وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
كانت السنة السادسة للهجرة تقترب من نهايتها حينما رأى الرسول صلى الله عليه وآله في المنام أنّه دخل الكعبة وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت. فقصَّ صلى الله عليه وآله رؤياه على أصحابه، وتفاءل بها خيراً.
إنّ هذه الرحلة الروحانية أنتجت مصالح اجتماعية وسياسية، عزّزت مكانة المسلمين في الجزيرة العربية وساعدت على نشر الدين الإسلامي فيها، وذلك لأنّ:
- القبائل العربية المشركة تصورت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالف كلّ عقائد العرب وتقاليدهم الموروثة بما فيها الحج والعمرة، فأكد بذلك الصلح وتجنّب القتال في الشهر الحرام أنّه لا يعارض تلك الطقوس الدينية، بل يعتبرها فريضة مقدسة مثل والد العرب الأكبر "إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام" ويعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية، ممّا قلل من مخاوفهم تجاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته.
- ولما لم يكن يحمل أسلحة معه على أساس حرمة الأشهر الحرم، فإنّ ذلك غيّر من نظرة هؤلاء تجاه دعوة الإسلام حين شاهدوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحرّم القتال في الشهر الحرام، ويدعو إلى رعاية هذه السنّة الدينية القديمة.
- وستكون مناسبة يتمكن المهاجرون فيها من زيارة وطنهم وأهاليهم وأقربائهم. أمّا إذا منعتهم قريش من الدخول، فإنّ سمعتها هي تتعرض للخطر، ويتضح عدوانُها، وينكشف للجميع بطلان مواقفها، نظراً لموقفها السّيء تجاه جماعة مسالمة أرادت أداء مراسم العمرة فقط.
- وإذا نجح المسلمون في سعيهم بأداء مناسك العمرة، فإنّه سيكون أفضل إعلام لجميع مناطق العرب، إذ إنّ نداء الإسلام سينتشر في تلك البقاع والمناطق التي لم يصلها دعاة النبي صلى الله عليه وآله ومبلغوه حتى هذا الوقت.
- ولذا فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة داعياً القبائل المجاورة التي لم تزل على كفرها وشركها إلى مرافقة المسلمين في هذه الرحلة وبلغت أعدادهم 1400 أو 1600 أو 1800، أحرموا في ذي الحليفة فشاع في الجزيرة العربية أنّ المسلمين متجهون صوب مكة للعمرة في شهر ذي القعدة.
وعند عُسفان، أخبروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ قريشاً ترفض السماح لهم بالدخول إلى مكّة، كما أرسلت كتيبة من أفرادهم بقيادة: خالد بن الوليد، لتنفيذ الأوامر المعلنة، فغيّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طريقه حتى لا يلتقي بخالد، سالكاً طرقاً وعرة حتى وصل الحديبية، التي بركت فيها ناقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فنزلوا في ذلك المكان، إلاّ أنّ خالد بن الوليد تمكن من الوصول بكتيبته وأحاط بهم وحاصر موكبهم. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن قد جاء ليحارب في سبيل دخول مكة، ولم يكن هذا هدفه، ولذا فإنّ التفاوض كان من أفضل الحلول لهذه المشكلة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدعوني قريش اليوم إلى خُطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها".
فبلغ ذلك مسامع الجميع، فقرروا إرسال عدد من أفرادهم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للتعرف على هدفه الأصلي من رحلته ومجيئه إلى مكة، فبعثوا إليه بأربعة أشخاص لتفهّم موقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّا لم نجئ لقتال أحد ولكنّا جئنا معتمرين".
إلاّ أنّ المندوبين أكدوا للمسلمين أنّ قريشاً لن تقبل بدخولهم مكة: "يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً". فذهبت كلّ تلك المفاوضات سدى ودون جدوى، ممّا جعل الرسول صلى الله عليه وآله يرسل مندوباً عنه إلى قريش يوضح الصورة الصحيحة لهدفهم، وهو زيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة، إلاّ أنّ قريشاً -خلافاً لكلّ الأعراف الدولية والاجتماعية- والتي تقضي بحماية السفراء واحترامهم، عمدت إلى عقر الجمل الذي قدم عليه السفير والمندوب النبوي، بل كادوا أن يقتلوه أيضاً، لولا تدخل جماعة من قادة العرب، فخلّت سبيله ليعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كما أنّ قريشاً أرسلت كتيبة لإرهاب الرسول وجماعته وإرعابهم ونهب شيء من أموالهم، إلاّ أنّ الوضع لم يكن في صالحهم، فقد أسرهم المسلمون وكانوا خمسين فرداً، فتدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعفا عنهم وخلّى سبيلهم، ليؤكد لهم أنّه جاء يريد السلام، وأنّ هؤلاء ينشدون الحرب والقتال.
واختار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب لمهمة سفارة أُخرى لقريش، لأنّه لم يكن قد أراق دم أيّ من المشركين حتى ذلك الوقت، ولكنّه اعتذر عن تحمّل هذه المسؤولية المحفوفة بالمخاطر قائل: "يا رسول اللّه، إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي من يمنعني، ولكنّي أدلّك على رجل أعزّ بها منّي عثمان بن عفان"، إلاّ أنّ قريشاً ألقت القبض على عثمان وحبسوه، لعلّهم يتوصلون إلى حلّ فيطلقوه ليبلغ الرسول رأيهم. فلمّا أبطأ عثمان عنهم، وأوجد ذلك قلقاً شديداً في نفوس المسلمين، وخاصة إنّه أُشيع أنّ عثمان قتل، فإنّ المسلمين ثاروا وقرروا الانتقام والقتال، ممّا دعا النبي صلى الله عليه وآله إلى أن يجدّد بيعته مع المسلمين، فبايعوه تحت الشجرة على الاستقامة والثبات والوفاء، وحلفوا ألاّ يتخلّوا عنه أبداً، وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير، وسميت هذه البيعة ببيعة الرضوان، التي ذكرها القرآن الكريم بقوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤمِنينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرة فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ أثَابهُم فَتْحاً قَريباً﴾الفتح:18.
وبهذا فإنّ موقف المسلمين تحدّد في: إمّا دخول مكة وزيارة بيت اللّه، وإمّا القتال فيما لو تصلب موقف قريش الرافض لذلك. ولكن عثمان بن عفان رجع إليهم وأخبرهم أنّ اليمين التي التزمت بها قريش بمنعهم من دخول مكة هذا العام، هي التي تجعلهم في موقف متصلب رافض، وأنّهم سيرسلون إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من يتفاوض معه في هذا الشأن. وكُلّف سهيل بن عمرو بإنهاء هذه المشكلة. ونتج عن التفاوض بين الطرفين عقد صلح شامل وواسع بينهما.
وفي الوقت الذي كان المندوب القرشي يتصلب في بعض البنود والمواد، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتساهل معه ويتنازل عنها، ممّا كان له أثر بعيد. فالتسامح الذي أبداه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تنظيم وثيقة الصلح، لا يعرف له نظير في تاريخ العالم، لأنّه أظهر بجلاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع فريسة بيد الأهواء والأغراض الشخصية والعواطف والأحاسيس العابرة، فكان يعلم أنّ الحقائق لا تتبدل ولا تتغير بالكتابة والمحو، وهو ما جعله يتسامح مع مفاوض قريش الذي تصلب في مطالبه غير الشرعية، وذلك حفاظاً على أصل الصلح وحرصاً على السلام. وقد حدث خلال ذلك، أنّ طلب المندوب القرشي بأن يمسح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كتبه: ﴿بسم اللّه الرّحمن الرّحيم﴾ ويكتب بدلاً منه: "باسمك اللّهمّ". كما طلب مسح كلمة "رسول اللّه" وإبدالها ب "محمد بن عبد اللّه". فأجابه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك.