اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
الإيمان الحقيقي
((قصص القرآن))
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَاءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾1.
القصة
منّ الله على نبيه يوسف عليه السلام بأن أنجاه من البئر بعد أن ابتلاه الله عز وجل بأخوته الذين أرادوا التخلص منه، ولكن الله عز وجل كتب على أنبيائه البلاء امتحاناً منه لهم ولرفع درجتهم، والبلاء الذي يبتلي الله به عباده الصالحين على أنواع كثيرة منها ما ابتلى به يوسف من زوجة عزيز مصر.
فقد اشترى عزيز مصر يوسف وهو فتى لم يبلغ الحلم وأعجب بالفتى فطلب من زوجته أن تكرم هذا الفتى وكان ممن حرمه الله نعمة الولد. وهذه نعمة أراد الله عز وجل أن يعوّض فيها ليوسف ما ابتلاه به مما فعله إخوته معه لما وجده صابراً.
وكبر يوسف وأصبح شاباً قوياً ووهبه الله جمالاً فاق به الناس من حوله، وكانت زوجة العزيز أكثر الناس تعلقاً به، وتحركت بها الغريزة وتاقت نفسها إلى يوسف. وهيأت الظروف من إغلاق الأبواب والدعوة الصريحة والملحة، إنها امرأة عزيزة في قومها صاحبة مقام ورفعة تطلب من يوسف الشاب في مقتبل العمر أن يراودها وهذا من أشد ما وقع من البلاء على يوسف، ولكن ماذا فعل يوسف؟ لقد رفض ذلك وبشدة. وبماذا برر يوسف رفضه لقد قال: (معاذ الله!) انه الخوف من الله عزّ وجلّ، لا من أي شيء آخر. ولما نجح يوسف في هذا الاختبار أراد الله أن يجزيه هذا النجاح إنها شهادة البراءة ليوسف تأتيه سريعاً ودون مقدمات، إنّه شاهد من أهلها (امرأة العزيز) يعطي دليلاً واضحاً على براءة يوسف، إنّه قميص يوسف، فإن كانت المحاولة منه نحوها فهذا يعني أن القميص لا بد وأن يكون ممزقا ًمن الأمام لأنها ستدافع عن نفسها منه، وإن كانت المحاولة منها فهذا يعني أن القميص لا بد وأن يكون ممزقاً من الخلف لأنها هي التي ستلحق به وتمزق قميصه وهو ما كان فعلاً.
ولكن ليست النهاية هنا، لقد جمعت نسوة من المدينة وهيأت الظروف كأنها أرادت أن تبرر لنفسها ما قامت به أمام هؤلاء النسوة، وعاد الاختبار ثانية ليوسف، ولكنه اختبار عظيم إنها أكثر من دعوة تدعوه لمعصية الله، انه الشيطان يستخدم كل ما لديه من حيل ليوقع بيوسف ولكن ما هو ردّ نبي الله، إنّه بصراحة ووضوح (السجن أحب إليّ).
الدروس المستفادة من هذه القصة
رأى برهان ربه فقال: معاذ الله ذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان أن المراد من برهان ربه:نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا2.
إن الكثير من الناس يعرف أن هذا الفعل معصية وانه يحرم عليه ارتكاب المعصية ولكنه مع ذلك يقدم عليها، وهذا ما ورد فيه قوله تعالى ﴿ أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾3 ، ولكن من الناس من يعرف المعصية ولا يقدم عليها لأن علمه يختلف عن علم ذاك، انه العلم الذي يشكل رادعا له عن ارتكاب المعصية وحتى التفكير بها.
أما كيف يصل الإنسان إلى هذا العلم، يصل إليه من خلال تربية النفس، وهو ما ورد عن رسوله الله صلى الله عليه واله وسلم انه الجهاد الأكبر.
فالإنسان المربي لنفسه والذي تمكن من الانتصار عليها هو الذي يستطيع أن يقول معاذ الله، متى كان في موقف كموقف يوسف.
وأما كيف يمكن للإنسان أن يربي هذه النفس فهذا ما ذكره علماء الأخلاق، ومما ذكروه إن هذه التقوى تحصل من الالتزام بأوامر الله عز وجل ونواهيه.
السجن أحبّ إلي
كل إنسان معرض في هذه الدنيا أن يقف في لحظة ما وفي موقع ما بين خيارين: الآخرة والدنيا، فهو إما أن يختار الآخرة وهذا قد يعني أن يتحمل العذاب والحرمان في هذه الدنيا، وأن يختار الدنيا وفي هذا خسارة الآخرة.
وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله".
ولكن اختيار الإنسان للآخرة على الدنيا لا يكون على حد واحد، فمن الناس من يختار الآخرة ولكنه يختارها وهو فعلاً محب لهذه الدنيا، أي وهو يعيش حالة من الأسف على هذه الدنيا. ولكن العارف الحقيقي الذي وصل إلى اليقين في قلبه بأن هذه الدنيا مصيرها الفناء والزوال وأن الآخرة هي الحياة الدائمة السرمدية فإن موقفه سوف يكون موقف يوسف عليه السلام الذي تلخصه جملة واحدة قالها عليه السلام: "السجن أحب إلي"، أي ليست المسألة اختيار وتفضيل فقط. بل هذا العذاب الدنيوي أحب إليه من أن يقع في العذاب الأخروي ومعصية الله عز وجل.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): " إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير، والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب"4 .
وقد تجلى موقف يوسف هذا (اختيار الآخرة على الدنيا) في موقف الحر بن يزيد الرياحي في معركة كربلاء حيث قال: "إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا اختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وحرقت".
* قصص القرآن الكريم.سلسلة الدروس الثقافية, نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى تشرين الثاني 2007م- 1428ه. ص: 69-73.
-------------------------
1- يوسف: 23-34.
2-الطباطبائي ـ محمد حسين ـ الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص 129.
3-الجاثية:23.
4-الكليني، الكافي، ج2، ص126.