الآيــة سورة المائدة{64}
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
التّفســير
تبرز هذه الآية واحداً من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها، وقد تطرقت الآية السابقة إِليها ـ أيضاً ـ ولكن على نحو كلي.
ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إِلى ذروة السلطة والقدرة، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة، ويمكن الإِستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإِسلام، فكان ايذاناً بأفول الدولة اليهودية، وبالأخص في الحجاز، إِذ أدى قتال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إِلى إِضعاف سلطتهم بصورة نهائية وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة، كانوا يقولون استهزاءً وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال: أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.
وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إِلى جميعهم، كما تقول الآية: (قالت اليهود يد الله مغلولة ...).
ويجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و(القدرة) و(السلطة) و(الحكم)، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.
ولما كان الإِنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أُخرى.
وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ هذه الآية تشير إِلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإِرادة، حيث كانوا يذهبون إِلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية ايجاد تغيير في ذلك.
وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة (بل يداه مبسوطتان) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل، كما يمكنأن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.
والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخاً وذماً لهم ولمعتقدهم هذا بقوله: (غُلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا ...) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ...) فلا إِجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوماً بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.
والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال: (بل يداه مبسوطتان) وهذا بالإِضافة إِلى كونه تأكيداً للموضوع، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه، وذلك لأنّ الكرماء جدّاً يهبون ما يشاوؤن للغير بيدين مبسوطتين، أضف إِلى ذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة، أو ربّما يكون إِشارة إِلى النعم المادية والمعنوية، أو الدنيوية والأُخروية.
ثمّ تشير الآية إِلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطيء حيث تقول الآية الكريمة: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إِليك من ربك طغياناً وكفراً ...).
بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة، فتقول الآية الكريمة: (وألقينا بينهم العدواة والبغضاء إِلى يوم القيامة ...).
وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة (العداوة والبغضاء) الواردة في هذه الآية، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الإِستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر، ونظرنا إِلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء، وهو انعدام الإِتحاد والإِخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة والصدق فيما بينهم، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.
وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية من نفس هذه السورة.
وتشير الآية ـ في الختام ـ إِلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة، فتقول (كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ...).
وتعتبر هذه الظاهرة إِحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب، بالإِضافة إِلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عوناً في كل صراع بحيث أن قريشاً كانوا يستمدون العون منهم، وكان الأوس، والخزرج يسعى كل منهما إِلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة، بشكل لم يكن متوقعاً لديهم، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إِلى ترك ديارهم، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين، وحتى أُولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إِلى الخضوع أمام عظمة الإِسلام، فهم بالإِضافة إِلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إِلى ترك ميدان النزال والصراع.
ثمّ تبيّن الآية ـ أيضاً ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول: (ويسعون في الأرض فساداً ...) وتؤكّد أيضاً قائلة: (والله لا يحبّ المفسدين).
ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على أساس عنصري مطلقاً، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إِليهم، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء، قد ترك باب التوبة مفتوحاً أمامهم.
***
الأمـثــل