معالم الشبهة. من أجل توضيح هذه الشبهة نذكر أمورًا:
الأمر الأول: الهدف من نزول القرآن.
إن الهدف والغرض من نزول القرآن الكريم هو هداية الخلق، كما أفصح القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، وقال عز وجل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقال أيضًا: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، الهدف والغرض من نزول القرآن الكريم هداية المجتمع البشري.
الأمر الثاني: لزوم التناسب بين الوسيلة والهدف.
إن مقتضى الحكمة التناسب والانسجام بين الوسيلة والهدف، فإن الإنسان إذا أراد تحقيق أهداف معينة فمقتضى الحكمة أن تكون أساليبه ووسائله منسجمةً مع هذه الأهداف، بحيث تكون طريقًا للحصول على تلك الأهداف، فمتى ما كان هناك تباينٌ وتغايرٌ بين الوسيلة والهدف، بحيث إن الوسيلة لا تؤدي إلى تحقيق الهدف، فهذا منافٍ للحكمة، بل كما يعبّر عنه علماء الكلام بأنه قبيحٌ؛ لأن نقض الغرض قبيح.
الأمر الثالث: اشتمال القرآن على أسلوب التعالي.
إنّ القرآن الكريم مشتملٌ على أسلوب التعالي، أي أن الله تبارك وتعالى يتحدث مع الخلق بلغة التعالي، وبأسلوب التعالي، وأسلوب التعالي لا يصب في تحقيق الهدف من القرآن الكريم، ألا وهو الهداية؛ لأن أسلوب التعالي يحجز حاجزًا بين المحدث والمخاطب، بين المتكلم والمتلقي، ولأن أسلوب التعالي يخلق حاجزًا سميكًا بين المتحدث والمتلقي لأجل ذلك لا يكون أسلوب التعالي محققًا للهدف، ألا وهو التربية والهداية، وأخذ يد العبد إلى ما فيه صلاحه وهدايته. وأسلوب التعالي إنما نستجليه ونستوضحه في القرآن الكريم في عدة موارد:
المورد الأول: لغة المن.
إن القرآن الكريم يتحدث بلغة المن، دائمًا يذكر النعمة، يقول: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، نحن خلقناكم، نحن صورناكم، نحن رزقناكم... إلخ، وذكر النعم بتكرار وفي كثير من السور يعدُّ منًّا على العبد، فإن الله يمن على عبده بأن رزقه، بأن خلقه، بأن صوّره، بأن أنعم عليه، وأسلوب المن منفر، فإذا كان مثلًا لديك أب أو أستاذ، ودائمًا يمن عليك ويقول: أنا أعطيتك، أنا أعطيتك، أنا وهبتك، أنا رزقتك، أنا نفعتك... إلخ، فإن التكرار في المن والإكثار من ذكر النعم يوجب نفورًا من المستمع والمخاطب، فلأجل ذلك لا يكون هذا الأسلوب - ألا وهو أسلوب ذكر النعم بنحو المن المتكرر - وسيلةً لتحقيق الهدف من نزول القرآن، ألا وهو هدف الهداية.
المورد الثاني: مورد الذم.
إننا نرى القرآن يكرّر الذم للمجتمع البشري، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾، ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
هذا الأسلوب - وهو أسلوب ذم المجتمع البشري بذم الأكثرية من المجتمع البشري - أسلوبٌ من أساليب التعالي، وهذا الأسلوب لا يصب في تحقيق غرض وهدف الهداية؛ لأن المربّي الذي يريد أن يربّي الخلق ويهديهم إلى الصراط المستقيم مقتضى هذا الغرض أن يجشعهم على الاعة، أن يمدحهم، أن يذكر النقاط الإيجابية التي يتمتعون بها من أجل أن يحصل لهم الحماس والاندفاع نحو الطاعة، لا أن يصب عليهم الذم، وأن يصب عليهم التقريع، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾، فإن هذا أسلوب منفّرٌ وليس أسلوبًا محبِّبًا.
المورد الثالث: مورد التوبيخ على ترك التعقل.
هناك أكثر من عشرين آية في القرآن الكريم توبّخ على ترك التعقل، مثلًا: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. هذه الآيات الكثيرة التي توبّخ العبيد على ترك التعقل وترك التفكّر، إنما هي تخلق حاجزًا بين الله وبين عباده، لأنك إذا أردت أن تثير عقل شخص حتى يتفاعل مع فكرك، وحتى يتأثر بحديثك، فعليك أن تمدحه بالفكر والعقل، وأن تقول له: أنت ذو عقل، وذو فكر، فاستثمر عقلك، وحرّك تفكيرك، ووجّه مدى نظرك إلى ما أقول، وستصل إلى النتيجة. أما إذا ذممت عقله، وذممت تفكيره، ووبّخت تفكيره، فإن هذا يخلق حاجزًا بينك وبينه يمنعه من التفاعل مع فكرك وحديثك.
المورد الرابع: أسلوب التعظيم.
إن القرآن عندما يعبّر عن الله تبارك وتعالى يعبّر غالبًا بأسلوب التعظيم، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾، ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾، ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فاستخدام التعبير بنحن الذي هو إشارةٌ للعظمة وإشارةٌ للعلو لا ينسجم مع التلطف بالعبد، والتودد له، بحيث ينجذب إلى الطاعة، فإنك إذا أردت أن تربي شخصًا وأن تهديه تعبر عن نفسك بأسلوب متواضع، حتى تذوب فيه الأنانية، وينكسر قلبه لهذا النوع من الهداية والوعظ والإرشاد.
السيد منير الخباز