اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم عجل لوليك الفرج
فصل:إشارة إلى بعض القوى الباطنية
اعلم أن الله تبارك وتعالى قد خلق بيد قدرته وحكمته في عالم الغيب وباطن النفس، قوىً لها منافع لا تحصى. وأن ما نبحثه هنا هو ما يتعلق بهذه القوى الثلاث، وهي:"الوهمية والغضبية والشهوانية"، ولكل واحدة من هذه القوى منافع كثيرة من أجل حفظ النوع والشخص وإعمار الدنيا والآخرة كما ذكر ذلك العلماء ، وأن هذه القوى الثلاث هي منبع جميع الملكات الحسنة والسيئة، وأصل جميع الصور الغيبة الملكوتية. وتفصيل هذا الإجمال هو أن الإنسان كما أن له في هذه الدنيا صورة مُلكيه دنيوية، خلقها الله تبارك وتعالى على كمال الحسن والجمال والتركيب البديع، والتي تتحيّر أمامها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتى الآن أن يتعرف على حقيقتها بصورة صحيحة، وقد ميّزها الله تعالى عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة جمال المنظر، كذلك فإن له ـ أي للإنسان ـ صورة وهيئة وشكلاً ملكوتيا غيبياً، وهذه الصورة تابعة لملكات النفس والخلقة الباطنية.
وفي عالم ما بعد الموت ـ سواء في البرزخ أو القيامة ـ إذا كانت خلقه الإنسان في الباطن والمَلَكة والسريرة إنسانية، تكون الصورة الملكوتية له صورة إنسانية أيضاً. وأما إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانية، فصورته ـ في عالم ما بعد الموت ـ تكون غير إنسانية أيضا، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة. فمثلا إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة، كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخُلُق. وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكماً سبعياً، كانت صورته الغيبة الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم. وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما المَـلَكة، وأصبحت للباطن والسريرة ملكات شيطانية كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة، تكون صور ته الغيبة الملكوتية على صورة أحد الشياطين حسب ما يتناسب وتلك الصورة.
ومن الممكن أحياناً أن تتركب الصورة الملكوتية من ملكتين أو عدة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أي من الحيوانات، بل تتشكل له صورة غريبة، هذه الصورة بهيئتها المرعبة المدهشة والسيئة المخيفة، لن يكون لها مثيل في هذا العالم.
ينقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن بعض الناس يحشرون يوم القيامة على صورة تكون أسوأ من صورة القردة .
واعلم أن المعيار لهذه الصورة المختلفة ـ والتي تعد صورة الإنسان واحدة منها، والباقي صور أشياء أخرى ـ هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، فبأية ملكة يخرج بها الإنسان من الدنيا، تتشكل على ضوئها صورته الأخروية، وتراه العين الملكوتية في البرزخ، وهو نفسه أيضا عندما يفتح عينه في برزخه، ينظر إلى نفسه بالصورة التي هو عليها ـ في ذلك العالم ـ إذا كان لديه بصر. وليس من المحتم أن تكون صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا. يقول سبحانه وتعالى على لسان البعض: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا). فيأتيه من الله الجواب: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) .
فيا أيها المسكين؛ قد كانت لديك عين مُلكية ظاهرة البصر، ولكنك في باطنك ومَلكوتك كنت أعمى، وقد أدركت ذلك ـ العمى ـ فعلا. نعم إنك كنت أعمى منذ البداية، ولم تكن لديك عين البصيرة الباطنية التي ترى بها آيات الله.
أيها المسكين؛ أنت ذو قامة متناسقة وصورة جميلة في التركيب المُلكي. ولكن معيار عالم الملكوت والباطن يختلف عن المعايير المادية. عليك أن تحرز الاستقامة الباطنية كي تكون مستقيم القامة في يوم القيامة. يجب أن تكون روحك روحا إنسانية، كي تكون صورتك في عالم البرزخ صورة إنسانية ... أنت تظن أن عالم الغيب والباطن ـ وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات ـ مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث يمكن أن يقع الخطأ والالتباس ... إن عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك، جميعها، ستشهد عليك بما فعلت بألسنة ملكوتية، بل وبعضها بصور ملكوتية.
أيها العزيز؛ أفتح سمع قلبك، وشدّ حزام الهمّة على وسطك، وأرحم حال مسكنتك، لعلك تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالم في صورة إنسان، لتكون عندها من أهل الفلاح والسعادة .
فصل:في بيان لجم الأنبياء لطبيعة الإنسان
اعلم أن الوهم والغضب والشهوة يمكن أن تكون من الجنود الرحمانية، وتؤدي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه إذا سلّمتها للعقل السليم وللأنبياء العظام. ومن الممكن أن تكون من الجنود الشيطانية إذا تركتها وشأنها، وأطلقت العنان للوهم ليتحكم في القوتين الأخريين: الغضب والشهوة.
وأيضاً لك يعد خافياً أن أياً من الأنبياء العظام عليهم السلام لم يكبتوا الشهوة والغضب والوهم بصورة مطلقة، ولم يقل حتى الآن أي داع إلى الله. بأن الشهوة يمكن أن تُقتل بصورة عامة، وأن يُخمد أوار الغضب بصورة كاملة، وأن يترك تدبير الوهم بل قالوا: يجب السيطرة عليها حتى تؤدي واجبها في ظل ميزان العقل والدستور الإِلهي لأن كل واحدة من هذه القوى تريد أن تنجز عملها وتنال غايتها ولو استلزم ذلك الفساد والفوضى. فمثلا النفس البهيمية المنغمسة في الشهوة الجامحة التي مُزّقت عنانها تريد أن تحقق هدفها ومقصودها، ولو كان ذلك يتم بواسطة الزنا بالمحصنات وفي الكعبة (والعياذ بالله ). والنفس الغضوب، تريد أن تنجز ما تريد حتى ولو استلزم ذلك قتل الأنبياء والأولياء. والنفس ذات الوهم الشيطاني تريد أن تؤدي عملها حتى ولو استلزم ذلك الفساد في الأرض، وقلب العالم بعضه على بعض.
لقد جاء الأنبياء عليهم السلام، وأتوا بقوانين، وأُنزلت عليهم الكتب السماوية، من أجل الحيلولة دون الانفلات والإفراط في الطبائع، ومن أجل إخضاع النفس الإنسانية لقانون العقل والشرع وترويضها وتأديبها حتى لا يخرج تعاملها عن حدود العقل والشرع.
إذاً؛ فكل نفس كيَّفت ملكاتها وفق القوانين الإلهية والمعايير العقلية، تكون سعيدة ومن أهل النجاة، وإلاَّ فليستعذ الإنسان بالله من ذلك الشقاء وسوء التوفيق وتلك الظلمات والشدائد المقبلة التي منها تلك الصور المرعبة والمذهلة المصاحبة للإنسان في البرزخ والقبر والقيامة وجهنم، والتي نتجت عن الملكات والأخلاق الفاسدة التي لازمته في الدنيا.
فصل:في بيان السيطرة على الخيال
اعلم أن الشرط الأول للمجاهد في هذا المقام ( جهاد النفس ) والمقامات الأخرى والذي يمكن أن يكون أساس التغلّب على الشيطان وجنوده، هو إمساك طائر الخيال، لأن هذا الخيال طائر متحلّق يستقرّ في كل آن على غصن ويجلب الكثير من الشقاء. وأنه من إحدى وسائل الشيطان التي جعل الإنسان بواسطتـها مسكيناً عاجزاً ودفـع به نحو الشقاء.
وعلى الإنسان المجاهد الذي نهض لإصلاح نفسه، وأراد أن يصفّي باطنه ويفرغه من جنود إبليس، عليه أن يمسك بزمام خياله وأن لا يسمح له بأن يطير حيثما شاء، وعليه أن يمنع من التحليق في الخيالات الفاسدة والباطلة، والمعاصي والشيطنة، وأن يوجه خياله دائما نحو الأمور الشريفة. وهذا الأمر ولو أنه قد يبدو في البداية صعبا بعض الشيء، ويصوره الشيطان وجنوده لنا وكأنه أمر عظيم، ولكنه يصبح يسيراً بعد شيء من المراقبة والحذر.
إن من الممكن لك ـ من باب التجربة ـ أن تسيطر على جزء من خيالك، وتنتبه له جيدا. فمتى ما أراد أن يتوجَّه إلى أمر وضيع، اصرفه نحو أمور أخرى كالمباحات أو الأمور الراجحة الشريفة. فإذا رأيت أنك حصلت على نتيجة فاشكر الله تعالى على هذا التوفيق، وتابع سعيك، لعل ربك يفتح لك برحمته الطريق أمامك للملكوت وتهتدي إلى صراط الإنسانية المستقيم، ويسهل مهمة السلوك إليه سبحانه وتعالى.
وانتبه إلى أن الخيالات الفاسدة القبيحة والتصورات الباطلة هي من إلقاءات الشيطان، الذي يريد أن يوطن جنوده في مملكة باطنك. فعليك أيّها المجاهد ضد الشيطان وجنوده وأنت تريد أن تجعل من صفحة نفسك مملكة إلهية رحمانية، عليك أن تحذر كيد هذا اللعين، وأن تبعد عنك هذه الأوهام المخالفة لرضا الله تعالى، حتى تنتزع ـ إن شاء الله ـ هذا المتراس المهم جدا من يد الشيطان وجنوده في هذه المعركة الداخلية. فهذا المتراس بمنزلة الحد الفاصل، فإذا تغلبت وانتصرت فتأمل خيرا.
أيها العزيز... استعن بالله تبارك وتعالى في كل آن ولحظة، وأستغث بحضرة معبودك، واطلب منه بعجز وإلحاح. قائلا:
اللهم... إن الشيطان عدو عظيم، كان له ولا يزال طمع بأنبيائك وأوليائك العظام.
اللهم... فأعني وأنا عبدك الضعيف المبتلى بالأوهام الباطلة والخيالات والخرافات العاطلة، كي أستطيع أن أجابه هذا العدو القوي.
اللهم... وساعدني في ساحة المعركة مع هذا العدو القوي الذي يهدد سعادتي وإنسانيتي، لكي أستطيع أن أطرد جنوده من المملكة العائدة لك، وأقطع يد هذا الغاضب من البيت المختص بك.
فصل:في الموازنة
ومن الأمور التي تعين الإنسان في هذا السلوك، والتي يجب عليه الانتباه لها هي"الموازنة". فالموازنة هي أن يقارن الإنسان العاقل بين منافع ومضارّ كل واحدة من الأخلاق الفاسدة والملكات الرذيلة التي تنشأ عن الشهوة والغضب والوهم عندما تكون طليقة وتحت تصرف الشيطان وبين منافع ومضار كل واحدة من الأخلاق الحسنة والفضائل النفسية والملكات الفاضلة والتي هي وليدة تلك القوى الثلاث عندما تكون تحت تصرف العقل والشرع، ليرى على أي واحدة منها يصح الإقدام ويحسن العمل؟!.
فمثلا، إن النفس ذات الشهوة المطلقة العنان المتعمقة فيها وأصبحت ملكة ثابتة لها، وتولدت منها ملكات كثيرة في أزمنة متطاولة، هذه النفس لا تتورع عن أي فجور تصل يدها إليه، ولا عرض عن أي مال يأتيها، ومن أي طريق كان، وترتكب كل ما يوافق رغبتها وهواها ـ مهما كان ـ ولو أستلزم ذلك أي أمر فاسد وحرام.
وآثار الغضب الذي أصبح ملكة للنفس، وتولدت منه ملكات ورذائل أخرى، هي أنه يظلم بالقهر والغلبة كل ما تصل إليه يده، ويفعل ما يقدر عليه ضد كل شخص يبدي أدنى مقاومة، ويثير الحرب بأقل معارضة له، ويبعد المضرات وما لا يلائمه، بأية وسيلة مهما كانت، ولو أدى ذلك إلى وقوع الفساد في العالم. فهذا هي العوائد على صاحب الواهمة الشيطانية الذي ترسخت فيه هذه الملكة، فهو ينفذ عمل الغضب والشهوة بأية شيطنة وخدعة كانت، ويسيطر على عباد الله بأية خطة باطلة تتم، سواء بتحطيم عائلة ما، بإبادة مدينة أو بلاد ما.
هذه هي آثار تلك القوى عندما تكون تحت تصرف الشيطان. ولكن عندما تفكرون بصورة صحيحة، وتلاحظون أحوال هؤلاء الأشخاص، تجدون أن أيَّ ـ شخص مهما كان قوياً، و مهما حقق من آماله ـ وآمانيه ـ فإنه ـ رغم ذلك ـ لا يحصل حتى على واحد من الألف من آماله، بل إن تحقق الآمال ووصول أي شخص إلى أمانيه، أمر مستحيل في هذا العالم، فإن هذا العالم هو"دار التزاحم"وأن مواده تتمرد على الإدارة. كما أن ميولنا وأمنياتنا أيضا لا يحدّها حدّ.
إذاً، فالإنسان هو ـ على الدوام عاشق ـ لما لا يملك ولما ليس في يده.
وعلى أي حال؛ فلو وصل الإنسان إلى أهدافه، فكم يدوم تمتعه واستفادته منها؟ وإلى متى تبقى قوى شبابه؟
أيها العزيز ... لقد ثبت في العلوم العالية أن درجات الشدّة غير محدودة، فمهما تتصور أنت ومهما تتصور العقول بأسرها شدّة العذاب، فوجود عذاب أشدّ، أمر ممكن أيضاً ، فكر قليلا في القرآن، وأنظر أي عذاب به بحيث أن أهل جهنم يطلبون من الملك الموكّل بجهنم أن ينتزع منهم أرواحهم، ولكن هيهات إذ لا مجال للموت هناك. أنظر إلى قوله تعالى: (...يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) .
فأية حسرة هذه التي يذكرها الله تعالى بتلك الشدة وبهذا التعبير؟ تدبّر في هذه الآية القرآنية الشريفة ولا تمرّ عليها دون تأمل.
وتدبّر أيضا آية (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).
حقا فكر يا عزيزي! القرآن ـ أستغفر الله ـ ليس بكتاب قصة، ولا بممازح لأحد، أنظر ما يقول ... أي عذاب هذا الذي يصفه الله تبارك وتعالى وهو العظيم الذي لا حد ولا حصر لعظمته ولا انتهاء لعزته وسلطانه، يصفه بأنه شديد وعظيم ... فماذا وكيف سيكون هذا العذاب؟! الله يعلم، لأن عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوره.
وهنا أنقل لك حديثاً شريفا عن الشيخ الجليل صدوق الطائفة، لي تعرف ماهية الأمر وعظمة المصيبة، مع أن هذا الحديث يتعلق بجهنم الأعمال وهي أبرد من جميع النيران.
روى الصدوق، بإسناده عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يَوْمٍ قَاعِداً إِذْ أَتَاهُ جَبْرائيلُ وَهُوَ كَئيبٌ حَزينٌ مُتَغَيِّرُ اللَّونِ فقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: يا جَبْرائِيلُ مَا لي أَرَاكَ كئِيْباً حَزِيناً؟ فقال: يا مُحَمَّد فَكَيْفَ لا أكُونُ كَذَلِكَ وإِنَّما وُضِعَتْ مَنافيخُ جَهَنَّمَ اليَوْمَ. فَقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَمَا مَنَافيخُ جَهَنَّمَ يَا جَبْرائِيل؟ فقال: إنَّ اللهَ تَعَالى أَمَرَ بالنَّارِ فأُوْقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُوْقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُوْقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عامٍ حَتَّى اسودّت وهي سَوداءُ مُظلِمَةٌ فَلَوْ أنَّ حَلْقَهً مِنَ السِّلْسِلَةِ التي طُولُها سَبْعُونَ ذِراعاً وُضِعَتْ عَلَى الدُّنْيَا، لَذَابَتْ الدُّنْيَا مُنْ حَرِّهَا وَلَوْ أَنِّ قَطْرةً مِنَ الزَّقُومِ وَالضّريعِ قَطَرَتْ فِي شَرَابِ أَهْلِ الدُّنْيِا َمَاتُوا مِنْ نَتْنِهَا. قَالَ: فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم وَبَكى جِبْرائيل فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهُمَا مَلَكاً. إنَّ رَبَّكُمَا يَقْرَأُكُمَا السَّلامَ وَيَقُولُ: إِنِّي أمِنْتُكُمَا مِنْ أَنْ تَذْنِبَا ذَنْباَ أُعَذِّبكُمَا عَلَيْهِ" .
أيها العزيز... فكِّر وتدبر بدقة في مضمون هذا الحديث القاصم للظهر، ألا ينبغي لك أن تهيم في الصحاري، كمن أصابه المسّ؟!. ماذا حدث لنا لكي نبقى إلى هذا الحدّ في نوم الغفلة والجهالة؟! أنزلت علينا مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل ملائكة أعطتنا الأمان من عذاب الله، في حين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأولياء الله، لم يقر لهم قرار إلى آخر أعمارهم من خوف الله، لم يكن لهم نوم ولا طعام؟ علي بن الحسين وهو إمام معصوم، يقطع القلوب بنحيبه وتضرعه ومناجاته وعجزه وبكائه، فماذا دهانا وصرنا لا نستحي أبدا فنهتك في محضر الربوبية كل هذه المحرمات والنواميس الإلهية؟ فويل لنا من غفلتنا، وويل لنا من شدة سكرات الموت، وويل لحالنا في البرزخ وشدائده، وفي القيامة وظلماتها ويا ويل لحالنا في جهنم وعذابها وعقابها.
فصل: في معالجة المفاسد الأخلاقية
أيها العزيز؛ انهض من نومك، وتنبه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقية، وما دامت قواك تحت تصرفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلب عليك ـ بعد ـ الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج، أعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب ....
وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة.
وعلى أيّ حال؛ أطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شك في أن هذا الخلق القبيح، سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق، وتحلّ محلهم الجنود الرحمانية.
فمثلاً من الأخلاق الذميمة التي تسبب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطه القبر، وتعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلة، وهو وليد الغضب والشهوة، فإذا كان الإنسان المجاهد يفكر في السمو والترفع، عليه ـ عندما يعترضه أمر غير مرغوب فيه حيث تتوهج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيء من القول ـ عليه أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكر سوء عاقبة هذا الخلق القبيحة، ويبدي بالمقابل مرونة، ويلعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.
إني أتعهد لك بأنك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته عدّة مرّات، فإن الخلق السيء سيتغير كلياً، وسيحلّ الخلق الحسن في عالمك الباطن، ولكنك إذا عملت وفق هوى النفس، فمن الممكن أن يبيدك في هذا العالم نفسه، وأعوذ بالله تعالى من الغضب الذي يهلك الإنسان في آن واحد في كلا الدارين .
أو إذا كنت ـ لا سمح الله ـ من أهل الجدل والمراء في المناقشات العلمية كما عليه بعض طلاب العلوم الدينية نحن الطلبة، المبتلين بهذه السريرة القبيحة، فاعمل فترة بخلاف النفس، فإذا دخلت في نقاش مع أحد الأشخاص في مجلس ما، ورأيت أنه يقول الحق فاعترف بخطأك وصدّق قول المقابل، والمأمول أن تزول هذه الرذيلة في زمن قصير.
رُوِىَ عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الأَصْحَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم يَوْماً وَنَحْنُ نَتَمَارى فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدّين فَغَضَبَ غَضَباً شَدِيداً لَمْ يَغضَب مِثْلَهُ، ثُمَّ قالَ إنَّما هَلَكَ مَنْ كَاَنَ قَبْلَكُم بِهَذا. ذَرُوا المِرَاءَ فَإِنَّ المُؤْمِنَ لا يُمَارِي، ذَرُوا المِرَاءَ فَإِنَّ المُمَارِيَ قَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُةُ، ذَرُوا المِرَاء فَإنَّ المُمَارِي لا أَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ذَرُوا المِراءَ فَإِنِّي زَعيمٌ بثَلاثِ أَبْيَاتٍ فِي الجَنَّةِ فِي رِياضِهَا وَأَوْسَطِهَا وَأعلاها لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وهُوَ صَادِقٌ ذَرُوا المِرَاءَ فَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَهَانِي عَنْهُ رَبّي بَعْدَ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ المِرَاءُ" .
"وعنه أيضا: لاَ يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيَقَة الإِيمَانَ حَتَّى يَدَعَ المِرَاءَ وَإنْ كَانَ مُحِقّاً" .
فما أقبح أن يحرم الإنسان شفاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة مغالبة جزئية ليس فيها أي ثمر ولا أثر! وما أقبح أن تتحول مذاكرة العلم ـ وهي أفضل العبادات والطاعات إذا كانت بنيَّة صحيحة ـ إلى أعظم المعاصي وتلو مرتبة عبادة الأوثان بفعل الجدل والمراء!.
وعلى أي حال؛ ينبغي للإنسان أن يأخذ بنظر الاعتبار حد كل واحد من الأخلاق القبيحة الفاسدة، ويخرجها من مملكة روحه بمخالفة النفس. وعندنا يخرج الغاصب، يأتي صاحب الدار نفسه، فلا يحتاج ـ حينذاك ـ إلى مشقة أخرى أو إلى طلب العود منه إلى الدار.
وعندنا يكتمل جهاد النفس في هذا المقام، ويتوفق الإنسان إلى إخراج جنود إبليس من هذه المملكة، وتصبح مسكناً لملائكة الله ومعبدا لعبادة الصالحين، فحينذاك يصبح السلوك إلى الله يسيرا، ويتضح طريق الإنسانية المستقيم، وتفتح أمام الإنسان أبواب البركات والجنات، وتغلق أمامه أبواب جهنم والدركات، وينظر الله تبارك وتعالى إليه بعين اللطف والرحمة، وينخرط في سلك أهل الإيمان، ويصبح من أهل السعادة وأصحاب اليمين، ويفتح له طريقا إلى باب المعارف الإلهية ـ وهي غاية خلق الجن والأنس ـ ويأخذ الله تعالى بيده في هذا الطريق المحفوف المخاطر.
شبكة أهل البيت(ع) للاخلاق الاسلامية