اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
3- العبادة
الإمام زين العابدين عليه السلام هذا الوجود المقدّس، كان سيّد الروحانيّة بمعناها الصحيح, أي إنّ من فلسفة وجود رجل مثل عليّ بن الحسين، أنّ الإنسان عندما ينظر إلى آل النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كلّهم, ومنهم عليّ بن الحسين, يرى روحانيّة الإسلام أي حقيقة الإسلام, وهذا أمر مهمّ في حدّ ذاته 12.
وقد ورد العديد من الروايات التي تذكر حالاته مع الله وعبادته له, ويكفي أنّ من أشهر ألقابه التي عرف بها: "زين العابدين"..
فعن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: " كان أبي عليه السلام يقول: كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة، كأنّه ساق شجرة، لا يتحرّك منه شيءٌ إلّا ما حرّكه الريح منه"13.
وعنه عليه السلام قال: " كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة تغيّر لونه، فإذا سجد لم يرفع رأسه حتّى يرفضّ 14عرقاً " 15.
وعن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إنّي رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة غشى لونَه لونٌ آخر، فقال لي: " والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه"16.
وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام ، قال: " ...كان إذا قام في صلاته غشى لونَه لونٌ آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزَّ وجلَّ، وكان يصلّي صلاة مودّع، يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً، ولقد صلّى ذات يوم، فسقط الرداء عن إحدى منكبيه، فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه، فقال الرجل: هلكنا، فقال: كلا، إنّ الله عزّ وجلّ متمّم ذلك بالنوافل" 17.
وروي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كان عليّ بن الحسين إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلّا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير، فإذا أفطر قال: أللَّهم إن شئت أن تفعل فعلت" 18.
وعن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام ، " أنّ فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها عليّ بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ فقالت له: يا صاحب رسول الله، إنّ لنا عليكم حقوقاً، من حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا عليّ بن الحسين بقيّة أبيه الحسين قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، دأباً منه لنفسه في العبادة، فأتى جابر بن عبد الله باب عليّ بن الحسين عليه السلام ، وبالباب أبو جعفر محمّد بن عليّ في أُغيلمة من بني هاشم، قد اجتمعوا هناك....ثمّ أذن لجابر فدخل عليه، فوجده في محرابه قد أضنته العبادة، فنهض عليّ عليه السلام فسأله عن حاله سؤالاً حفيّاً، ثمّ أجلسه بجنبه، فأقبل جابر عليه، يقول: يا بن رسول الله أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النّار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفّته نفسك؟ قال له عليّ بن الحسين: يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد وتعبّد- بأبي هو وأمّي- حتّى انتفخ الساق، وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ فلمّا نظر جابر إلى عليّ بن الحسين عليه السلام ، وليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا بن رسول الله البقيا على نفسك، فإنّك لمن أسرة بهم يُستدفع البلاء، ويستكشف اللأواء، وبهم تستمطر السماء، فقال له: يا جابر، لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسياً بهما صلوات الله عليهما حتّى ألقاهما، فأقبل جابر على من حضر، فقال لهم: والله ما أرى في أولاد الأنبياء مثل عليّ بن الحسين إلّا يوسف بن يعقوب، والله لذريّة عليّ بن الحسين أفضل من ذريّة يوسف بن يعقوب، إنّ منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جَوراً"19.
وعن سعيد بن كلثوم، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّد، فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثمّ قال: " والله ما أكل عليّ بن أبي طالب من الدنيا حراماً قطّ حتّى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قطّ هما لله رضاً إلّا أخذ بأشدّهما عليه في دينه، وما نزلت برسول الله صلى الله عليه واله وسلم نازلة إلّا دعاه فقدّمه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من هذه الأمّة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل كأنّ وجهه بين الجنّة والنّار، يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه, ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النّار، ممّا كدّ بيديه، ورشح منه جبينه، وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخلّ والعجوة، وما كان لباسه إلّا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجَلَمِ 20 فقصّه، وما أشبهه من ولده، ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين عليه السلام.
" ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودَبِرَت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر عليه السلام : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكّر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأعطيته, فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجّراً، وقال: من يقوى على عبادة عليّ عليه السلام "؟!21.
وعن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: " كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه، يستمعون قراءته "22..
وروي أنّه كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته23..
4- تكفّله للفقراء والمحتاجين
لقد كان الإمام عليه السلام يرعى الفقراء والمحتاجين, ويكثر من التصدّق عليهم, في السرّ والعلن, وفي الليل والنهار, متكفّلاً للكثير من البيوتات التي لم تكن تجد قوتها وطعامها, وفي الغالب من حيث لا يدري أحد منهم, حتّى إذا رحل الإمام إلى ربّه, فقدوا تلك الصدقات، فعلموا أنّ الإمام عليه السلام هو الذي كان يقوم بها.
فعن الإمام الباقر عليه السلام : " وكان عليه السلام ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربّما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتّى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلّا يعرفه، فلمّا توفي عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان عليّ بن الحسين. ولمّا وضع عليه السلام على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين.
"ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خزٍّ، فعرض له سائل فتعلّق بالمطرف، فمضى وتركه، وكان يشتري الخزّ في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه فتصدّق بثمنه...
"ولقد كان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرّاء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتّى يبدأ، فيتصدّق بمثله "24...
ورأى الزهريّ عليّ بن الحسين عليه السلام (في) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله، ما هذا؟ قال: " أريد سفراً أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز", فقال الزهريّ: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفّعك عن حمله, فقال عليّ بن الحسين: "لكنّي لا أرفّع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لمّا مضيت لحاجتك وتركتني"، فانصرف عنه، فلمّا كان بعد أيّام، قال له: يا ابن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً, قال: "بلى يا زهريّ! ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير " 25.
******
12-المطهريّ مرتضى: سيرة الأئمّة الأطهار ص 95.
13- الكلينيّ: الكافي ج 3 ص 300.
14-ارفضاض الدموع: ترششها.
15- الكلينيّ: الكافي ج 3 ص 300.
16-الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 271.
17-الصدوق: الخصال ج 2 ص 517.
18- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 88-89.
19- الطوسيّ: الأماليّ ص 636.
20-الجَلَم: الذي يجزّ به الشعر والصوف, كالمقصّ.
21- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 141.
22- الكلينيّ: الكافي ج 2 ص 616.
23- المصدر السابق ج 2 ص 615.
24- الصدوق: الخصال ص 517-518.
25- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 270.