اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منذ بدأ الرسول الهادي محمد (ص) مهمّة الدّعوة إلى الله سبحانه، ونشر عقيدة التوحيد والتبشير بمبادئ الإسلام عمل على إلغاء الطبقيّة، ومكافحة الظلم والاستغلال، والمناداة بالعدالة والمساواة في المجتمع الانساني. لذا حشدت قوى الطاغوت والاستبداد كلّ إمكاناتها لمحاربة دعوة الإسلام إلى هذه المبادئ، والوقوف بوجه تلك الثورة التي حملها الإسلام على التخلّف والظلام.
فقد حورب الرسول(ص) بكلّ أساليب الحرب والمواجهة، من التكذيب والاتهام والحصار، والتخطيط لقتله وإخراجه من بلده، إلى الحملة الظالمة من التعذيب والإرهاب والحرب النفسية عليه وعلى أصحابه رضوان الله عليهم، حتى استشهد بعضهم تحت وطأة التعذيب، أمثال ياسر وسميّة، ثمّ كانت حملات الحرب العدوانية عليه وهو في المدينة المنوّرة، حيث تحالفت قريشٌ مع المنافقين واليهود ضدّ الدّعوة ونبيّها العظيم.
لكنّ الدعوة النبويّة سارت في ريادتها، تهدم أبنية الجاهليّة والظلام، وتُخاطب العقول النيِّرة، والمشاعر الإنسانية المتفتّحة على حبّ الخير وإصلاح الإنسان، فأقبل النّاس على تلك الدعوة، وحدث التغيير العقائدي والنّفسي والحضاري الكبير.
وأمام هذا التراكم من الأحقاد ومعاداة الرسول(ص) وأصحابه ودعوته. كان القرآن يُنادي بالعفو والمغفرة ومقابلة الإساءة بالإحسان، ويطلب من الرسول(ص) أن يصبر، ويدفع بالتي هي أحسن، وأن يعفو ويصفح الصفح الجميل. فكان الرسول(ص) المثال الكامل في تطبيق تلك المبادئ والقيم الأخلاقيّة والسياسيّة الرشيدة، وكان أسلوبه الأسلوب الأمثل في حمل الدعوة وتبليغها والمخاطبة بها. نلتقط من مواقف الرسول(ص) وسيرته العملية بعضاً من تلك الأمثلة الرائدة في عالم السياسة والحرب والأخلاق والدعوة .
ففي السنة الثالثة من الهجرة أغار جيش المشركين على المدينة المنوّرة، ووقعت معركة أُحُد. وفي تلك المعركة قُتل أسد الله وأسد رسوله، عمّ الرّسول(ص) حمزة بن عبدالمطلب. قتله غلامٌ لجبير بن مطعم، إسمه وحشيّ. طعنه بحربة غدراً، فجاءت هند زوجة أبي سفيان، ومعها جمعٌ من نساء قريشٍ إلى ساحة المعركة، فمثّلن بقتلى المسلمين، يقطّعن آذانهم وأنوفهم ويمثّلن بهم، تشفياً وحقداً على أولئك القتلى الشهداء، الذين دافعوا عن الحق، وجاهدوا لإنقاذ الإنسان من الظلم وعبوديّة الطاغوت. وقد بلغ الحقد والتشفي بهندٍ أن تصنع من آذان القتلى وأنوفهم قلادةً وخلخالاً لها.
قال ابن إسحاق يصف ذلك المنظر السادي البشع:«ووقعت هند بنت عتبة، كما حدّثني صالح بن كيسان، والنسوة اللاّتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله(ص) يجدعن الآذان والأنُف، حتى اتخذت هند آذان الرجال وأنُفهم خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشياً، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها..».
وانجلت المعركة، وانسحب الجيشان، وراح المسلمون يتفقدون القتلى، فوقف رسول الله(ص) على أجساد الشهداء(رضي الله عنهم)، ورأى بعينه ما فعل المشركون بهم، وشاهد المُثلة في جسد عمّه حمزة. فتوعّد المشركين هو وأصحابه بإنزال العقوبة، والتنكيل بهؤلاء المجرمين إن ظفروا بهم.. فأنزل الله سبحانه الآية الكريمة، تدعو إلى العقاب بالمثل، وتُطالب بما هو أسمى، بالعفو، فأنزل الله سبحانه في ذلك:" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلاّ بالله ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيقٍ ممّا يمكرون" (النحل/126 ، 127). فعفا رسول الله (ص) ونهى عن المُثلة».
ونقل كتّاب السِّيَر قول رسول الله (ص) بعد نزول هذه الآية:(أصبر، أصبر).
وتوالى الصراع بين الفريقين، وحقّق الله النّصر لمحمدٍ(ص) يوم فتح مكة، بعد خمس سنوات تقريباً من تلك الحوادث المفجعة فعفا رسول الله(ص) عن أولئك المجرمين القتلة، وشملهم بعفوه، وقال كلمته المشهورة:«يا معشر قريش ما ترون أنِّي فاعلٌ فيكم؟ قالوا خيراً، أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريمٍ، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
العفو عن اليهودية
ومنذ قدم رسول الله (ص) المدينة المنورة قام بكتابة عهد موادعة وسلام بينه وبين اليهود، وكانوا يشكّلون جزءاً من سكّان المدينة. غير أنّ اليهود لم يلتزموا بذلك العهد، بل راحوا يتآمرون على النبيّ(ص) ويتحالفون مع خصومه من المشركين والمنافقين على حربه وقتاله، ويُثيرون الفتن والأراجيف والإشاعات الكاذبة في المدينة، وخطّطوا لقتل الرّسول(ص) فأنجاه الله سبحانه. ومن تلك المحاولات محاولة اليهودية التي دّست للرّسول سمّاً في شاةٍ مشويّةٍ فأخبره الوحي بخبرها، وانكشف أمر اليهودية.
روى الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) فقال:«إنّ رسول الله(ص) أُتي باليهودية التي سمَّت الشّاة للنبي(ص)، فقال لها:ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبيّاً لم يضرّه، وإن كان ملكاً أرحت النّاس منه، قال: فعفا رسول الله عنها».
وذكر ابن الأثير تلك الحادثة بروايته الآتية:«ولمّا استقرّ رسول الله(ص) أهدت له زينب بنت الحارث إمرأة سلام بن مشكم شاةً مصليّة مسمومةً، فوضعتها بين يديه، فأخذ رسول الله (ص) منها مضغةً، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأكل بشر منها، وقال رسول الله (ص): إنّ هذه الشّاة تُخبرني أنّها مسمومةٌ، ثمّ دعا المرأة فاعترفت، فقال:ما حملك على ذلك؟ قالت:بلغتَ من قومي ما لم يخفَ عليك، فقلت:إن كان نبيّاً فسيُخبَر، وإن كان ملكاً استرحنا منه، فتجاوز عنها...».
ذلك رسول الله(ص) في عفوه وسعة رحمته بخصومه وأعدائه، فهو المنهج الأخلاقيّ الفريد في عالم السياسة والصراع. وتلك قيم الاسلام وأهدافه يجسّدها الرسول(ص) سلوكاً وسياسة عمليّة. فهدف دين الله هو الهداية والإصلاح ونشر المحبّة والسلام في الأرض، لذا فإنّ الحرب في مفهومه ليست أداةً للانتقام، بل هي وسيلة لإحقاق الحقّ وإرغام الطاغوت على التراجع عن سياسته الشريرة، وإصراره على الباطل.
::::: موقع سماحة اية الله الفقية السيد حسين الصدر :::::
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين