اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ستلهم السيد حسين الصدر فكره في النفس الإنسانية من القرآن الكريم. إنّه يتحدّث عن النّفس الإنسانية قرآنياً، ويبتعد جهد إمكانه عن الصياغة الفلسفية والكلامية للنّفس، وذلك انسجاماً مع المسعى التربوي والتهذيبي الذي يحرص عليه. إنّ النّفس في البحوث الفلسفية والكلامية ذات منحى تجريدي لا يمتّ بصلةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ إلى المهمّة التربويّة، فيما القرآن يضع النّفس كهدفٍ وغايةٍ، بل موضوعه الجوهري هو النفس الإنسانية، ثمّ تربية هذه النّفس وتصعيد وتيرة الخير في أعماقها. وللسيّد حسين الصدر جولة عميقة وممتعة مع النّفس الإنسانية من خلال معايشته الحرّة والصادقة مع تراث الإمام السجّاد، علي بن الحسين عليهما السلام، إذ قام بتفسير وشرح تراث السجّاد الروحي، بشكلٍ مركّزٍ وبسيطٍ وهادفٍ.
لقد كانت له سياحة حرّة مع مناجاة الشاكين إلى الله عزّ وجلّ، من محبّين وتائبين وعارفين وساجدين، مستلهماً في ذلك كلمات هذا الإمام الروحي الجليل، الذي أتحف الفكر البشري بأدعيته الرائقة الشفّافة، التي تُبرهن بكلّ بساطةٍ على سموّ روحه وصفاء ضميره، بل تُبرهن أنّ هذا الإمام مسدّدٌ من الله، مؤيّدٌ منه تبارك وتعالى. ولكن ينبغي ألا ننسى أنّ القرآن الكريم كان الملهِمَ الجوهريّ للسيّد حسين الصدر، برغم أنّ مادّة الحديث كانت انطلاقاً من الصحيفة السجادية الرائعة.
يتحدّث القرآن المجيد عن النّفس، ذلك العالم الغريب المدهش، بوصفها عالم صراعٍ رهيبٍ بين قوى متعدّدة ومتضاربة.. يتحدّث الكتاب العظيم عنها كعالمٍ مضطرمٍ بالصراع، متشابك القوى، متعاند العناصر. ولم يتحدّث عن النّفس كما لو أنّها صفحة زجاج شفّافة مصقولة صافية. إنّ أيّ حديث عن النّفس بغير هذه الرؤية يُدخلنا في خيال من الأمنيات والتّصورات. لقد كان القرآن صريحاً بحديثه عن النّفس الإنسانية. يقول السيد الصدر:"النّفس وما أدراك ما النّفس ...النّفس مَجمَع الأصناف، ففيها الخير وفيها الشر، يعني فيها الاستعداد للخير والاستعداد للشرّ"، (كتاب النفس الإنسانية/ ص23). وبالفعل فإنّ كلّ ما كتبه السيد حسين الصدر عن النّفس الإنسانية وتخليقها وتحريرها وتهذيبها ينطلق من هذه النّقطة الجوهرية بالذّات. ليس صعباً اكتشاف القاعدة الخلفية لهذه الانطلاقة، فإنّ القرآن المجيد يقول:"ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها". هذه هي البداية حقاً؛ ومعنى الإلهام هنا، كما يرى السيد حسين الصدر، هو" بمعنى أنه جعل فيها القابلية والاستعداد" (ص 24)، الاستعداد للخير والشّر، الكرم والبخل، الِبرّ والعقوق، الشجاعة والجبن، وهكذا مع كلّ ثنائيّات السّلوك الإنسانيّ.
يواصل السيد حسين الصدر تصويره للنّفس الإنسانيّة، فيقول: "النفس فيها الاستعداد لأمرين، استعدادٌ للاستقامة واستعدادٌ للانحراف ... الله وضع هذا الاستعداد في النّفس حتى تُؤهّل للثواب والعقاب" (ص24)؛ ويزيد ذلك توضيحاً بقوله: "إن للإنسان غرائز متعدّدة وميولاً متنوعة .. معقّدة وسهلة .. مركّبة وبسيطة .. فرديّة واجتماعيّة .. صحيحة وفاسدة ..." (التربية في الدين ـــ ص 79) .
إذاً، هذه هي النّفس الإنسانيّة، صراعٌ وسجالٌ داخليٌّ، والمفروض هو معالجة هذا الصّراع الرهيب. من الواضح أنّ السيّد حسين الصدر يأخذ بأيدينا خطوةً خطوةً لكي تكتمل الصّورة عن النّفس، بغية التّعامل معها بدقّةٍ وموضوعيّةٍ. وباسترجاعٍ بسيطٍ لما يتميّز به الإنسان عن بقيّة المخلوقات يتضح إنّه مخلوقٌ مكلّفٌ؛ ومركز هذه المراجعة هي نفسه بقواها المتصارعة كما بيَّن السيّد الكريم. وفلسفة خلق الشيطان تأتي في خضم هذه المعركة القاسية التي ميدانها النّفس كما هو واضح من النّصوص القرآنية الكريمة، وفي ذلك يأتي حديث السيد الصدر، فيقول:
"... الشيطان يستغلّ نقاط الضعف؛ هي نقطةٌ، ولكنّه يستغلّها ويكبّرها ويضخّمها ويوسعّها ... فيرى نقطة الضعف الموجودة في النّفس من أيّ الجهات، من جهة المال فيوسّع هذه النقطة ويحلّي لك المال، ويدفع الإنسان لأن يكسب هذا المال من حلِّه وحرامه، من غصبٍ وكذبٍ وغشٍّ ومال يتيمٍ. إن كانت نقطة الضعف جنسا فيسهّل له الجنس ... إن كانت نقطة الضّعف الجاه يُسهِّل له الجاه وهكذا ...، على قاعدة قوله تعالى في صورة "ص"، في الآية 82 { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}...(ص38)". إذاً كيف الخروج؟!
الجواب في الترويض، ترويض النّفس على الخير. ومن هنا يأتي دور الإرادة، إذ ينبغي الحذر من الانقياد مع النّفس "المفروض أنْ لا نأتمن أنفسنا! بمعنى أن لا نعطيها القيادة، النّفس ـــ دائماً ــــ مفروضٌ أن تكون مُقادة وليس قائدة" (ص 42). وهي تكون مُقادة بالعلم والعقل والتّفكير السليم، فهذه الطرق تُؤدّي إلى الله. نعم، ينبغي أن تكون ثقتك بنفسك عالية ولكن مع الحذر، مع اليقظة، مع الانتباه "كن أوثق ما تكون بنفسك، أحذر ما يكون من خداعها"، كما يقول الإمام عليّ عليه السلام (ص 43).
وخلاصة الأمر هنا هي أن نربّي النّفس، أي أن نوطّنها على مخالفة الهوى وممارسة العمل الصالح، وتلك هي معادلة التقوى، وسيأتي حديث السيّد عن التّقوى في فصلٍ قادمٍ.
النفس إذاً هي ذلك الوعاء الذي هو مستقرُ صراعٍ عنيفٍ بين الخير والشر، وهي كذلك لأنّ الإنسان مخلوقٌ مكلّفٌ، ولكي ينجح في التكليف عليه أن يروّض النّفس ويقودها، وذلك يكون بالتّقوى، وواسطته الإرادة القويّة؛ ولكن هل يتمّ كلّ ذلك من دون معرفة النّفس مسبقاً؟
إنّ معرفة النّفس عمليّة يجب أن تُواكب كلّ هذا الجهاد المعنويّ العظيم، بدايةً واستمراراً، معرفة قواها ومعرفة كيفيّة ترويضها ومعرفة أمراضها ومعرفة ما يسرّها وما يحزنها. إنّ معرفة النّفس عالم رحيبٌ، وقد قالت الحكمة:"من عرف نفسه عرف ربَّه". هذه النقطة يجلوها السيد حسين الصدر في ضوء المأثور عن أهل البيت عليهم السلام. نقرأ في هذه المأثورات كما ورد جمعها في كتابه "النّفس الإنسانية" وهو القسم الأوّل من سلسلة كتابه الكبير "مع الشاكين في مناجاتهم":
- "من عرف نفسه عرف ربّه".
- "أفضل العقل معرفة المرء نفسه، فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضلّ".
- "كيف يعرف غيره من يجهل نفسه".
- "عجبت لمن يرشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها".
- "نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة نفسه".
- "من جهل نفسه تحيّر".
- "من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم".
- "من عرف نفسه توحّد ... ومن عرف نفسه تجرّد ... ومن عرف الناس تفرّد ... ومن عرف الدنيا تزهّد".
يتسلسل السيد الصدر مع هذه المأثورات ليخلص إلى أنّ النّفس هي الميدان الأوّل، وإن كان الإنسان قادراً عيها فسيكون على غيرها أقدر؛ ومعرفة النّفس هي الطريق إلى التّزكية والنقاء والوصول إلى الله عزّ وجل ، بل معرفة النّفس هي بداية معرفة الأخر، ومعرفة النّفس عمليّة مستمرّة وليست معرفة نهائية، ذلك أنّ عالم النّفس عالم رحيب؛ ومن هنا يقول السيد حسين الصدر:"إنّ معرفة النّفس هي معرفة كلّ شيء لأنّها هي أوّل ما تقود إلى معرفة الله ومعرفة الله هي معرفة كلّ شيء"(ص79).
هذه المعرفة ليست طبيعية كما يرى بعضهم، بل هي معرفة روحيّة، معرفة ذاتيّة، معرفة نقاط القوة ونقاط الضعف، ما يقرّب إلى الله وما يبعد عن الله، فإنّ الإنسان الذي يتغلّب على نقاط ضعفه في نفسه يتخلّق بنفس تتعامل مع كلّ شيء في الوجود على أنّه آية من آيات الله، والعكس بالعكس؛ فهي هنا ليست معرفة فيزيائيّة أو رياضيّة أو تاريخيّة، بل هي معرفة ذاتٍ أولاً وقبل كلّ شيء. يؤكّد القرآن الكريم أنّ النّفس برغم كونها ميدانَ صراع بين الخير والشرّ إلا أنّها صُنِعت للخير، أي لتكون خيّرة؛ لتكون مطمئنّة؛ ذلك قدرُ الله عزّ وجل، وما علينا سوى الجهاد على هذا الطريق، وهو الجهاد الأكبر بنصّ الحديث الشريف؛ وكيف تخلق الاستقامة من دون جهادٍ؟ وكيف تجاهد دون أن يكون هناك المضاد أو العائق؟ وهكذا تتّضح المعادلة.
والنّفس المطمئنة هي:"نفسٌ عابدةٌ لله عزّ وجلّ، بكلّ ما تُعطي كلمة العبودية من معنى، وأهمّ ما تُعطيه العبودية هو الرضا" (ص209). هذه هي النتيجة النّهائية من تغليب التقوى على الهوى، تغليب الخير على الشرّ في داخل النّفس. إنّها النّفس المطمئنّة، وفيها يقول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}. أن تكون إنساناً إلهياً هو أن تكون نفسك مطمئنّة، أن تتهاوى داخلك النّفس الأمّارة بالسّوء، أن تحاسب نفسك باستمرار كي يتهاوى داخلك الشيطان. إنّها خطوات واضحة، خطوات الوصول إلى مرحلة النّفس المطمئنة، حرص السيد حسين الصدر على إيضاحها لنا كي نؤدّي رسالتنا ونؤدّي واجبنا. يتكلّم السيّد حسين الصدر عن النّفس المطمئنّة ليس كنتيجة يجب أن تحصل، بل أيضاً عن الطريق إلى هذا المكسب الكبير، ويبدأ الطريق من خلال العهد المتجدّد مع الله، أن نكون مع الله عهداً متجدّداً، ثمّ بمراقبة هذه النّفس في ما خانت أو انحرفت عن مقتضى ومستحقّات هذا الحال، ثمّ محاسبتها في ما كان ذلك "يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تُحاسب". ويُشير السيد حسين الصدر إلى ضرورة دوام هذه المحاسبة التي هي من لوازم دوام المراقبة. هذا تلخيص شديدٌ لموقف السيد حسين الصدر من النّفس الإنسانية، هويةً وخصائصَ وتكويناً وتربية وتنمية وتهذيباً ، استفادها من كتاب الله وسنة رسوله وأحاديث أهل البيت وأدعية السجاد وبعض كلمات العرفاء المسلمين، فضلاً عن إبداعه الشخصي.
حسين الصدر والتجربة السجّادية
من مراجعة بسيطة لتراث السيّد حسين الصدر في جهاده الفكريّ والعمليّ أخلاقياً نلمس بوضوحٍ أنّ السيّد متأثرٌ بشكل مذهل بتجربة الإمام علي بن الحسين عليهما السلام .
ويُخطئ من يرى أن تجربة السجّاد كانت تعبّر عن حالة شخصية، أي كانت انعكاساً لوضعٍ خاصٍّ كان يمرّ به علي بن الحسين عليهما السلام. فقد أشيع أن نزعة السجّاد الإبتهالية الراقية، والتي كانت من أبرز معالم شخصيّته، كانت تعبيراً عن عزلته الروحيّة والسياسيّة ، وكانت تعبيراً عن تجربةٍ شخصيّةٍ بحتةٍ!
هذا التصوّر في رأينا لا ينسجم مع شخصيّة علي بن الحسين كإمامٍ طاهرٍ مسؤولٍ عن حمل الأمانة الربّانية المقدّسة. لقد كان الدّعاء السجّادي تعبيراً عن حال أمّة بكاملها، وليس تعبيراً عن حالٍ فرديّة متحيّزة لذاتها بهذا التّصور الأنانيّ! لقد كان الدعاء السجّادي وثيقة تحليل وإدانة لما كان يمرّ به المجتمع الإسلامي من ظروفٍ صعبةٍ قاسيةٍ، حيث لم تكن بدايات الانحراف عن شريعة الحق قد واصلت فعلها الشنيع وحسب، بل كانت هناك أيضاً عمليات ذبحٍ وقتلٍ وتشريدٍ تطال الأمّة المسلمة على أيدي حكّامها المستبدّين، فشكوى السجّاد هي شكوى الأمّة، ومناجاة السجّاد هي مناجاة الأمّة وتضرّع السجّاد هو تضرّع الأمّة.
ليس من شك في أنّ تلك المجزرة القاسية التي ارتكبها الطغاة بحق الأسرة النبويّة الكريمة كان لها أثرٌ كبيرٌ على توجّه السجّاد الابتهالي، ولكن ليس من شكٍ في أنّ ما كانت تمرّ به الأمّة من محنةٍ فكريّةٍ وسياسيّةٍ قد ترك هو الآخر آثاره على هذا التوجّه السجّادي الجميل. كان الإمام السجّاد (ع) يبكي لمُصاب أبيه، ولكن يبكي أيضاً لمُصاب الأمّة، كان بكاؤه حزناً واحتجاجاً؛ وكانت دموعه شاهدةً على قسوة الزّمن التي هي من قسوة حكامّه الظَلَمة. كانت مشيته المَهيبة تذكيراً بهيبة أبيه وجدّه، وكانت أخلاقه درساً للسّائرين على درب الصّبر ومرضاة الله والاطمئنان إلى عفوه ورضاه.
لقد تعرّض السيّد حسين الصدر إلى ما تعرَّض له جدّه السجّاد عليه السلام على أيدي حكّام عصره، فقرّر أن يسلك ذات الطريق الذي سلكه الإمام، مستعيناً بما أورثه السجّاد من فكرٍ ابتهاليٍّ روحيٍّ، ومن سيرة هادئةٍ هادفةٍ قويّةٍ مشرقةٍ. . ولا يمكن أ ن ينسى العراقيون يوم كان السيّد الصدر يتحدّث عن أجداده وهو يجهش بالبكاء، ويبتهل إلى الله بروحٍ شفّافةٍ، لطيفةٍ، هادئةٍ، مطمئنةٍ، حزينةٍ، فتنشد الناس إليه وإلى خُلقه السامي وروحه الوثّابة بالحياة، الرافضة للظلم والطغيان.
لقد انغمس السيّد حسين الصدر لفترةٍ طويلةٍ، مستثمراً ما يُلهي الطّغاةَ عنه بملاهيهم وجبروتهم وغرورهم ... انغمس في دراسة تراث السجّاد سلام الله عليه، فكان هذا التراث الروحيّ الضخم من الفكر الأخلاقيّ التربويّ الجميل.
لقد شرح لنا دعاء "الشّاكين" للإمام السجّاد، فكان له "مع الشاكين في مناجاتهم، ومع المحبّين في مناجاتهم، ومع العارفين في مناجاتهم، ومع التّائبين في مناجاتهم، وبين الأمل والرجاء ..." وغيرها من الآثار التربويّة المستمدّة من دعاء وتجربة الإمام السجّاد عليه السلام؛ كذلك له كتابٌ بعنوان "دروس أخلاقية" في شرح أدعية شهر رمضان، ممّا يكرّس بشكلٍ مطلقٍ اتّجاه السيّد حسين التربويّ كمنطلقٍ أساسيٍّ في بناءِ الحياة .
رؤيته عن الأخلاق
تحتلّ المسألةُ الأخلاقيّة مكانَ الصدارة في هموم المفكّرين والمصلحين العالميين، لما للأخلاق من دورٍ جوهريٍّ في بناءِ الصرح الإنسانيِّ، ويكفي أن تكون الأخلاق، أو بالأحرى "مكارم الأخلاق"، هي غاية الهدف من إرسال الرسل والأنبياء، على ضخامة المهمّة وتبعاتها ومستحقّاتها بحقّ الأنبياء وأتباعهم بالذات، وفي ذلك قول نبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم:"إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق".
والأخلاق قضيّةٌ داخليّةٌ، تتّصل بالبعد الداخليّ للإنسان. فهي قضيّة ضميرٍ ووجدانٍ قبل أن تكون قضيّة عقلٍ، وإنْ كان أمر تحليلها وبيان فلسفتها قد يتّصلان بالعقل بشكلٍ من الأشكال. وكان للفيلسوف الألماني المشهور "عمانوئيل كانت" قصب السبق في تشييد مذهبٍ أخلاقيّ عقليٍّ، أي إقامة البرهان العقليّ على القيمة الذاتيّة للقيم الأخلاقيّة. (راجع كتابه "دروس أخلاقية" ـــ ص7).
غير أنّ للسيّد حسين الصدر مصادرَه الخاصّة بتشييد فكره الأخلاقيّ. فكان المصدرُ الأوّل هو القرآن الكريم؛ وكان المصدر الثاني هو سنّة النبيّ قولاً وفعلاً وتقريراً، ثمّ روايات ونماذج السلوك الرائعة التي تركها لنا أهل البيت عليهم السلام. ومن هنا نلتقي بشواهد قرآنيّة ونبويّة وإماميّة كثيرة حين نُطالع أعمال السيّد حسين الصدر في مجال الأخلاق.
يرى السيّد الصدر أنّ الإسلام يعترف بـ "الفرد" ولكنّه لا يعترف بـ "الفرديّة"، وينطلق من هذه القاعدة الفكريّة ليطرح لنا تصوّراته عن القضيّة الأخلاقيّة وعن المفردات الأخلاقية في الوقت ذاته.
قبل كلّ شيء فإنّ الإيمان بالفرد دون الفرديّة فكرٌ جديدٌ، وطرحٌ مستحدثٌ، أو في أقلّ تقدير هو تصوّر حيّ، ويحمل الكثير من الإشراق والسطوع.
يقول السيّد : "الإسلام يُؤمن بالفرد، ولكنّه لا يؤمن بالفرديّة، وهو في حال إيمانه بالفرد، يؤمن بحقيقة وجوده، وفي حال إنكاره للفرديّة يرغب في تجنيب الفرد وإبعاده عن مخاطر الفرديّة، التي تتمثّل في الخوف الدائم، والحزن الدائم، والقلق الدائم" (كتاب أخلاق الفرد في القرآن الكريم/ ص8).
أخلاق الفرد في القرآن الكريم، كما يصلُ بنا السيّد الصدر، لا تُنقذ الفرد من حمأة الحزن والقلق والهمّ والتوتر فحسب، بل إضافةً إلى ذلك، تخلق لنا معادلةً جديدةً أو مصطلحاً جديداً، ذلك هو "الفرد الاجتماعي".
فإنّ الكرمَ والشجاعة والعفّة والتواضع والتسامح والتعاون والصبر والحِلم والزهدَ بآفاقه الصحيحة السليمة ... إن كلّ هذه المُثُل، وبالمنظور القرآنيّ، تؤصّل للأنا إيجابيّاً، هي "أنا" اجتماعيّة، وليست "أنا" فرديّة مقيتة، وتوكيدٌ للذات من خلال الاجتماع لا من خلال الذّات نفسها.
يقسِّم السيّد حسين الصدر الأخلاقَ القرآنيّة، إلى قسمين: الأوامر والنّواهي؛ ففي الأوامر تتجلّى الأخلاقُ الإيجابية، فيما نقرأ في النّواهي عن الأخلاق السلبية.
وكلا القسمين يُسهمان في صياغة الفرد الأخلاقيّ، الفرد الاجتماعيّ، الفرد الخلّاق في الحياة.
لا يتحدّث السيّد حسين الصدر عن الأخلاق بلغة علماء الأخلاق، أو بلغة فلاسفة الأخلاق، وإنّما بلغة المربّي، التي تجمع لغةَ العاملين في شؤون الأخلاق، علماً وفلسفةً وتربيةً، سواء أكانت الأخلاق مطلوبةً بحدِّ ذاتها أم هي وسيلة لترويض النّفس وعجنها بقيمِ الجمال والخير والحب.
إنّ جولة بسيطة في الفكر الأخلاقيّ للسيّد، من خلال تراثه المطبوع، ستكشف عن مدرسةٍ خاصّةٍ به في مجال الطرح الأخلاقيّ، يُمكن أن نُوجزها في ما يلي:
أولاً: بساطة الطّرح.
ثانياً: الاستشهاد الكثير بآيات القرآن المجيد وأحاديث النّبيّ وعترته وتجارب المؤمنين.
ثالثاً: التّركيز على النّتيجة؛ فهو بعيدٌ عن لغة الماهيات والأقيسة والبراهين، فالنّتيجة هي التي تهمّه أولاً وأخيراً.
رابعاً: همّه شريحة الشباب في الدّرجة الأولى.
خامساً: الاستفادة من بعض إشراقات علم العرفان، ولكن بهدوءٍ، ومن دون الإيغال والتّفصيل.
سادساً: الاستفادة من بعض إشراقات الشّعر العربيّ والقصص الوعظيّة البسيطة.
هكذا تكلّم لنا عن الأخلاق المدنيّة والدينيّة والاجتماعية، عن التواضع والإحسان والزهد والتوبة والصدق والأمانة والكرم والإنفاق وغيرها، غير آبهٍ بتقسيمات الأخلاقيين إلى أجناسٍ وأنواعٍ ومصاديق.
ذلك أنّ النتيجة المهمّة هي العمل ...
صنع جيلٍ أخلاقيٍّ رصينٍ ....
تحرير الأخلاق من شبهة التواكل والضعف والكسل ...
إنّ إنساناً ما قد يكون صادق الحديث، ولكنَّ صدقَه عبارةٌ عن سليقة ورثها من البيت، من الأب والأم، وهذا الصّدق بلا شكّ ممدوحٌ، ولكنّه صدقٌ عارٍ، صدقٌ هشٌّ، لأنّه لم يكن يستند إلى وعي الصّدق، وتفهُّم الصّدق من منطلقٍ روحيٍّ أصيلٍ.
لا يتحدّث السيّد حسين الصدر عن أخلاقٍ في الهواء، بل عن أخلاقٍ في الأرض، أخلاقٍ واعيةٍ وليست أخلاقاً متوارثةً. من هنا، هو يُكثر من الأمثلة والشواهد على أهمّية الأخلاق كممارسةٍ في الحياة، وكيف أنّها إيمانٌ ورسالةٌ.
تصحيح خطأ شائع
استناداً إلى المأثور عن النّبي الكريم: "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، والى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق"، يؤكّد السيّد الصّدر بأنّ عالم اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ "إلى التّمسّك بالأخلاق الفاضلة والدّعوة إليها وحثّ الخطى سريعاً نحوها"، (كتاب دروس أخلاقية/ص 8).
فالأخلاق إذاً ليست سلوكاً وحسب، بل هي رسالة أيضاً. لا يدعو السيّد حسين الصدر إلى التّخلّق بالأخلاق الحسنة فقط، وإنّما يدعو إلى جعلها رسالةً نحملها ونبشّر بها وندافع عنها، وبذلك كيف يصحّ القول: "أن نعامل النّاس كلاًّ بحسب أخلاقه، فمن كان واضحاَ مستقيماَ قابلناه بنفس الوضوح والاستقامة، ومن كان خبيثاً متلوّناً سبقناه إلى الإلتواء، ومن كبرت نفسه وحسنت أخلاقه احترمناه وقدّمنا له ما يستحق من الخُلق المستقيم، ومن صغرت نفسه لسوء تربيته استصغرناه" (كتاب دروس أخلاقيّة/ص 9).
يصرّ السيّد الصدر على تصحيح هذا المفهوم الهدّام، فيقول:"... ولعلّ أفضل ردٍّ على هذه الفكرة الخاطئة سرد بعض الأمثلة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام، لتوضِّح لنا أسمى خلق يمكن أن يكون عليه الإنسان؛ فقصّة الرسول مع ذلك اليهودي الذي يُلقي عليه بطبقٍ من رمادٍ يوميّاً غير خافيةٍ، حيث قطع اليهودي رماده في يومٍ، فعاده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووجده مريضاً، وقال له : "هذا ما ظننته، وإلاّ ما قطعت عنّي طبق الرماد"، وقضى له حاجته، فما كان من اليهودي إلا أن أسلم" (دروس أخلاقيّة/ص9).
يعترض السيّد الكريم على مبدأ المعاملة بالمثل على صعيد الموقف الأخلاقي من الآخر، ويدعو إلى حمل الأخلاق ليس كسلوكٍ شخصيٍّ وحسب، بل كرسالةٍ أيضاً. إنّ كثيراً من النّاس يرث خلقاً رفيعاً عن أبيه وأمّه، وربّما يلتزم حرفيّاً بالموعد، ويصدق في قوله وعمله، ولا يُحبّ ممارسة الظّلم، بل ينفر من ذلك ويُنفق في بعض المجالات الخيرية، ولكن كلّ هذا الخلق عبارة عن ممارسة تقليديّة؛ إنّها تتحوّل إلى ممارسةٍ واعيةٍ، فيما لو تحوّلت إلى رسالةٍ، أي إلى دعوةٍ.
ويذهب السيّد حسين الصدر إلى أكثر من ذلك، وهو يتحدّث عن هذه النّقطة بالذّات، فإنّ الإنسان قد يتشكّل في داخله رقيبٌ أخلاقيٌّ بسبب "التربية السليمة والتوجيه الحسن، كما قد تكون ثمرة الخشية من الله تعالى. ولكنّها إذا كانت ثمرة الخشية من الله تعالى ونتيجة تقوى الله، فإنّها تكون أفعل في النّفس وأبقى على الأحوال كلّها، لأنّ صاحب التربية السليمة والتوجّه الحسن قد تتغلّب على عاداته طبيعتُه الإنسانية الأولى، أو يُسيطر على بعض العادات، في بعض أحواله، شعورُه بتحقيق مصالحه ومنافعه الخاصّة على حساب ما اعتاد من عملٍ متقنٍ، أو أمانةٍ في أداء وظيفته أو أخلاصٍ في النّصح في تجارته، أو نحو للخير في رسالته بين أهله ومواطنيه، فلا يؤدّي عمله حينِئذ كما كان يؤدّيه" (التربية في العبادة/ ص4).
إنّ قراءة تراث السيّد حسين الصدر في مجال الأخلاق تكشف عن نقطتين جوهريّتين، هما:
أولاً: إنّ الأخلاق هي تعبيرٌ عن حياةٍ متكاملةٍ، سعيدةٍ، ممتعةٍ، وإن كانت شاقّةٍ من وجهٍ آخر، لأنّها التزامٌ وتطبيقٌ ومسؤوليةٌ.
ثانياً: إنّ الأخلاق ليست التزاماً شخصيّاً وحسب، أي ليست ممارسةً فرديّةً بحتةً، بل هي أيضاً مسؤولية دعوة ... بيانٌ ... نشرٌ ... تبشيرٌ ... تأسيسٌ ... توكيدٌ...
وسنلتقي بمواقف أكثر جذريّةً وعمقاً على صعيد فكر السيّد الصدر في المسألة الأخلاقية، التي تعدّ اليوم من أهم مسائل الاجتماع الإنساني، بعد تفشّي المّاديّة وأخلاقها بمستوى يُنذر بالخطر العالميّ.
نقد فلسفة الأخلاق
1 : في نصٍّ سريعٍ، ولكنّه عميقٌ؛ وبعد أن يؤكّد لنا السيّد أنّ النّفس الإنسانيّة هي هذه البوتقة المشتعلة بالصراع، يطرح قضيّةً جوهريّةً، مفادها السؤال عن المصدر الجدير بوضع أو بتقنين قواعده "الأخلاقية السليمة الصحيحة" (التربية في الدين/ص8).
ويضع ثلاثة تصوّراتٍ في معرض الجواب عن هذا السؤال ... وذلك على شكل صيغةٍ استفهاميّةٍ سريعةٍ، هل هو القانون؟ أم هي الفلسفة أم هو الدين؟
يُجيب السيّد الصدر عن السّؤال الأوّل، مؤكّداً في الأثناء على أهمّية القانون في تنظيم الحياة البشريّة، ولكن يُشكّك بقدرته على تأسيس ذاتٍ روحانيّةٍ ملتزمةٍ بالقيم الانسانية، ومنساقةٍ مع روح هذه القيم بدافعٍ من الذّات، لا بقهرٍ من الخارج، فإنّ "القانون سلطانه على الظّاهر، وقوّته على البيِّن من الأمور" (التربية في الدّين/ص9). ثمّ نقطة جوهرية أخرى هي: "إنّ دائرة القانون تدور حول العلاقات العامّة، لا في الشؤون الخاصّة، ومهمّته أن يُعاقب المسيء دون أن يستطيع مكافأة المُحسن" (التربية في الدين/ص9). ولم تفُت السيّد الصدر الإشارة إلى توفّر إمكانية التهرّب من تبعات القانون وعقوباته، وهي مشكلة كبيرة تواجه المجتمع الإنسانيّ اليوم.
لا يُلقي السيّد الصدر كلامه على عواهنه بل يعلّله، فإنّ سبب كلّ هذه المفارقات في قدرة القانون على صياغة الجانب التربويّ الفاعل في الإنسان هو أنّ الإنسان: "يمتاز عن سائر الحيوانات الحيّة، بأنّ حركاته وتصرّفاته الاختيارية يتولّى قيادتَها شيءٌ لا يقع تحت سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا في عنقه، ولا يجري في دمه ولا في عضلاته ولا في أعصابه، وإنّما هو إنسانيّ روحانيّ اسمه الفكرة والعقيدة ... فالانسان يُساق من باطنه لا من ظاهره..." (التربية في الدّين/ص 11).
إنّ العلم برغم كشوفاته الفذّة يُعتبر سلاحاً ذا حدّين، فهو يَصلح "للهدم والتّدمير كما يصلح للبناء والتّغيير" (التربية في الدّين/ص12)، و "لا بدّ في حسن استخدامه من رقيبٍ أخلاقيٍّ يوجّهه لخير الانسانية وعمارة الأرض، لا إلى الشرّ والفساد..." (التربية في الدّين/ ص 12).
إنّ القانون يعجز بل ليس من مهمّته تنظيم العلاقة بين الإنسان والله، ويعجز بل وليس من مهمّته زرع وتنمية الخوف من الله في داخل الذّات الإنسانية، كذلك حبّ الله والخشية منه والخشوع له.
الفلسفة الأخلاقية هي الأخرى يشوبها الكثير من العجز في هذا المجال، فهي فلسفة نخبة وليست أمّة. ثمّ أيّة فلسفة أخلاقية هي الجديرة بمثل هذه المهمّة، مهمّة التّربية الدّاخلية للإنسان، التّربية الأخلاقيّة الدّاخلية؟
أهي فلسفة الواجب؟
أم فلسفة اللذة الرّوحيّة؟
أم هي فلسفة القوّة؟
كلّ هذه الفلسفات التي تفتقر إلى الوضوح والجماهيرية، مشبعةٌ بالرّوح النّظريّة، وبنظريّات قابلة للصّواب والخطأ بطبيعة الحال، وما يُسمّى بالضّمير يفتقر إلى كثيرٍ من الموضوعيّة، كي يتحولَ إلى مصدرٍ أخلاقيٍّ، وإلّا فما هو الضّمير؟ وأيّ ضميرٍ نرجع إليه؟ هل هو الضّمير الذي تأسّس وتشكّل في الغرب أم في الشرق، في ظلّ وصيرورة أيّة حضارةٍ يا ترى؟ إنّ الضّمير حصيلة ما يمرّ به المجتمع من تجارب وتصورات وأفكار، وبالتّالي، هناك أكثر من ضميرٍ بل الضمائر بقدر أعداد البشر.
إنّ رفض الفلسفة الأخلاقيّة لا يعني رفضَ الأخلاق بحدّ ذاتها كما قد يتبادر للذّهن، ذلك أنّ "الأخلاق ملاك الفرد الصالح، وقوام المجتمع المتحضّر الراقي، فهو يبقى ويستمرّ ما بقيت الأخلاق" (التربية في الدين/ص19).
ليست هناك علاقة ضروريّة بين الأخلاق والفلسفة الأخلاقيّة، كما قد يتصوّر البعض؛ وموقف السيّد حسين الصّدر الرافض أو البّارد أو السّلبي من فلسفة الأخلاق، إنّما لما تنطوي عليه من مفارقاتٍ مرّ ذكر بعضها، وإذاً لا بدّ من بديلٍ!
والبديل هو "الدين والإيمان"، لأنّهما يعملان من داخل الكينونة الإنسانية وليس من خارجها. ومن هنا قالوا إنّ الإيمان بالغيب أسُّ الفضائل، بل هو الذي يُنظّم الفضائلَ ويرسّخها في الداخل الإنسانيّ، وحتى لو كان هناك إدراك لقيمة الأخلاق بالاعتماد على الجهد العقلي فإنّ هذا الإدراك لا يتحوّل إلى سببٍ لترسيخ هذه الأخلاق، ولا يصلح بالضرورة أن يكون سبباً للالتزام.
الدين ببعده الغيبيّ الأخرويّ يُسهم مساهمةً فعّالةً في تربية الذّات من داخلها، كما أنّ الإيمان قبل ذلك بالله، على أساس المنطق السليم، وفي سياقٍ وجدانيٍّ متوازنٍ يخلق الإنسانَ الصالح؛ فمحبّةُ الله أو مخافة الله، أو كلتاهما معاً، عملية بنائيّةٌ عميقةٌ راسخةٌ.
إنّ الخوف من الله رأس الحكمة، كذلك حبّ الله. والحكمة تتجلّى هنا لأنّ الإنسان المؤمن بالله يتّجه نحو الله، والله تعالى هو المثل الأعلى، المثل الكامل، والإيمان به تجسيدٌ لأخلاقه؛ ومن هنا جاء في الأثر الطيّب "تخلّقوا بأخلاق الله".
يقول القرآن الكريم "ولله المثل الأعلى"، وبالتالي، الإيمان به يعني سيراً باتجاه هذا المثل الكامل "يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربك كدحاً فمُلاقيه" (الانشقاق/6)؛ الإيمان بالله عمليّة سيرٍ، رحلةٌ، سباحةٌ فذّةٌ في بحر الخلق الكامل.
الدّين والإيمان وحدهما القادران على تربية أممٍ و شعوبٍ وجماهير، ولكن شريطة المعقولية والتوازن في فهم الدّين والإيمان؛ ذلك أنّ الفهم المغلوط القائم على التطرّف والأحادية والتّعنّت ودعوة امتلاك الحقيقة يحول دون رسالة الدّين الأخلاقية الصحيحة، بل كلّ ذلك يشوّه صورة الدّين ويُسيء إليه، كما هي الآن بعض الدّعوات الدينية التي أقلقت العالم، وحوّلته إلى جحيمٍ لا يُطاق.
والواقع أنّ الدّين سلوى، ولكنّه سلوى فاعلةً، وليس سلوى خاملةً؛ ويقع في خطأ كبيرٍ من يرى في الدّين سلوى كاسدةً. ذلك أنّ الدّين يدعو إلى تحريم كلّ ما يُعطّل الذّات، ويشلّ إرادتها، ويُعرقل تفوّقها على الشّرّ؛ وهكذا هو تحريم الدّين للخمر والميسر والرّبا والكذب والنّميمة والغيبة والظّلم. وبالتّالي، فإنّ الدّين قوّة فوّارة تنبعث من داخل الضمير لتخلق عالماً جديداً، عالم المثل والقِيَم الأخلاقية البنّاءة. (راجع كتاب التربية في الدين/ ص 23 إلى ص43).
يختصر السيّد حسين الصدر لنا كلّ ما سبق في عنوانٍ لأحد كتبه هو "أن تكون غايتك هو ...الله".
2 :الإسلام خاتم الأديان، وبالتّالي، فهو يحتوي على الصيغة الكاملة للتربية الأخلاقية، حيث يعمل الإسلام على خلق "الضمير الديني"، أي خلق حاسّة المراقبة من الداخل، وفق قيمٍ ومُثلٍ واضحةٍ وصريحةٍ.
لقد عالج السيّد حسين الصدر هذه النقطة في كرّاسه التربويّ الموسوم بـ"الضمير الدّيني ودوره في الحياة"، المطبوع سنة 2002 .
ويقوم مشروع الضّمير الديني في الدّين الإسلامي على أساس الإيمان بالله والخشية منه. ولكن إذا كان الإيمان بالله يؤسّس للضمير الدّيني فإنّ العبادات الدينية التي جاء بها الإسلام تربّي على هذا الضمير، وتكرّسه، وتجذّره حقيقةً حيّة في الدّاخل، وأثراً فاعلاً في الخارج، وعلى رأس هذه العبادات الصّلاة و الصّوم والحجّ والدّعاء.
ليس الضّميرُ الدّيني أيضاً وليدَ الإيمان والعبادات وحسب، فلربّما يكون للأسرة والمدرسة والشارع والمعمل والشركة والدائرة دورٌ أيضاً في ذلك.
يتحدّث لنا السيّد الصدر في كتابه هذا حول الجانب العملي من الضمير الدّيني، أي آثار الضّمير الدّيني، فيُخبرنا أنّ الضّمير الدّيني قوّة مشرقة، وليس خمولاً وكسلاً وتكاسلاً، بسبب أنّ صاحبه يؤمن بالله المعطاء الغفور الرحمن الرحيم، المؤمن المحسن، فيرتفع إلى مستوى هذه القيم التي لا تفرز إلا الخير والنّماء والحياة.
إنّ الضمير الدّيني شجاعٌ بحكمةٍ "وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران/175)، والضّمير الدّيني يُترجم نفسه بإتقان الواجب: "... اصنع المعروف في أهله ، وفي غير أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله"، (الضمير الديني ودوره في الحياة/ ص17). فالضمير الدّيني بهذه الهويّة هو ضمير يهدف إلى الغاية السامية، وهو كما يقول السيّد الصدر: "يصنع الواجب غير مراعٍ الناسَ مَن يستحقه منهم ومن لا يستحقه حيث قد راعى الله فيما صنع، وتحكّم في هوى نفسه وشهوته" (الضمير الديني ودوره في الحياة/ ص18).
لا تنحصر الواجبات في نمط معيّن، إنّها كثيرة، وهي متجدّدة بتجدّد الحياة وتغيّرها وتطوّرها، وما يعتريها من تحوّلات، ولكن كلّها ترجع إلى واجبٍ واحدٍ، ذلك هو : "واجب الإنسان نحو نفسه وغيره، وإذا سلم فيها الإنسان ما رسمه الإسلام في رسالته ، وجعله هداية المؤمنين يكون قد أدّى الواجب نحو نفسه ونحو غيره ونحو خالقه" (الضمير الديني ودوره في الحياة/ ص19).
لقد طرح كثيرٌ من علماء الأخلاق والاجتماع آراءهم وتصوّراتهم بشأن "الواجب"، وكانت هناك مدارس متشعّبة ومتعدّدة، ولكن السيّد حسين الصدر يُدلي برأيه هنا من وجهة نظر قرآنية إسلامية، مستقاة من مصادر المعرفة الإسلامية. وفيما يؤكّد أنّ الواجب ينبغي أن ينبثق من دافع داخليّ، نراه يبيّن بشكل أكثر جلاءً حدود الواجب، فيؤكّد أنّ حدود الواجب تكمن في "الصالح العام" (الضمير الديني ودوره في الحياة/ص20)، وذلك حتى على صعيد التوجّه نحو الذّات. فإنّ تغليب الصّالح العام على الصالح الخاص يؤسّس لحدود الواجب، وبالتالي الواجب نفسه. كما أنّ التّضحية بمُتعةٍ مادّيةٍ من أجل شرفٍ معنويٍّ يؤسّس للواجب، وتغليب مصلحة الوطن والشّعب والنّاس والدّين على متع الذّات الشّخصيّة، مع تحمّل مشاق ذلك، هو تأسيسٌ للواجب. وهكذا، وفي كلمةٍ مختصرةٍ، كما يُنبئنا السيّد حسين الصدر، فإنّ: "أداء الواجب ليس هو أداء العمل مع أيّ نوعٍ وعلى أيّ نحوٍ؛ أداء الواجب هو أداء عملٍ معيّنٍ، هو أداء ذلك العمل الذي يكون له أثره في خير المجموع وخدمة الغير" (الضمير الديني ودوره في الحياة/ص 20)، أن يكون فيه خير المجموع، وأن لا يكون "في ظلّ رقابة الغير أو في سبيل الهوى" (الضمير الديني ودوره في الحياة/ص21)، أي في سبيل الله. والتعامل مع الواجب بضمير الجماعة هو الكفيل بتقدّم الأمم والشّعوب، وهو الكفيل بإشباع حاجات الفرد والجماعة في آنٍ واحدٍ، فـ "على أداء الواجب وحده يتوقف ارتفاع مستوى الأمة في حياتها، ويتوقف عليه ارتفاع مستواها في الخُلق وفي المعرفة، وفي الفن، وفي الحضارة، وفي المعيشة" (الضمير الديني ودوره في الحياة/ص25).
ولكن كيف السبيل إلى القيام بالواجب بهذه الصّفة، أي بصفة كونه محكوماً بالإطار الاجتماعي؟
يُجيب السيّد الصدر على هذا السؤال بالقول:"ولا سبيل لأداء الواجب بنفس مطمئنةٍ إلاّ إذا سبقه في نفس الإنسان شعور بالخشية من الله وقيام ضمير ديني، كما في قوله تعالى من سورة النّور آية 55 "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلِفنَّهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الّذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً..." (الضمير الديني ودوره في الحياة/ص25).
هذا الضمير له دورٌ صميميٌّ في إتقان العمل، حافزٌ على إتقان العمل؛ ولعلّ ذلك ما يتطابق وقول النبي الكريم "إن الله يحبّ من أحدكم إذا عمل عملاً أنْ يتقنه". ويشكّل اليوم موضوع إتقان العمل جانباً من مشاكل الاجتماع المعاصر، لما شاع فيه من قيمٍ مادّيّةٍ، صارخةٍ، تركّز على اللذة الفرديّة البحتة، ولكن الدّين يرى في "إتقان العمل" نوعاً من الأمانة، ونوعاً من الصّدق.
لقد أفرزت التّجربة الأوروبية على مستوى الحداثة حاجةً ماسّة إلى التّدين كعنصر توازن مع هذا الجموح المادّي الجارف. ويطرح الفكر الأوروبي اليوم مسألة العودة إلى القيم الروحية، ليس كعزاءٍ تجاه الموت والعدم، بل أيضاً كضابطٍ ينظّم مسيرة الحياة، وينقذ النّفس الإنسانية من الضّياع والاستلاب والغربة الوجودية. فالدّين، خاصّة بالنّسبة للشباب، عاملٌ روحيٌّ نشطٌ، يعمر في دواخلهم النّظرة إلى الحياة كمسؤوليّةٍ وفرصةٍ حيّةٍ للإبداع، والإسلام كلّه دعوةٌ لتعمير الحياة من أجل آخرةٍ عامرةٍ أيضاً.
ليس الضّمير الدّيني في الإسلام تغلغلاً في فراغٍ وهياماً في تجريدً، بل هو انغماس روحيٌّ في المادّة والطبيعة من أجل تهذيبهما واستثمارهما بشكلٍ صحيحٍ وجيّدٍ ونافعٍ، وبعائدٍ جميلٍ على الجميع. فهو ضمير المسؤولية، وليس ضمير الانحياز الكامل للأنا.
لقد حرص الإسلام على بناء الجماعة الخيّرة، والخطوة الأولى هي شعور الفرد بغيره، والخطوة الثانية هي أن يتمنّى الفرد الخير للآخر، لغيره من أبناء المجتمع، والخطوة الثالثة هي الإيثار؛ وبعبارة أكثر وضوحاً تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وبذلك ينبعث المجتمع الفاضل. (راجع الضمير الديني ودوره في الحياة/ص 39 ـ 50).
3 : الإيمان هو أساس الضمير الديني؛ والإيمان كما جاء في نهج البلاغة "معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان". ولا ينسجم فكر السيّد حسين الصدر مع الرأي الذي يقول إنّ الإيمان شيءٌ والعملَ شيءٌ آخر؛ وما جاء في القرآن الكريم بحيث يُفيد التغاير نتيجة العطف، مثل قوله تعالى : "الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ"، وما هو على غرارها، إنّما هو بقصد أنّ الإيمان الذي جاء في مثل هذه الآيات يُفيد الجانب التصديقي فقط ، وليس الإيمان (بمعناه الشامل الجامع بين التصديق والعمل)، (الضمير الديني ودوره في الحياة/ص 5): كلمة حول الإيمان واليقين ، وحتى الإيمان بمعنى التصديق بأنّ هناك خالقاً لهذا الكون، له مراتب متفاوتة ويمكن تصنيفها على وفق التسلسل التالي :
أ. علم اليقين: وهو علم يحصل من جرّاء البحث، ممّا يولد اعتقاداً جازماً نتيجة البرهان.
ب. عين اليقين : هو أن "يُرى المعلوم عياناً فليس الخبر كالعيان"، فإنّ رؤيتك للنار ليس كاستشهادك عليها من الدّخان.
جـ. حق اليقين: وهو "أن يصير العالم والمعلوم والعلم علماً واحداً"، فإن دخولك النار غير مشاهدتك لها. (راجع كتابه كلمة في الإيمان واليقين/ص 9).
إنّ مركز أو مقرّ الإيمان الحقيقي هو "القلب"، وهو المعادل الموضوعي للإيمان العينيّ. وبلا شك فإنّ هذا "الإيمان"، وعلى وفق المعطيات السابقة يزيد وينقص، كما هو أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام، وهو قابل للقوة والضعف، "وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً"، وهذا الإيمان هو "أُس الضمير الديني"، أو لنقل: هو مؤسّس الضمير الديني.
هنا يأتي دور العبادة، وللعبادة كما نستفيد من كلام السيّد حسين الصدر ثلاثة أبعاد: فهي انعكاس للإيمان بلا شك، ثمّ هي تكريس لهذا الإيمان وتجذير له، وهي تزكية وتطهير للنّفس لأنّها ممارسة روحيّة بالدّرجة الأولى.
ومن الصّعب الفصل بين هذه الأبعاد الثلاثة في فكر السيّد حسين الصدر لأنّها هي بطبيعتها متداخلة، متواصلة، متفاعلة. فأنت تصلّي لأنّك مؤمنٌ، والصلاة ترسّخ أو تساهم في ترسيخ هذا الإيمان بالذات، ولها دور حيويٌّ في تزكية نفسك وتهذيبها وتنمية الحسّ الروحي فيها، "إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ"، كذلك الحال مع الصّوم والزّكاة والحجّ، (التربية في العبادة/ص 24).
والصوم هو الآخر شعيرة عبادية روحيّة جاءت امتثالاً لأمر الله: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ". ويمارس الصوم عملية توكيد للإيمان ويرتفع بالنفس الإنسانية عبر سموه بالغرائز، بتحديدها "كي لا تنحرف عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله لها" (التربية في العبادة/ص 30).
والحجّ استجابة لأمر إيمانيّ "عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ"، وهو:"كغيره من العبادات من حيث تأثيره البالغ ودوره الكبير في تربية الأخلاق، وتنمية القيم والفضيلة، وتزكية الروح والنفس، وتنظيف الداخل والمضمون عند الإنسان" (التربية في العبادة/ص 33)، خاصة لما يمكن أن يترجمه الحج من شعور بالانتماء الأخوي للإنسانية، بصرف النظر عن أيّ تمايز طبقي أو عرقي أو مذهبيّ أو لونيّ أو لغويّ، ولما يمكن أن توحي به بعض الواجبات من قيم رائعة، مثل الإحرام الذي يجسد الخلوص للقوة الخالقة، ورمي الجمرات الذي هو تعبير رمزيّ عن محاربة الشر والأشرار في هذا العالم، ونحن ندعو الله تبارك وتعالى لأننا نؤمن به، والدعاء تمتين للعلاقة بالله عز وجل وهو في الوقت ذاته تطهير وتزكية وتربية. ومن هنا كان كتاب السيد حسين الصدر (التربية في الدعاء) الذي يرتب كلّ هذه المستحقات. إنّه تعبير عن الإيمان ، ويسهم في ترسيخ الإيمان ذاته ويعمل على ترقيق النفس وتهذيبها، وسوف نتحدّث بشكل مستقلّ عن الدّعاء في مدرسة السيّد حسين الصدر لاحقاً.
4 : إن الله تبارك وتعالى غاية المسلم، فهو ضميره "أن تكون غايتك هو الله"، وهو مثله الأعلى "ولله المثل الأعلى"، وهو مثله الأعلى في الأخلاق "تخلّقوا بأخلاق الله"، وهو مرتجاه "يا أيها الإنسان أنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه"، ومنه البداية وإليه المآل "إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ"، وهو مرجعه "عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، وهو أمله في هذه الحياة والحياة الآخرة .... فالضمير الديني في الإسلام هو بمثابة حضور الله في القلب "أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ"، لذلك يختزن المسلم المؤمن طاقةً هائلةً على العطاء، طاقةً نزيهةً معطاءةً، تشع بالنور والخير والبركة؛ وربّما لهذا كانت دفعة المدينة المنورة تؤتي أكلها لقرونٍ من الزمن، ذلك أنّها كانت لحظة تجسيد حيٍّ لهذا الإيمان المبارك بفضل الله تبارك وتعالى. وبهذا الضمير يندفع المؤمن ليؤدّي ما عليه من واجباتٍ، برغم ما فيها من مشقة وتحيّز ضد الذات، خاصّة في ما يتصل بالحقوق المادية، فالمال عزيزٌ والتدافع من أجله قويٌّ وشاقٌّ ومكلفٌ، ولكن برغم ذلك يندفع المؤمن ليؤدّي هذه الحقوق بكلّ ارتياح وسعادة ومتعة.
::::: موقع سماحة اية الله الفقية السيد حسين الصدر :::::
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين