إن كان المُراد من سرد قضية «كسر الضلع»، لغرض إثبات عدم شرعية القوم للخلافة الإسلامية، وبيان فساد إيمانهم، وادعائهم بالتدين، والالتزام, فهذا ثابت من حادثة السقيفة نفسها، ومن رزية يوم الخميس، ومن مخالفتهم الصريحة لأدلة الغدير القطعية الدلالة. وليس فوق مخالفة أمر الله تعالى مخالفة وحرمة، كي نحتاج فيها إلى قضية «كسر الضلع»!!
وإن كان المراد من الإصرار على قضية «كسر الضلع»، هو بيان عمق وسعة الظلم الذي تعرض له آل الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله)، فهذا لا يزيد عن حرمة التعدي على مقامهم الرباني، الذي جعلهم الله تبارك وتعالى فيه أئمة للمسلمين، وحفظة للدين. وبهذا فإن تغيير الأحكام والتشريع، لهو أعلى حرمة وقدسية من الضرب وتفاصيله.
وبعبارة أوضح: ماذا سنخسر، وماذا سنفقد، لو لم تثبت قضية «كسر الضلع» أساساً؟
الجواب:
قلتم: إن حادثة السقيفة، ورزية يوم الخميس، ومخالفة القوم لأدلة الغدير القطعية، تكفي لإثبات عدم شرعية القوم للخلافة.. فلا حاجة إلى قضية «كسر الضلع»، إذ ليس فوق مخالفة أمر الله مخالفة وحرمة..
ونقول: بل إن ما جرى على السيدة الزهراء (ع)، من ضرب، وإدماء، و«كسر ضلع»، وإسقاط جنين.. يبقى هو الدليل الأصرح والأوضح على عدم أهلية أولئك القوم للخلافة وعلى ظلمهم وجرمهم وغاصبيتهم لمقام ليس لهم..
وذلك أولاً: لأن جميع ما ذكرتموه وسواه، قد سعى محبوهم إلى إزالة آثاره بما أثاروه من شبهات، تشوش أذهان الناس، وهم ما فتئوا يحاولون التملص والتخلص منه، ومن تبعاته، فكان مما قالوه: إن ما سماه ابن عباس برزية يوم الخميس، وقول قائلهم: إن النبي ليهجر، حسبنا كتاب الله.. لم يكن عن سوء نية، وخبث طوية بل هو قد صدر منه بنيِّة حفظ الأمة من الاختلاف، وصيانتها من التصدع والتفرق..
وفي جميع الأحوال: فإنها كلمة سبقت عن غير تعقل من دون ترو، أو التفات إلى سوء دلالاتها وبشاعة إيحاءاتها. وليس بالضرورة أن يكون قائلها ممن يصر على توجيه الإهانة للرسول (ص).. فلنا أن نتوقع منه أن يندم، وأن يتوب، ولربما يكون قد اعتذر لرسول الله (ص) وطلب السماح منه بالفعل، تماماً كما حاول أن يطلب السماح من الزهراء (ع) بعد ذلك..
ثم إن لديهم الإكسير السحري المتمثل بقاعدة اجتهد فأصاب في المنع، من كتابة الكتاب، ولكنه أخطأ في الأسلوب.. وقد كان هناك متسع من الوقت ليعيد الرسول (ص)، محاولته، ويكتب ما أراد، لو أن أمر الكتابة كان لازماً وضرورياً.
وبالنسبة لنص الغدير، فإنهم أيضاً قد أثاروا من الشبهات حوله، ما يجعل أمر الوصول إلى الحقيقة فيه صعباً على أكثر الناس العاديين..
وذلك حين قالوا: في سند هذا الحديث كلام، وفي دلالته إبهام..
ثم شككوا في المراد من كلمة المولى.. وبغير ذلك من أمور، حتى ليقف الإنسان العادي حائراً في أمره. راضياً بما يختارونه له من تأويلات، مستجيباً لما يدعونه إليه من أباطيل..
وحين تعوزهم الشبهات، بفضل جهود المخلصين من العلماء فإنهم سوف لا يجدون حرجاً في أن يقولوا للناس: سلمنا: أن قضية يوم الغدير حقيقة، وواقع، فرضته أحوال ومتغيرات ومصالح.. ولكن قد استجدت أمور، ونشأت أحوال وظهرت متغيرات، اقتضت العدول عن ذلك إلى خيارات أخرى. قد عرفها الصحابة، فاستجابوا لها، وعملوا على الانسجام معها، وهم الأتقياء الأبرار!! والأمناء الأخيار!!
الذين لم يتخلوا عن مسؤولياتهم الرسالية!! ومهماتهم وواجباتهم الشرعية في هذا السبيل!! وليس لأحد الحق في أن يسيء الظن بهم، وأن ينسب الممالأة للظالمين إليهم!!..
وأما فيما يرتبط بما جرى في السقيفة، فإنما هو تأسيس على هذا الذي ذكرناه، ولو أردنا أن نسمح لأنفسنا بتخطئتهم، فليس لنا أن نتهمهم، في دينهم واخلاصهم، بل إن علينا: أن ندخلهم في دائرة من اجتهد فأخطأ.. لأنهم رأوا أنفسهم قادرين على حمل تلك المسؤوليات والاضطلاع بهاتيك المهمات.. ولو أنهم اكتشفوا خطأهم فيما أقدموا عليه، فإنه خطأ مغفور وفاعله مأجور.. ويصدق ذلك: أنهم قد اعتذروا عن أمر السقيفة بأنها كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها.. واعتذروا عن عدم تولية الإمام علي (ع)، بأن أمر الخلافة والإمامة يرجع إلى أهل الحل والعقد، وقد اختار هؤلاء غير الإمام علي (ع)..
ولعل السبب في اختيارهم هذا هو أنهم رأوا أن العرب لا ترضى باجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد.. أو أنهم استصغروه، ولم يروا من المصلحة توليته على شيوخ المهاجرين والأنصار.. أو أنهم فهموا أن النص عليه، قد جاء على سبيل الإرشاد، لا على سبيل الإخبار عن النصب الإلهي..
إلى غير ذلك من أمور تجعل فهم الحقيقة حتى على الناس الحاذقين، الحاضرين والناظرين أمراً صعباً، فكيف بالغائبين؟.. وكيف ترى يكون حال الناس العاديين، أو غيرهم من سائر الملل، ممن تختلف أحوالهم في العلم والجهل، والذكاء والغباء، والالتزام والتحلل، وتختلف درجاتهم في الإيمان، أو يتفاوت حالهم في الكفر..
وأما حديث الثقلين: فإنهم حاولوا التلاعب فيه لفظاً، باستبدال كلمة «وعترتي» بكلمة «وسنتي»، وهو ما اقتصر عليه البخاري في صحيحه.. ثم حاولوا التلاعب فيه بالمعنى، من خلال تعميم المراد بأهل بيته بحيث يشمل الأزواج، أو كل تقي..
وحتى لو قبلوا بالنص الصحيح الوارد فيه، وقبلوا باختصاص أهل بيت النبي (ص)، بالمعصومين من الأئمة الطاهرين ـ فإنهم مع ذلك ـ سوف يصرون على أن هذا الحديث لا مساس له بأمر الولاية والخلافة والحاكمية بعد رسول الله (ص), بل هو خاص بأخذ العلم والمعارف عنهم (ع)، لا أكثر.. فيحث على الناس على ذلك، ولا ضير في أن يفعلوا ما يندبهم إليه، ويلتزموا بما يحثهم عليه..
كما أنهم سوف لا يقبلون بأن هذا الحديث يتضمن المنع من أخذ المعارف والعلوم من غيرهم (ع)، خصوصاً مع ملاحظة العمومات الآمرة بطلب العلم والحكمة، من كل أحد في كل زمان ومكان، حتى ولو بالصين. ونحو ذلك.. وتكون النتيجة بعد كل هذا الذي ذكرناه: أنه لو قدِّر لأحد أن يتجاوز كل هذا الركام من الشبهات، فلا بد أن يكون إنساناً عالماً باحثاً بل، وغزيراً متفرداً في العلوم والمعارف، وعلى درجة عالية من بُعد النظر، ودقة الملاحظة، ولا يصل إلى الحق والحقيقة إلا بعد بذل جهد عظيم، وبعد التقصي للنصوص، والبحث والمقارنة.. هذا إذا توفر لديه عنصر التقوى والعلمية، والإنصاف، والموضوعية.. وأما من عداه فإن عليه أن يبقى في متاهات التأويلات، والتعصبات، غارقاً في ظلمات الشبهات.
والواقع التاريخي، والتاريخ الديني للأمم الإسلامية يشهد بصدق على أن أمثال هذه المعاذير والتبريرات، والشبهات قد أخذت مأخذها، ولا يزال يتردد صداها في مسامعهم، وبقيت آثارها في قلوبهم، عبر العصور والدهور، رغم كل الجهود التي بذلها العلماء لتجلية الحقائق للناس.
إن الهجوم على بيت السيدة الزهراء (ع)، وكشف ذلك البيت، وضربها، إلى حد الإدماء، وإسقاط جنينها، وكذلك كسر ضلعها (ع)، ثم دفنها ليلاً، والإصرار على أن لا يحضر أحد ممن ظلمها جنازتها..
ثم ما جرى لها معهم في أمر فدك.. وهو الأمر الذي أحرجتهم فيه أمام الأمة أيما إحراج..
نعم.. إن ذلك كله، لا يقبل التأويل، ولا يمكن قبول أحد به، ولا يمكن لمرتكبيه الاعتذار عنه، بل لا مجال لهم حتى لادعاء الخطأ في الاجتهاد فيه، فضلاً عن قدرتهم على تهوينه، وتصغير شأنه..
فالنص في حق الزهراء صحيح، والفعل قبيح، وفي دلالته صريح، وأي صريح!!
وأما ادعاء التوبة من قبل الفاعلين، أولهم، فذلك مما يضحك الثكلى، ويثير السخرية، ما دام أن الكل يعلم: أن للتوبة شرائطها، وأحكامها، وليست هي مجرد ندم قلبي، أو لقلقة لسان.. بل لا بد معها من إصلاح ما أفسدوه، وتحمل تبعات ما ارتكبوه. فيخضع المجرم لأحكام الله، بإرجاع الحق المغتصب إلى أهله، وفي تقديم نفسه للاقتصاص منه.. وفق أحكام الشرع الشريف، وتعاليم الدين الحنيف..
وهذا الأمر هو الذي يفسر لنا كيف أن مواجهتهم لآثار هذه الجريمة قد انحصرت في السعي إلى إنكارها، أو لا أقل إثارة الشكوك في أصل حدوثها.. ولم نجدهم حاولوا اللجوء إلى التأويل، أو إلى التبرير، حتى على سبيل الافتراض والتسليم الجدلي.. بل أصروا ولا يزالون على الإنكار أيما إصرار، رغم تضافر النصوص، وتواتر الآثار بوقوع هذه الظلامة..
إن غاية ما يقبلون به هو حصول التهديد بإحراق البيت بالنار.. وذلك ليتسنى لهم بعد؛ ادعاء أن قلوبهم مملوءة بحبها، وأن مكانتها تمنعهم من تنفيذ تهديداتهم.. وغير ذلك.. ـ ليتسنى لهم ـ ادعاء أن هذا التهديد كان غير واقعي، ولا يجوز أن يحمل على محمل الجد، بل هو صوري بهدف التخويف، الذي أملاه شعور بالغيرة على مصلحة الأمة، وبهدف الإصلاح..
وفي جميع الأحوال.. إن ما ارتكبوه في حق السيدة الزهراء (ع)، مع وضوح وصراحة، وصحة ما ورد عن الله ورسوله في حقها، واعتبار رضاها رضا الله ورسوله، وغضبها غضب الله ورسوله.. ـ ان ذلك ـ مما لا يمكن تأويله، ولا الاعتذار عنه، ولا ادعاء التوبة منه، لأن لهذه الدعوى لوازم وتبعات، وقد ظهر من خلال تتابع الأحداث بعد ذلك العدوان.. أنهم إلى أن استشهدت السيدة الزهراء (ع)، كانوا مصرين على موقفهم، وأن السيدة الزهراء (ع)، مصرة على تسجيل الإدانة لهم، بصورة لا تقبل الشك ولا التأويل.. ولم يصلحوا ما أفسدوه، ولا اعادوا ما اغتصبوه، ولا قدموا انفسهم إلى محكمة العدل الإلهي لتقام عليهم حدود الله فيما ارتكبوه..
ونعود إلى التأكيد: على أن من يرتكب هذه الجرائم في حق البنت الوحيدة لأقدس رسول، وأعظم نبي، وهي بهذه المكانة عند الله وعند رسوله، ولا يراعي شرع الله فيها.. ويظلمها هذا الظلم الفاحش، كيف يؤمن على دين الله، وعلى دماء المسلمين، وعلى أموالهم، وأعراضهم، وعلى مصيرهم، وكيف يصح أن يأخذ مقام الرسول، ويضطلع بمهماته، ويقوم بمسؤولياته.
سماحة المحقق الجليل السيد جعفر مرتضى العاملي (حفظه الله)