اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
علي بن أبي طالب اعجوبة الخالق ومعجزة الرسول
«ياعلي! لولا أني أخشى أن تقول فيك فئة من الناس ماقالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالة، ألّا تمرّ على أحد من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك».
النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله
ثقافة الإمام *
- أقل الناس قيمة أقلّهم علماً.
الإمام علي سلام الله عليه
- لا بارك الله في معضلةٍ لا تحكم فيها، يا أبا الحسن!
عمر بن الخطاب
***
عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه فذّ من إفذاذ العقل. وهو بذلك قطب الاسلام وموسوعة المعارف العربية ليس من علم عربيّ إلا وقد وضع أصله أوساهم في وضعه. أما بلاغته، وأما عبقريته في الاجتماع، ففيهما قول كثير. أمّا علومه ومواهبه في الفقه والقضاء والقضاء والعربية وما إليها، فهي التي سنتحدث عنها هذا موجزين، مضافاً إليها ما اقتُضيت إضافته من الكلام على حكمته.
وإنّا إذا أوجزنا القول في هذه السعة من ثقافته ومواهبه فلأنّ القائلين فيها كثير. ولأنّ الباحثين قد أوسعوها درساً. وغايتنا أن نختصر حيث أسهبوا، ونُسهب حيث أوجزوا أو أهملوا. ولنبدأ بالكلام على القرآن والحديث، ثم على غيرهما، لندرك إلى أيّ مدىً بعيد أصاب النبيّ في وصفه علياً ساعة قال: ‹أنا مدينة العلم وعليّ بابها›.
علي ربيب رسول الله
رُبّي عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه برعاية النبي صلى الله عليه وآله ابن عمه وتتلمذ له. وورث أخلاقه وأسلوبه في النظر إلى الحياة والخلق. وجرى الميراث في قلبه وعقله سواء بسواء. وعكف على دراسة القرآن دراسة المتبصّر الحكيم الذي ينفذ الى لباب الأشياء فيعي حقائقها ويستوحيها. وقد أتيح له أن ينصرف الى هذه الدراسة العميقة النافذة خلال الزمن الطويل الذي استخلف فيه أبو بكر، فعمر وعثمان. فاذا هو يتقن القرآن نصاً ويحياه جوهراً فيستقيم به لسانه كما يستقيم جنانه.
أما علمه بالحديث فلا يشقّ له فيه غبار. وليس في ذلك ما يستغرب وقد رافق الإمام النبي أطول زمنِ رافقه فيه مجاهد أو صحابي. فسمع منه ما سمعه الآخرون وما لم يسمعوه. ويقال ان علياً لم يكن يروي من الحديث إلا ما سمعه بنفسه من الرسول لأنه كان مطلق الايمان بأنّ كلمةً واحدةً من حديث النبي لم تفت قلبه وأذنيه. وقيل لعليّ: ‹ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حديثاً؟› فقال: ‹إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتّ ابتدأني!›
علي أحسنهم إسلاما وعلما
ومن الطبيعي أن يحسن علي بن أبي طالب الاسلام فقهاً كما أحسنه عملا. فان معاصريه لم يعرفوا من هو أفقه منه وأصلح فتوى. ولعلمه الكثير وفقهه كان موضع ثقة أبي بكر وعمر بن الخطاب في ما تعسّر حلّه من المشكلات والمعضلات، كما كان مرجعهما الأخير في الاستشارة. وطالما أفادهما من مشورته وعلمه. وكما كان مرجعاً لأبي بكر وعمر في شؤون الفتوى، كان كذلك مرجعاً لسائر الصحابة. وندر أن نهضتْ لغيره حجّة أفضل من حجته في مسائل الشريعة.
ولم يقف علم عليّ بالفقه عند علمه بنصوصه وأحكامه، بل تجاوزه الى العلم بأدوات الفقه ومنها علم الحساب الذي كانت معرفته فيه تفوق معرفة معاصريه.
واذا كان أبو حنيفه من فقهاء العصور الاسلامية التي تلت عصرالإمام عليّ، فانما هو تلميذ لعليّ سلام الله عليه. فقد قرأ أبو حنيفة على الإمام الصادق جعفر بن محمد سلام الله عليهما، وحعفر تتلمذ لأبيه، إلى أن ينتهي الأمر إلى عليّ بن أبي طالب. كذلك مالك ابن انس فانه تلميذ عليّ سلام الله عليه بالتسلسل. فقد أخذ عن ربيعة وربيعة أخذ عن عكرمة وعكرمة أخذ عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عباس قرأ على عليّ سلام الله عليه. وقيل لابن عباس استاذ اولئك جميعاً: ‹أين علمك من علم ابن عمك؟› ـ يراد علي ـ فقال: ‹كنسبة قطرة من المطر الى البحر المحيط!›
أقضاكم علي
يجمع الصحابة على ان النبي قال مرة:‹أقضاكم عليّ›. فقد كان عليّ أقضىأهل زمانه لأنه كان أعلمهم بالفقه والشريعة وهما في الاسلام مصدر القضاء. ثم انه أوتي من قوة العقل ما يكشف له عن الوجه الأكثر صواباً والأشدّ انطباقاً على المنطق اذا اختلفت الوجوه. كما أوتي من صفاء الوجدان ما يوجّهه في استخدام علمه في القضاء أصدق توجيه، فيعدل في الحكم على اساسٍ من العقل والضمير جميعاً. ومن المأثور عن عمر بن الخطاب قوله لعليّ: ‹لا بارك الله في معضلة لم تحكم فيها يا أبا الحسن› وقوله: ‹لولا عليّ لهلك عمر›. وقوله أيضاً: ‹لا يُفتينّ أحدٌ في المسجد وعليّ حاضر!›.
ولما كان علي بن أبي طالب من الذين لا يكتفون بالنظر في الأمور نظراً عابراًَ، بل يتوخّون أن ينفذوا من كل مشكلة الى لبابها، فقد أمعن النظر في القرآن وموضوعه الدين إمعاناً ينساق اليه المفكرون انسياقاً. فاذا به يجعل الدين موضوعاً من موضوعات التفكير والتأمل والتبصّر. وما كان لعبقري كعليّ أن يكتفي من الدين بظاهره من إجراء الأحكام وإقامة الحدود وطقوس العبادة.
فاذا الناس ـ معظم الناس ـ ينصرفون إلى ظاهر الدين وإلى نتائجه في المعاملة والقضاء انصرافاً حسابياً أو يكاد يكونه. وإذا عليّ يفقه الدين ـ إلى جانب فقهه الظاهر من أحكامه ـ على أنه موضوعٌ للفكر المحض والدراسة الخالصة والتأمل البعيد. فلا ينتهي من التفكير والدرس والتأمل إلا ليثق بأن هذا الدين إنما يقوم على ركائز وأركان تتفاعل وتتقارب وتتحد في أصولها وحقيقتها.
علي أبو العلم
من هنا نشأ علم الكلام أوفلسفة الدين الإسلامي. ومن هنا كان عليّ أول المتكلمين بل أبا علم الكلام. فان الأوائل من أصحاب هذا العلم لم يستقوا إلا من معين علي بن أبي طالب، ولم تتوفر لديهم أسبابه إلا عن طريقه.
وإن الأواخر ظلوا يهتدون به ويعتبرونه إمامهم وإمام الأوّلين. فهذا واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة وهي أول فرقة إسلامية تجاهد لأن تعطي العقل مداه في موضوعات الدين، هو تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبوه تلميذ علي ابن أبي طالب. وما يقال في المعتزلة يقال في الأشعرية. فإن الأشاعرة تلاميذ المعتزلة الذين تلقّوا علمهم عن واصل بن عطاء تلميذ علي بالتسلسل.
ثم ان التصوّف الاسلامي واجدٌ أصوله وبذوره في نماذج شتّى من نهج البلاغة. وقد استند أهل التصوف في الإسلام إلى هذه النماذج قبل أن يعرف المسلمون أهل الفكر اليوناني. وقبل أن ينقلوا إلى العربية فلسفة الاغريق والهنود وغيرهم. ومن شاء فليرجعْ الى حديث أبي العيناء لعبيد الله بن يحيي بن خاقان وزير المتوكل، في نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ففيه كثيرٌ من الإيضاح لما ذكرنا.
علوم العربية أسسها علي سلام الله عليه
وكأن الله أراد أن يكون علي بن أبي طالب ركن العربية في علومها كما كان ركن الاسلام في علومه. فان أهل زمانه لم يكن فيهم من يقف إلى جانب الإمام في علوم العربية. وقد ساعده تبحّره فيها، ومنطقه السليم، وقواه الذهنية الخارقة، ان يبادر الى ضبط العربية بأصولٍ وقواعد تستند الى الدليل والبرهان، مما يشير الى مقدرته العقلية على الوزن والقياس. فهو بحقٍ واضع الأساس في العلوم العربية وممهّد طريقها لكل من أتى بعده. ومما يثبته التاريخ ان علياً هو واضع علم النحو. فقد دخل عليه تلميذه وصاحبه أبو الأسود الدؤلي يوماً فرآه مطرقاً مفكراً. فقال له: فيم تفكر يا أمير المؤمنين قال: إنّي سمعت ببلدكم هذا ـ يعني الكوفة ـ لحناً، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية.
ثم ألقى إليه صحيفة فيها: الكلام اسم وفعل وحرف الخ...
ويروون ذلك على صورة أخرى فيقولون ان أبا الأسود الدؤلي شكا إلى الإمام شيوع اللحن على ألسنة العرب لاختلاطهم بالأعاجم بعد الفتوحات العربية والاعاجم أهل رطانة ولحن. فأطرق الامام هنيهةً ثم قال لأبي الأسود: اكتب ما أملي عليك. فتناول أبو الأسود قلما وصحيفة. فقال عليّ: ان كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف. فالاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. وان الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، يعني اسم الاشارة على قول بعض النحاة. ثم قال لأبي الاسود: ‹أنحُ هذا النحو يا أبا الأسود›.
فعرف هذا العلم بعلم النحو من ذلك اليوم.
علي عين الحكمة
ومن مزايا عليٍّ حدة الذكاء وسرعة الفطنة. ومواقفه الارتجالية الكثيرة تشهد له بقوة البديهة التي لم يكن يجاريه فيها أحد. وطالما كان يرسل المثل السائر والحكمة الرائعة وهو يرتجل في أنصاره أو في أعدائه. وربما كان عليّ فريد زمانه في سرعة الفطنة الى معضلات الحساب. وكان معاصروه يعدون هذه المعضلات ألغازاً قلما تفقه سرها العقول وقلما تدرك الى حلها سبيلا. ومما يروى في هذا المجال أن امرأة جاءت اليه وشكت من أمرها أن أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يقسم لها من ميراثه هذا إلا ديناراً واحداً. فقال لها: لعلّه ترك زوجة وابنتين وأماً واثني عشر أخاً وأنت؟ فكان كما قال!
وفيما كان يخطب ذات يومٍ على منبر الكوفة، سأله أحدهم عن رجل مات وترك زوجة وأبوين وابنتين. فأجاب من فوره: صار ثُمنها تُسعاً! وسميت هذه الفريضة بالفريضة المنبرية لأنه أفتى بها وهو على المنبر.
والحكمة بما هي نظر نافذ وعقلٌ محيط وحسّ أصيل وقوةٌ على الحصر والاستنباط والايجاز ثم جهد دائب على ذلك جميعاً، إنما هي من آثار الامام عليّ. فان له في ذلك ما يجعل له مركزاً جليلاً بين حكماء الأمم وأفذاذ التاريخ. ولعمري ان أشباه عليّ في القدرة على استخراج النظريات من الحوادث وإرسالها أمثالا خالدة، لقليلٌ قليل! بل لا نظير له. وقد كان لهذه الحكمة العلوية أبلغ الأثر في توجيه الثقافة الاسلامية وفي طبعها بطابع انساني مصدره، في الدرجة الأولى، اثنان: محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب!
وقد أكثر الإمام من النظر الفلسفي في شؤون الحياة والكون والمجتمع البشري، وفي أمور التوحيد والالوهة والتطلع الى ما وراء الطبيعة. فكان، كما مرّ معنا، مؤسس علم الكلام وفلسفة الالهيات في الاسلام. وكان استاذاً اعترف برشده وأصالته كل من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات وهم له اتباعٌ شارحون.
وفي كتابه العظيم ‹نهج البلاغة› فيضٌ من فرائد الحكمة التي يجلس بها في الصف الأول بين حكماء الأمم.
وحين قال النبي: ‹علماء أمّتي كأنبياء اسرائيل›، ألم يكن يقصد علياً بالذات.
منقول من موقع السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله