ان ما قامت به السيدة زينب(ع) من دور رسالي كبير وما نهضت به من دور إنما كان نتيجة لتفاعلها مع المدرسة القرآنية. أقصد بالأدب القرآني هنا تأثير القرآن لفظاً ومعنى في الخطاب الزينبي، وذلك من خلال خطبها وحقيقة تفاعل هذا البيت الكريم بالقرآن وتربيتهم القرآنية وتوهّج الروح القرآنية في نفوسهم، وانطلاقهم في دعوتهم على أساس كتاب الله العزيز.
أذكر حقيقة أحسبها هامة في واقعنا الراهن، وهي ضرورة حضور القرآن في قلوبنا ونفوسنا وسلوكنا ونهج حياتنا، وهذا لا يتحقق إلاّ إذا تفاعلنا مع الأدب القرآني وعشنا جمال ألفاظه وعباراته وتمتعنا بموسيقاه وأساليبه، كما أنه لا يتحقق إلا إذا شعرنا بكل وجودنا بأننا نحن المخاطبين بآيات الكتاب العزيز.
نقف أولاً عند بعض مقاطع خطبتها في الكوفة:
تقول لأهل الكوفة: يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رَقأت الدمعةُ، ولا قطعت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم.
مثّلت السيدة قتلة الحسين وخاذليه بما مثّل به القرآن تلك الجماعة المهزومة المتردّدة التي تردّدت في عهودها وأيمانها فقال لهم الله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل:91- 92).
عجيب تشابه المترددين والمتخاذلين.. هذه الجماعة التي يخاطبها القرآن تنقض العهد والأيمان لأنها ترى أمة كفار قريش أربى من أمة المسلمين. وهؤلاء القوم الذين تخاطبهم زينب يرون يزيد بهيله وهيلمانه وعظمته وسلطانه أربى من الحسين وأهل بيته، فابتلاهم الله بين المصلحة الآنية الضيقة وبين المصلحة الحقيقية التي توفر لهم عز الدنيا والآخرة، فاختاروا عرض هذا الأدنى وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.
وتقول في مقطع آخر من تلك الخطبة: أتبكون وتنتحبون؟!! أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلا.
وفي هذا العبارة إشارة رائعة إلى قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (التوبة:81-82).
وفي مقطع آخر من نفس الخطبة تقول: «لقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شاب أهل الجنة وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم ومنار حجّتكم، ومدره ألسنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضرُبت عليكم الذّلة والمسكنة».
عبارتها: ألا ساء ماتزرون، مستلهمة من قوله سبحانه: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (الأنعام:31).
ومستلهمة من مقطع قرآني عظيم في دلالته على الموقف يقول سبحانه: (فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ، لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ، قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) (النحل: 22- 26).
عقيلة بني هاشم كانت تخاطب جماعة مسلمة تبكي على مقتل الحسين، ولكنها كانت ترى أن هذا الإسلام لم يبلغ في نفسها درجة الإيمان، ولو كان قد بلغ درجة الإيمان لتحوّل إلى طاقة روحية تأبى الضيم وتدافع عن الحق وتنصر الحسين وتقارع دولة الظالمين. ولكن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، فكانوا للظالمين عوناً، لم يشاركوا مسيرة الحسين إلاّ بدموعهم، ولا قيمة للدموع التي لم تصحبها حركة إيمانية نحو تحقيق أهداف الحسين. هؤلاء استكانوا للدنيا وانشدّوا بالمال والمتاع ظانين أنهم سيأمنون وسيرغدون، دون شعور منهم بأنّ كل شيء بيد الله لا بتدبيرهم وتقديرهم.
ثم قولها: «بُعداً» و«سحقاً» من أدب القرآن في مقارعة المنحرفين عن طريق رسالة الأنبياء:
( بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هود: 44) (بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود: 60) (أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ) (هود: 68) (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (هود: 68).
(فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44) (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك: 11).
وقولها(ع): «فلقد خاب السعي». تعبير يتكرر نظيره في القرآن الكريم عن خيبة كلِّ الجبارين المفترين والظالمين والفاجرين:
(وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ); (ابراهيم:15). ( وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) (طـه:61). ( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طـه:111). (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:10) .
وقولها: «وتبت الأيدي». إشارة إلى ما نزل في ذمّ أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(المسد:1). وهو ذمّ للمكذبين الذين يقفون في صفّ أعداء الله.
وقولها: «وخسرت الصفقة». تعبير قرآني يتكرر لدى الحديث عن خسران الذين يركّزون على ذاتهم، ويتعاملون مع كل شيء، من خلال تحقيق مصالحهم الذاتية: مصالحهم ومصالح ذويهم وأهليهم، يقول القرآن عنهم بأنهم لم يحققوا حتى لأنفسهم وأهليهم ربحاً، بل إن كل تعاملهم الذاتي خاسر: (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)(المؤمنون:103)
( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر:15).
ومفهوم الربح والخسارة له أهميته الكبرى في التصوّر القرآني. ومن هذا المفهوم تخاطب السيدة زينب أهل الكوفة بأنهم تعاملوا مع الحسين ومع يزيد بما تمليه عليهم مصالحهم الذاتية الآنية الضيقة وهي صفقة خاسرة.
وقولها عليها السلام: «وبؤتم بغضب من الله وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة».
مستلهم من آية تتحدث عن بني إسرائيل الذين أبوا إلاّ أن يهبطوا إلى أدنى مستوى من الطموح، وأحطّ درجة من الأماني والآمال، فكانت طموحهم وأمانيّهم لا تتعدى شهوات البطن ومتطلبات إفراز المعدة، فذلّوا وحاق بهم عذاب ربّ العالمين بعد أن أبعدتهم هذه الطموحات الهابطة عن السير نحو الأهداف السخية التي وضعتها أمامهم الرسالة الإلهية:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة:61).
ومن خطبة الشام حيث بدأت بقولها: الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله كذلك حيث يقول: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) (الروم:10).
هذه الخطبة تتجه فيها العقيلة إلى يزيد وتبدأها بهذه الآية التي جاءت في سياق الحديث القرآني عن المتجبرين الذين يتمادون في غيهم دون الاتعاظ بمن سبقهم من الظالمين. يقول سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا، أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، ثم كانَ عاقبة)(الروم:9 - 10).
وفي الآية الكريمة التي تلتها السيدة زينب (ع) سنة إلهية تنطبق على كل المتمادين في غيهم والغارقين في طغيانهم، هؤلاء يعمدون إلى تكذيب الرسالات الإلهية كي يتخلصوا من عذاب الضمير ووخز الوجدان، وهي سنة تنطبق على كل الغارقين في أوحال الرذيلة. والاتجاه المادي في النظرة إلى الكون والحياة كان غالبا ينطلق من رفض نفسي لمدرسة الأنبياء قبل أن يكون رفضاً عقلياً وفكرياً. ينطلق من رغبة في إزالة الموانع التي تقف بوجه جموح الشهوات واستفحال الغرائز. وما أكثر انطباقه على يزيد في سلوكه وفي عدائه للرسالة الإلهية.
وتخاطبه في مقطع آخر بقولها: «فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتردن على رسول الله(ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من رحمه في عترته لحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ لهم بحقهم ».
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169).
وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق حديث القرآن عن موقف المنافقين بعد معركة أُحد، هؤلاء الذين يتظاهرون بالارتفاع إلى مستوى الرسالة ومستوى التضحية بألسنتهم، ولكنهم في واقعهم حريصون على الحياة الدنيا مهما كلّف الثمن. الآية والآيات السابقة تتحدث عنهم كيف كانوا يخاطبون المؤمنين وكيف كانوا يخاطبون أصحابهم من المنافقين، ثم تبيّن لهم معنى الموت في سبيل الله، والسعادة التي ينالها الشهداء:
(وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ، الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)( آل عمران: 167-170).
وما أجمل هذا الدرس القرآني الذي تقدمه زينب ليزيد كما قدّمه جدّها من قبل لمنافقي زمانه.
وفي جزء آخر من هذه الخطبة تقول ليزيد: «وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا وأيكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً».
وفي العبارة تضمين مقطع قرآني يتحدث عن اغترار المنحرفين عن طريق الله بظواهر الحياة الدنيا وزينتها وبهرجتها، معتبرين هذه المظاهر الدنيوية معياراً للتفاضل. وهؤلاء الذين مكّنوا ليزيد من رقاب المسلمين ما أرادوا إلا هذا المتاع الرخيص، وإلاّ هذه المغانم الزائلة وهذا العَرَض التافه.
يقول سبحانه متحدثاً عن منطق التفاضل عند هؤلاء المنحرفين ويردّ عليه بأنه منطق تافه سرعان ما ستتبيّن تفاهته إما في الدنيا وإما في الآخرة، وسرعان ما سيعلمون أن معيار تفاضلهم كان يقوم على أوهام: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا) (مريم: 73-75).
وتقول عليها السلام في مقطع آخر من خطبة الشام: «ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنَّنا وشيكاً مغرماً حيث لا تجد إلا ما قدّمت يداك وما ربّك بظلاّم للعبيد».
وهذا مستلهم من سياق قرآني يركز على النفر الذي يركبه الغرور فلا يهتدي بعلم ولا يستنير بكتاب، بل يدفعه استكباره إلى إضلال الآخرين فيقول عنه القرآن الكريم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيد) (هود: 8-10).
وكم هي قريبة مناسبة الخطاب القرآني ومناسبة الخطاب الزينبي!! وما أجمل التضمين والسياق!!
وتقول في نهايات الخطبة: «وهل رأيك إلا فَنَد وأيامك إلا عدد وجمعك إلاّ بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين».
تضمين قرآني مستلهم من سياق قرآني يتحدث أيضاً عن المكذبين والمفترين على الله. يقول سبحانه: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (هود:18).
بقلم : أ.د محمد آذرشب