض بهم، ويضطرم الوادي عليهم ناراً ويتأجّج تأججاً، فإذا دعوت فأمّنوا، يعني، يقولوا: آمين.
ترى هل إنّ رسول الله«صلى الله عليه وآله» يحتاج إلى كلمة آمين؟
رسول الله كلمته نافذة في السماوات والأرضين، لكن أراد أن يبيّن للخلق أجمعين أنّ شرط الإجابة قول فاطمة آمين.
وجدير بالذكر فإنّه من الممكن أن يكون المحور، والوسط، والمركز إشارة إلى الروح، والروح تشير إلى المركز، لأنّ البدن عبارة عن قفص يتكوّن من عظم ولحم ليس إلاّ، والحقيقة الّتي تبعث فيه الحركة والنهوض هي الروح، وبمجرّد خروج الروح يصبح البدن جثّة هامدة.
فالروح هي الباعثة لنهضة الموجود، وآمين فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، هو الباعث في هذا الوجود الحركة والنهضة!!
قال خاتم الأنبياء«صلى الله عليه وآله»:
«إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها».
يعني: يحل الغضب الإلهي لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها، مرّة يكون التعبير يرضى لرضاها، ويغضب لغضبها، يعني: رضا الله بعد رضا فاطمة، وغضب الله بعد غضب فاطمة; لأنّها المحور في عوالم التكوين، ومرّة ترضى لرضاه، وتغضب لغضبه، يعني، أنها إذا رضيت فبلا أدنى إشكال ترضى لما يُرضي الله، وإذا غضبت تغضب لما يُغضب الله، إذن، هنا نستكشف من هذه المجموعة أنّ عرصة المحضر العظيم، وعرصة الدنيا، وقيام الوجود كلّه هو بالواسطة الذي يطلق عليه القرآن الكريم «الروح».
هذه هي الغنيمة _أيّها الموالي_أنّك تعرف سرّ الروح من القرآن الكريم. وأنّ الروح في الكتاب المبين إنّما هي قرينة المرتضى صلوات الله عليه، وأزيدك أيضاً بأنّ الروح هي بمعنى الكتاب لأنّ الكتاب هو الذي يبعث في العالمين الروح، وكذا فاطمة الزهراء صلوات اللله عليها، تبعث في العالمين الروح.
الإنسان عندما ينظر في أحوالها يستكشف بأنّ الروح ليست رمزاً إلى شيء جبرائيلي، فهذا قول لا دليل عليه، وأمّا الدليل الحقّ مهما تتصور من معنى فلا يمكن أن يفوق في واقعه آل محمّد صلوات الله عليهم، هناك موقف سوف نراه كلّنا يوم المحشر العظيم يدلّ على عظمة محمّد وآل محمّد«عليهم السلام».
روى ابن عباس، عن أمير المؤمنين«عليه السلام» أنّه قال:
دخل رسول الله«صلى الله عليه وآله» ذات يوم على فاطمة«عليها السلام» وهي حزينة، فقال لها: ما حزنك يا بنيّة؟ قالت: ذكر المحشر، ووقوف الناس عراة يوم القيامة.
فقال: يا بنيّة، إنّه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل عن الله عزّ وجلّ... وكان فيما أخبرها أن قال: "إنّ الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، فتستوي بهم الأقدام، ثمّ ينادي مناد من تحت العرش يسمع الخلائق:
غُضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد«صلى الله عليه وآله» ومن معها، فلا ينظر إليك يومئذ إلاّ إبراهيم خليل الرحمن، وعليّ بن أبي طالب، ويطلب آدم حوّاء فيراها مع أمّك خديجة أمامك، ثمّ ينصب لك منبر من النور فيه سبع مراق، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة، بايديهم ألوية النور، ويصطفّ الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منك عن يسارك حوّاء وآسيا، فإذا صرت في أعلى المنبر أتاك جبرئيل، فيقول لك:
يا فاطمة، سلي حاجتك.
فتقولين: ياربّ، أرني الحسن والحسين.
فيأتيانك وأوداج الحسين تشخب دماً وهو يقول:
يا ربّ، خذ لي اليوم حقّي ممّن ظلمني..."
أقول: سادتي! رأس الحسين بين يدي زينب صلوات الله عليهما، محمولاً على رأس رمح يجال به من بلد إلى بلد، وهي تنظر إلى رأس أخيها، وتنادي:
واحسيناه! واحسيناه!
يوم المحشر رأس الحسين «عليه السلام» بين يدي فاطمة صلوات الله عليها، على حالته الّتي حملته فيها زينب«عليها السلام» يوم الطف.
فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم
منقول للفائدة