التواضـــع
كما يعرّفه علماء الأخلاق : احترامُ الناس حسب أقدارهم , وعدمُ الترفّع عليهم . وهو خُلقٌ كريم , وخلّةٌ جذّابة تستهوي القلوب وتستثير التقدير . وناهيك في فضل التواضع أنَّ اللَّه تعالى أمرَ حبيبه وسيّد رسُلِه به , فقال (جلّ وعَلا) : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) .
وقد أشاد أهلُ البيت (عليهم السّلام) بشرفِ هذا الخُلق , وشوّقوا إليه أقوالهمُ الحكيمة , وسيرتِهمُ المثالية , وكانوا رُوّادَ الفضائل , ومنارَ الخُلقِ الرفيع .
قال النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (( لا حسبَ كالتواضع )) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) أيضاً : (( إنّ التواضع يزيد صاحبَه رفعة , فتواضعوا يرفعْكمُ اللَّه )) .
وعنه (صلّى اللَّه عليه وآله) أيضاً قال : (( إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منيّ يوم القيامةِ مجلساً أحسنُكم خُلُقاً , وأشدُّكم تواضعاً ... )) .
وقال أمير المؤمنين عليٌ (سلام اللَّه عليه) : (( التواضع زينة الحسب . التواضع زكاة الشرف . التواضع ينشر الفضيلة . عليك بالتواضع فإنه مِن أعظم العبادة )) .
وجاء عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّ في السماء ملَكينِ موكَّلينِ بالعباد , فمَنْ تواضع للَّهِ رفعاه , ومَنْ تكبّر وضعاه )) .
وممّا قيل في التواضع قولُ أبي العلاء المعرّي :
فيا واليَ المِصر لا تظلِمَنْ فكم جاءَ مثْلُك ثم انصرَفْ
تواضعْ إذا ما رُزقتَ العُل فذلك مِمّا يزيد الشرفْ
وقد كان النبيُّ المصطفى الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أكثرَ الناسِ تواضعاً ؛ يقعد في أدنى المجلس حيث يدخل , وكان يحلبُ شاتَه , ويرقع ثوبه , ويخصف نعلَه , ويخدم نفسه , ويحمل بضاعتَه في السوق , ويجالس الفقراء , ويواكل المساكين .
عن أبي ذرّ الغِفاريّ (رضوان اللَّه عليه) : كان رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) يجلس بين ظهرانيّ أصحابه , فيجيء الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتّى يسأل , فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريبُ إذا أتاه .
ورُويَ أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان في سفر , فأمر بإصلاحِ شاة , فقال رجل : يا رسولَ اللَّه , علَيّ ذبحها , وقال آخر : علَيّ سلخها , وقال آخر : علَيَّ طبخُها . فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( وعلَيّ جمع الحطب )) .
فقالوا : يارسولَ اللَّه , نحن نكفيك .
فقال : (( قد علمتُ أنكم تكفوني , ولكنْ أكرهُ أنْ أتميّزَ عليكم ؛ فإنّ اللَّه يكرهُ مِن عبدِه أنْ يراه متميّزاً بين أصحابه )) . وقام وجمع الحطب .
والإمام الحسين (عليه السّلام) كان مِن سماتِه الواضحة بين الناس التواضع , فلم يجالسِ الطواغيت والمتكبّرين , وأصحابَ القلوبِ الميّتة والضمائر الفاسدة , والمغرورين بدُنياهم . كان ينصح , ولكنّه في الوقت ذاته كان يحبُّ الضعفاء والمساكينَ والفقراء , ويجالسهم ويواكلُهم ويحادثهم .
وممّا امتاز به تواضعه (سلامُ اللَّه عليه) :
أوّلاً : أنّه كان خالصاً مخلصاً لوجهِ اللَّه تعالى , لا يبتغي به إلاّ مرضاته (جَلّ وعَلا) ؛ لأنّ هناكَ مَنْ يتواضع للناس يطلبُ بذلك المدحَ والسمعة , يُرائي
بتواضعه وينتظر أنْ يُثنى عليه , فاذا لم يحصل على ذلك عاد إلى كِبره , واذا طُلِبَ منه أنْ يُذعن للحقّ ظهرتْ عليه علاماتُ التجبّر والاستنكاف والتعالي .
أمّا الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) فكان متواضعاً لمَنْ دونَه في الفضل , يطلبُ بذلك طاعةَ الرحمن (جَلّ جلالُه) .
* حدّث الصوليّ عن الإمام الصادق (عليه السّلام) في خبر أنه جرى بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين أخيه محمّد بن الحنفية كلام , فكتب ابنُ الحنفية إلى الحسين (عليه السّلام) : أمّا بعدُ يا أخي , فإنَّ أبي وأباكَ عليٌّ , لا تفضلُني فيه ولا أفضلُك , واُمُّك فاطمةُ بنتُ رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله) , ولو كان ملء الأرض ذهباً مُلك اُمّي ما وفَتْ باُمِّك , فاذا قرأتَ كتابي هذا فصِرْ إليَّ حتى تترضّاني فإنّكَ أحقُّ بالفضلِ منّي , والسّلام عليكم ورحمةُ اللَّه وبركاته .
ففعل الحسين (عليه السّلام) , فلم يَجْرِ بعد ذلك بينهما شيء .
فالإمام الحسين (سلامُ اللَّه عليه) هو الأشرف مِن أخيه باعتراف أخيه , وهو الأفضل , ولكنّه كانَ الأسبقَ إليه ؛ تواضعاً منه لأنّه الأسبق إلى اللَّه (عزّ وجلّ) في الطاعات وارتقاء الدرجات .
ثانياً : أنَّ تواضع الحسين (صلوات اللَّه عليه) كان عن عِزّةٍ وكرامةٍ وكمال , لا عن ذِلّةٍ أو ضعفٍ أو طمع حاشاه عن كلِّ ذلك ؛ [إذ] (إنّ التواضعُ الممدوح هو المتّسم بالقصد والاعتدال , لا افراطَ فيه ولا تفريط ؛ فالإسرافُ في التواضع داعٍ إلى الخسة والمهانة , والتفريط فيه باعثٌ على الكِبرِ والأنانية , وعلى العاقل أنْ يختار النهجَ الوسط بإعطاءِ كلِّ فردٍ ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير حسبَ منزلته ومؤهلاته ؛ لذلك لا يحسن التواضعُ للأنانيّين والمتعالينَ على الناس بزهوهم وصَلَفِهم . إنّ التواضعَ ـ والحالةُ هذه ـ مدعاةٌ للذُّلّ والهوان , وتشجيعٌ على الأنانية والكِبر) .
ولذلك ـ كما مرّ بنا ـ كان الحسين (عليه السّلام) لا يتواضع للمتجبّرين كمعاوية ويزيد , ومراونِ بن الحكم وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة , بل ترفّع عنهم , ولا للمستكبرين والمغرورين والمتعالين , حتّى قال له أحدُهم : إنّ فيكَ كِبْراً , فأجابه الحسينُ (عليه السّلام) : (( كلُّ الكِبْرِ للَّه وحدَه , ولا يكونُ في غيره , قال اللَّهُ تعالى : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )) .
وتكملةُ الآية (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) , فحاشاه أنْ يكون الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) متكبّراً , ولكنّه العزيزُ الذي لا يذلّ .
وخيرُ التواضع ما كان عن عزّةٍ وترفّع , قال رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : (( أفضل الناس مَنْ تواضع عن رفعة )) . وجاء عن الإمام عليّ (عليه السّلام) قولُه : (( التواضعُ مع الرفعة كالعفوِ مع المقدرة )) .
فمع الكافرين العزّة , والتواضع إنّما يكونُ مع المؤمنين , وهكذا وصف اللَّه تعالى مَن يُحبّه (... فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) , [وهاتان] صفتانِ معربتانِ عن الاعتدال , وفي ذلك يقول المصطفى الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( طوبى لمَنْ تواضع للَّه تعالى في غير منقصة , و أذلَّ نفسَه في غير مسكنة )) , ويقول أميرُ المؤمينن عليٌّ (عليه السّلام) : (( طوبى لِمَنْ شغلَه عيبُه عن عيوبِ الناس , وتواضع مِن غير منقصة , وجالس أهل الفقهِ والرحمة , وخالط أهلَ الذلِّ والمسكنة , وأنفق مالاً جمعه في غير معصية )) .
والآن تعالوا نتأمّل في هذه الرواية لنرى هل تركَ الإمام الحسين (عليه السّلام) شيئاً بعد (طوبى) ؟
* روى الشيخ نصر بنُ محمد السمرقنديّ الحنفيّ في (تنبيه الغافلين) , عن سفيان بن مسعر قال : بلغني عن الحسين بن عليّ (رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما) أَنّه مرَّ بمساكينَ وهم يأكلون كسراً لهم على كساء , فقالوا : يا أبا عبد الله , الغداء .
فنزل وقال (عليه السّلام) : (( إنّه لا يحبّ اللَّهُ المستكبرين )) . فأكل معهم , ثمّ قال لهم : (( قد أجبتُكم فأجيبوني )) . فانطلقوا معه , فلمّا أتَوا المنزل قال لجاريته : (( أخرجي ما كنتِ تدّخرين )) .
ورواها ابو المؤيد الموفقُ بنُ أحمد الخوارزميّ في مقتل الحسين (عليه السّلام) بهذه الصورة : كان ( أي الحسينُ بنُ عليّ (عليه السّلام) ) يجالس المساكين ويقرأ : (( إنّ اللَّه لا يحبّ المتكبّرين )) . ومرّ على صبيانٍ معهم كسرة , فسألوه أنْ يأكلَ معهم فأكل , ثمّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم .
فلم يشتغل (سلام اللَّه عليه) ـ حاشاه ـ بنقصهم بل عيوبهم , وتواضع لهم مِن غير منقصة , بل عن رفعة , وجالسهم وهم أهل الرحمة , وخالطهم وهم أهلُ الفقر والمسكنة , وأنفق عليهم مِن مالٍ جمعه فوضعه في طاعةِ اللَّه سبحانه .
أضف إلى ذلك أنّه جمع إلى التواضع السخاء , وتلك هي أخلاق سيّدنا الإمام الحسين (عليه السّلام) , متعدّدةً في الموقف الواحد , متداخلةً مع بعضها , حتّى إذا تأمّلْتَها وجدتَها اكثَر مِن خلُقٍ طيّب .
بقيَ شيءٌ واحدٌ لم يكنْ للحسين (عليه السّلام) في هذه الرواية , وهو مجالسةُ أهلِ الفقه ؛ إذ هو الأفقه , وحيثما حَلّ بين الناس فقّههم بشريعة الإسلام وأخلاقهِ الفاضلة . نعم , جالسَ أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) فكان عنده أكثَر المجالسين أدباً ؛ حيث أجَلّ له إمامتَه . قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( ما تكلّم الحسين بينَ يَديِ الحسن ؛ إعظاماً له )) .
وقد بادله الإمام الحسن (سلام اللَّه عليه) هذا الأدب , فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال فيهما : (( ابنايَ هذانِ إمامانِ قاما أو قعدا )) ؛ ولذا نقرأ في كتاب (التعازي) للسيد الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي : كان الحسن (عليه السّلام) يعظّمُ الحسين (عليه السّلام) حتّى كأنه هو أسنُّ منه . قال ابنُ عباس وقد سألتُه عن ذلك , فقال : سمعتُ الحسنَ (عليه السّلام) وهو يقول : (( إنّي لأهابُه كهيبةِ أمير المؤمنين (عليه السّلام) )).
وبقيت سِمةُ التواضعُ عند الإمام الحسين (عليه السّلام) خصلةً واضحة عرفها الناسُ فيه فأجلّوها , وحظيَ بها المؤمنون المخلصون لا سيّما شهداء كربلاء (رضوانُ اللَّه تعالى عليهم) .
فساعةَ سقط (أسلم) ـ وهو مولىً له ـ في ساحةِ الطفّ شهيداً مشى إليه الإمام الحسين (صلوات اللَّه عليه) بنفسه الشريفة واعتنقه , وكان به رمق , فتبسّم
أسلم وافتخر بذلك ومات . هنيئاً له أنْ حظِيَ بلطف سيّد شباب أهل الجنّة , ورحمته وتواضعه .
وكان للإمام الحسين (عليه السّلام) مولىً آخر هو (واضح التركي) (رضوان اللَّه تعالى عليه) , جاهد بين يدي الحسين (سلام اللَّه عليه) وقاتل أعداءَه , فلمّا صُرع على ساحةِ الشرف بكربلاء استغاث بالحسين , فأتاه (عليه السّلام) واعتنقه , فقال واضح : مَنْ مثْلي وابنُ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) واضعٌ خدَّه على خدي ! ثمّ فاضتْ نفسُه الطاهرة
الأخـــلاق الحسينية
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
والحمد لله رب العالمين