وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
16- شيخ الإسلام أبو إسحاق الحمويني المتوفّى (722هـ) أخرج في فرائد السمطين عن مشايخه الثلاث: السيّد برهان الدين إبراهيم بن عمر الحسيني المدني، والشيخ الإمام مجد الدين عبد الله بن محمود الموصلي، وبدر الدين محمّد بن محمّد ابن أسعد البخاريّ بإسنادهم عن أبي هريرة أنّ الآية نزلت في عليّ.
17- السيّد علي الهمدانيّ المتوفّى (786هـ) قال في مودّة القربى: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أقبلتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع فلمّا كان بغدير خُمّ نودي الصلاة جامعة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تحت شجرة وأخذ بيد عليّ وقال: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. فقال: ألا مَنْ أنا مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمّ والِ مَنْ والاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ. فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئاً لك يا عليّ بن أبي طالب، أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ. وفيه نزلت: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليكَ من ربّك﴾.
18- بدر الدين ابن العيني الحنفيّ (762هـ- 855) ذكر في قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل. عن الحافظ الواحدي ما مر عنه من حديث حسن بن حماد سجادة سندا ومتنا، ثم حكى عن مقاتل والزمخشري بعض الوجوه الأخرى المذكورة في سبب نزول الآية فقال: قال أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين: معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلما نزلت هذه الآية أخذ بيد علي وقال: مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ13.
19- نور الدين ابن الصبّاغ المالكي المكّي المتوفّى (855هـ) ذكر ما رواه الواحدي في أسباب النزول من حديث أبي سعيد14.
20- نظام الدين القمّيّ النيسابوري قال في تفسيره15 عن أبي سعيد الخدري أنّها نزلت في فضل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيده وقال: مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمّ والِ مَنْ والاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ. فلقيه عمر وقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عبّاس والبراء بن عازب ومحمّد بن عليّ، ثمّ ذكر أقوالاً آخر في سبب نزولها.
21- كمال الدين الميبذي المتوفّى بعد (908هـ) قال في شرح ديوان أمير المؤمنين عليه السلام16: روى الثعلبي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ما قال في غدير خُمّ بعد ما نزل عليه قوله تعالى: [يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك]. ولا يخفى على أهل التوفيق أنّ قوله تعالى: [النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم] يلائم حديث الغدير، والله أعلم.
22- جلال الدين السيوطي الشافعيّ المتوفّى (911هـ) قال: أخرج أبو الشيخ عن الحسن أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أنّ الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزل: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك﴾. وأخرج عبد بن حميد و ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لمّا نزلت: ﴿بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك قال: يا رب، إنّما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع عليّ الناس. فنزلَت [وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته﴾. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك -إنّ علياً مولى المؤمنين- وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس17.
23- السيّد عبد الوهاب البخاريّ (869هـ- 932) في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى﴾. قال: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال في قوله تعالى: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك﴾، أي بلّغ من فضائل عليّ. نزلت في غدير خُمّ فخطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليّ مولاهُ. فقال عمر رضي الله عنه: بخ بخ يا عليّ، أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. رواه أبو نعيم وذكره أيضاً الثعالبي في كتابه.
24- السيّد جمال الدين الشيرازيّ المتوفّى (1000هـ)، روى في أربعينه نزول الآية في غدير خُمّ عن ابن عبّاس.
25- محمّد محبوب العالم حكى في تفسيره الشهير به "تفسير شاهي": ما مرّ عن تفسير نظام الدين النيسابوري.
26- ميرزا محمّد البدخشاني قال في "مفتاح النجا": الآيات النازلة في شأن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام كثيرة جداً لا أستطيع استيعابها فأوردت في هذا الكتاب لبها ولبابها -إلى أن قال-: وأخرج "ابن مردويه" عن زر عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنّا نقرأ على عهد رسول الله.
وذكر إلى آخر ما مرّ عن ابن مردويه ثمّ روى من طريقه عن أبي سعيد الخدري وفي آخره، فنزلت: [اليوم أكملت لكم دينكم ..]، وروى ما أخرجه الحافظ الرسعني.
27- القاضي الشوكاني المتوفّى (1250هـ) في تفسيره(18) قال: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك ..﴾ على رسول الله يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾ -أنّ علياً مولى المؤمنين-﴿.. وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس.
28- السيّد شهاب الدين الآلوسي الشافعيّ البغداديّ المتوفّى (1270هـ) قال19: زعمت الشيعة20 أنّ المراد من الآية بما أنزل الله إليك خلافة عليّ كرّم الله وجهه، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله عنهما: إنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف علياً كرّم الله تعالى وجهه فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له عليه السلام بما أمره بأدائه، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في عليّ كرّم الله وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته، فتخوّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية، فقام بولايته يوم غدير خُمّ وأخذ بيده، فقال عليه الصلاة والسلام: مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمّ والِ مَنْ والاهُ، وعاده مَنْ عاداهُ.
وأخرج الجلال السيوطيّ في الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ..﴾ -أنّ علياً ولي المؤمنين- ﴿.. وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته﴾.
29 - الشيخ سليمان القندوزي الحنفي المتوفّى (1293هـ)(21) قال: أخرج الثعلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس وعن محمّد الباقر رضي الله عنهما قالا: نزلت هذه الآية في عليّ. أيضاً الحمويني في فرائد السمطين أخرجه عن أبي هريرة، أيضاً المالكي أخرج في "الفصول المهمّة" عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية في عليّ في غدير خُمّ. هكذا ذكره الشيخ محيي الدين النووي.
30 - الشيخ محمّد عبده المصريّ المتوفّى (1323هـ)22 قال: روى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري: أنّها نزلت يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب.
* ( القول الفصل ) *
هذا ما وسعنا من الحيطة بأحاديث الباب وأقواله في نزول الآية الكريمة حول قصّة الغدير، وذكر المتوسّعون في النقل وجوهاً أخر لنزولها، وأوّل من عرفناه ممّن ذكرها الطبريّ في تفسيره23، ثمّ تبعه من تأخّر عنه وأنهاها الفخر الرازي إلى تسعة أوجه24 وعاشرها ما ذكرناه سالفاً.
أمّا ما ذكره الطبري، فعن ابن عبّاس: يعني إن كتمت آية ممّا أنزل عليك من ربّك لم تبلّغ رسالتي. وهو غير مناف لنزولها في قصة الغدير، سواء أخذنا لفظة آية في قوله نكرة محضة، أو نكرة مخصّصة، فعلى الثاني يراد بها ما نحاول إثباته بمعونة ما ذكرناه من الأحاديث والنقول. وعلى الأوّل فهو تأكيد لإنجاز ما أمر بتبليغه بلفظ مطلق ويكون حديث الغدير أحد المصاديق المؤكّدة.
وعن قتادة: أنّه سيكفيه الناس ويعصمه منهم وأمره بالبلاغ. وهو أيضاً غير مضادّ لما نقوله، إذ ليس فيه غير أنّ الله سبحانه ضمن له العصمة والكفاية في تبليغ أمر كان يحاذر فيه اختلاف أمّته ومناكرتهم له، ولا يمتنع أن يكون ذلك الأمر هو نصّ الغدير، ويتعيّن ذلك بنصّ هذه الأحاديث.
وعن سعيد بن جبير، وعبد الله بن شقيق، ومحمّد بن كعب القرظي، وعائشة واللفظ لها: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: والله يعصمك من الناس. قالت: فأخرج النبيّ رأسه من القبّة فقال: أيها الناس، انصرفوا فإنّ الله قد عصمني. وليس فيه إلاّ أنّه صلّى الله عليه وآله فرّق الحرس عنه بعد نزول الوعد بالعصمة من غير أيّ تعرض للأمر الذي كان يخشى لأجله بادرة الناس في هذه القصّة أو مطلقاً، وليس من الممتنع أن يكون ذلك مسألة يوم الغدير، ويعينه الروايات المذكورة في غير واحد من الكتب.
وذكر الطبري أيضاً في سبب نزول الآية عن القرظي: إنّه كان النبيّ إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة يقيل تحتها فأتاه أعرابيّ فاخترط بسيفه ثمّ قال: من يمنعك منّي؟ قال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منها. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله: والله يعصمك من الناس.
وهو يناقض لمّا تقدّم من أنّه صلّى الله عليه وآله كان يحتفّ به الحرس إلى نزول الآية، فمن المستبعد جداً وصول الأعرابي إليه وهو نائم، والسيف معلّق عنده، والحرس حول قبّة النبيّ. على أنّ لازم هذا: التفريق في نزول الآية، فإنّه ينصّ على أنّ النازل بعد قصة الأعرابي هو قوله تعالى: ﴿.. والله يعصمك من الناس﴾. ولا مسانخة بين هذه القصّة وصدر الآية، ومن المستصعب البخوع لما تفرّد به القرظي في مثل هذا.
وليس من المستحيل أن يكون قصّة الأعرابي من ولايد الاتفاق حول نصّ الغدير ونزول الآية فحسب السذج أنّها نزلت لأجلها، وفي الحقيقة لنزولها سبب عظيم هو أمر الولاية الكبرى، ولم تك هاتيك الحادثة بمهمّة تنزل لأجلها الآيات، وكم سبقت لها ضرائب وأمثال لم يحتفل بها غير أنّ المقارنة بينها وبين نصّ الولاية على تقدير صحّة الرواية أوقعت البسطاء في الوهم.
وروى الطبريّ عن ابن جريج: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يهاب قريشاً، فلمّا نزلت: ﴿.. والله يعصمك من الناس﴾، استلقى، ثمّ قال: من شاء فليخذلني، مرّتين أو ثلاثاً. وأيّ وازع من أن يكون الأمر الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهاب قريشاً لأجله هو نصّ الخلافة؟ كما فصّلته الأحاديث الآنفة فليس هو بمضادّ لما نقوله.
وروى الطبريّ بأربعة أسانيد عن عائشة: من زعم أنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك ..﴾. وما كانت عائشة بقولها في صدد بيان سبب النزول، وإنّما احتجّت بالآية الكريمة على أنّه صلّى الله عليه وآله قد أغرق نزعاً بالتبليغ، ولم يدع آية من الكتاب إلاّ وبثّها، وهذا ما لا يُشكّ فيه، ونحن نقول به قبل هذه الآية وبعدها.
وأمّا ما حشده الرازي من الوجوه العشرة وجعل نصّ الغدير عاشرها، وقصّة الأعرابيّ المذكور في تفسير الطبري ثامنها، وهيبة قريش مع زيادة اليهود والنصارى تاسعها، وقد عرفت حقّ القول فيهما، فهي مراسيل مقطوعة عن الإسناد غير معلومة القائل، ولذا عزي جميعها في تفسير نظام الدين النيسابوري إلى القيل، وجعل ما روي في نصّ الولاية أوّل الوجوه، وأسنده إلى ابن عباس والبراء ابن عازب وأبي سعيد الخدري ومحمّد بن عليّ عليهما السلام.
والطبريّ الذي هو أقدم وأعرف بهذه الشؤون أهملها رأساً، وهو وإن لم يذكر حديث الولاية أيضاً، لكنّه أفرد له كتاباً أخرجه فيه بنيف وسبعين طريقاً، وذكر من عزاه إليه في هذا الكتاب، وروى هناك نزول الآية عندئذٍ بإسناده عن زيد بن أرقم، والرازي نفسه لم يعتبر منها إلاّ ما زاد على رواية الطبري في تاسع الوجوه من التهيّب من اليهود والنصارى. فهي غير صالحة للاعتماد عليها، ولا ناهضة لمجابهة الأحاديث المعتبرة السابق ذكرها التي رواها من قدّمنا ذكرهم من أعاظم العلماء كالطبريّ، وابن أبي حاتم، و ابن مردويه، وابن عساكر، وأبي نعيم، وأبي إسحاق الثعلبي، والواحدي، والسجستاني والحسكاني، والنطنزي، والرسعني وغيرهم بأسانيد جمّة، فما ظنّك بحديث يعتبره هؤلاء الأئمة؟
على أنّ اللائحة على غير واحد من الوجوه لوائح الافتعال السائد عليها عدم التلائم بين سياق الآية وسبب النزول، فلا يعدو جميعها أن يكون تفسيراً بالرأي، أو استحساناً من غير حجّة، أو تكثيراً للغد أمام حديث الولاية، فتّاً في عضده، وتخذيلاً عن تصديقه، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره.
قال الرازيّ بعد عدّ الوجوه: اعلم أنّ هذه الروايات وإن كثرت إلاّ أنّ الأوْلى حمله على أنّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها.
وأنت ترى أنّ ترجيحه لهذا الوجه مجرّد استنباط منه بملائمة سياق الآيات من غير استناد إلى أيّة رواية، ونحن إذا علمنا أنّ ترتيب الآيات في الذكر غير ترتيبها في النزول نوعاً فلا يهمّنا مراعاة السياق تجاه النقل الصحيح، وتزيد إخباتاً إلى ذلك بملاحظة ترتيب نزول السور المخالف لترتيبها في القرآن، والآيات المكّيّة في السور المدنيّة وبالعكس، قال السيوطي25: فصل: الإجماع والنصوص المترادفة على أنّ ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، أمّا الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلّى الله عليه وسلّم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. ثمّ ذكر نصوصاً على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يلقّن أصحابه ويعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبرائيل إيّاه على ذلك، وإعلامه عند نزول كلّ آية: إنّ هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا.
على أنّ طبع الحال يستدعي أن يكون تهيّبه صلّى الله عليه وآله من اليهود والنصارى في أوليات البعثة، وعلى فرض التنازل بعد الهجرة بيسير لا في أخريات أيّامه التي كان يهدّد فيها دول العالم، وتهابه الأمم، وقد فتح خيبر واستأصل شافة بني قريضة والنضير، وعنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب طوعاً وكرهاً، وفيها كانت حجّة الوداع التي نزلت فيها الآية كما عرفت ذلك من الأحاديث السابقة، ويعلمنا القرطبي26 بالإجماع على أنّ سورة المائدة مدنيّة. ثمّ نقل عن النقاش نزولها في عام الحديبيّة (سنة 6هـ) فأتبعه بالنقل عن ابن العربي بأنّ هذا حديث موضوع لا يحلّ لمسلم اعتقاده. إلى أن قال: ومن هذه السورة ما نزل في حجّة الوداع ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى: ﴿لا يجرمنّكم شنآن قوم ..﴾. وكلّ ما نزل بعد هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو مدنيّ، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار، إنّما يرسم بالمكيّ ما نزل قبل الهجرة.
وقال الخازن27: سورة المائدة نزلت بالمدينة إلاّ قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم ..﴾، فإنّها نزلت بعرفة في حجّة الوداع. وأخرجا -أي القرطبيّ والخازن- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله في حجّة الوداع: إنّ سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً.
وقال السيوطيّ28 عن محمّد بن كعب من طريق أبي عبيد: أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع فيما بين مكّة والمدينة. وعن ابن الضريس عن محمّد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازيّ عن عمرو بن هارون عن عثمان بن عطا الخراساني عن أبيه عن ابن عباس: إن أول ما أنزل من القرآن: إقرأ باسم ربك ثم ن ثم يا أيها المزمل - إلى أن عدّ - الفتح ثمّ المائدة ثم البراءة فجعل البراءة آخر سورة نزلت المائدة قبلها29. وروى ابن كثير عن عبد الله بن عمر: إن آخر سورة أنزلت: سورة المائدة والفتح -يعني سورة النصر- ونقل من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عائشة أنّ المائدة آخر سورة نزلت30.
16- شرح ديوان أمير المؤمنين عليه السلام ص415. 17- الدرّ المنثور ج2 ص298. 18- فتح القدير ج3 ص57. 19- في روح المعاني ج2 ص348.
20- ليس قوله: "زعمت الشيعة" تخصيصاً للرواية بهم، فقد اعترف بعد ذلك برواية أهل السنّة لها، وذكر شيئاً من ذلك، وإنّما الذي حسبه مزعمة للشيعة فحسب هو إفادة الآية الكريمة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو نقاش يدخل في دلالة الآية. 21- ينابيع المودة ص120. 22- ذكره تلميذه رشيد رضا في تفسير المنار ج6 ص463.
23- تفسير الطبريّ ج6 ص198. 24- تفسير مفاتيح الغيب ج3 ص635. وأمّا الوجوه العشرة فملخّصها: 1. نزلت في قصّة الرجم والقصاص. 2. نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين.
3. لمّا نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى: [يا أيّها النبيّ قل لأزواجك ..] فلم يعرفها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا. 4. نزلت في أمر زيد وزينب. 5. نزلت في الجهاد، فإنّه كان يمسك أحياناً عن حثّ المنافقين على الجهاد.6. لمّا سكت النبيّ عن عيب آلهة الثنويين فنزلت. 7. لمّا قال في حجّة الوداع بعد بيان الشرائع والمناسك: هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهمّ فاشهد، فنزلت الآية. 8. نزلت في أعرابيّ أراد قتله وهو نائم تحت شجرة. 9. كان يهاب قريش واليهود والنصارى، فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بالآية. 10. نزلت في قصّة الغدير. 25- الإتقان ج1 ص24.
26- تفسير القرطبي ج6 ص30. 27- تفسير الخازن ج1 ص448. 28- الإتقان ج1 ص20. 29- فضائل القرآن ج1 ص11. 30- تفسير ابن كثير ج2 ص. المعارف الاسلامية