اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
تمهيد:
عندما يجلس الكاتب أمام الحاسوب, ويبدأ بطباعة ما يجول في خاطره على صفحات حاسوبه, ويتعثّر فكره في أيّة فكرة, فإنّه مباشرة ينتقل إلى خيار التراجع عمّا كتب, ليقوم بتصحيح الفكرة, أو تصحيح الجملة الّتي كتبها بشكل خاطئ.
وعندما يشتر ي الواحد منّا حاجة من حاجاته, ويرجع بها إلى بيته مسروراً ليجد أنّه قد أخطأ في خياره إذا بان عيبها, فإنّه مباشرة يعود إلى الكفالة ليستعملها في التراجع عن الشراء.
وحين يتقدّم الجيش في المعركة إلى أرض تصل إليه فيها نار الأعداء ولا يجد مفرّاً ولا ملاذاً للاحتماء منها, فإنّه سرعان ما يتراجع إلى الوراء حفاظاً على قوّته, ولإعادة الهجوم بشكل أفضل.
وكذا الإنسان في كلّ مواقف حياته, كحين يتفوّه بكلمة تسيء لصديق, فإنّه يسارع للتراجع عنها ومحاولاً توضيح موقفه, وقد يعتذر عمّا صدر منه.
وكثير من هذه الأمثلة تمرّ في حياة الإنسان. ولو تأمّلنا بشكل دقيق في تفاصيل حياتنا فإنّنا نجد أنّنا دائماً ما نحتاج لخيار التراجع هذا.
وفي علاقتنا مع الله تعالى, لا بدّ لنا من هذا الخيار أيضاً. فلماذا نحتاج لذلك؟
الحاجة للتوبة
دعانا القرآن الكريم إلى التوبة, واستعمل في الدعاء إليها كلمات ملؤها الرحمة, مع علمنا جميعا بأنّ الله تعالى غنيّ عن عذابنا, وغنيّ أيضاً عن عبادتنا, لنتأمّل في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ 1 .
هنا دعوة بلسان الرحمة، فقول الله تعالى: "يا عبادي" دائماً ما يُشعر بالرحمة, كقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾2 .
وقوله تعالى:﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾3 .
وقوله تعالى: ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾4 .
وهذا خطاب يستعلمه الله تعالى لخطاب المؤمنين, ويُشعرَ المستمع له بالرحمة, فلماذا يدعونا الله تعالى بهذا الخطاب؟
إنّ دعوة الله تعالى لنا للتوبة والإنابة لأجل أمور:
1 – أنّه رحيم بنا, ومن صفات الرحيم أن يقبل عذر المعتذر ويقيل عثرة المستقيل, وهذا معنى قوله تعالى:﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾5 .
2 – أنّ التوبة هي بوّابة الأمل للمؤمن المتعثّر, ولولاها لهيمن القنوط على كلّ البشر, لأنّ كلّ البشر خطّاؤون إلّا من عصم الله, وقد نهى الله تعالى عن القنوط من رحمته. يقول عزّ من قائل:﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾6 .
وفي الرواية أنّ الإمام أبا عبد الله الصادق عليه السلام استقبل القبلة قبل التكبير وقال: " اللّهمّ لا تؤيسني من روحك ولا تقنطني من رحمتك ولا تؤمنّي مكرك فإنّه لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون" قلت(أي الراوي): "جعلت فداك ما سمعت بهذا من أحد قبلك"، فقال عليه السلام :"إنّ من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله" 7 .
وفي رواية أخرى عن إمامنا الرضا عليّ بن موسى عليه السلام قال: "سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول: دخل عمرو بن عبيد البصريّ على أبي عبد الله عليه السلام فلمّا سلّم وجلس عنده تلا هذه الآية قول الله عزّ وجلّ:﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ﴾8 ثمّ أمسك فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزّ وجلّ، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾9 ، وبعده اليأس من روح الله، لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾10 ..."11 .
فلا بدّ إذاً من بوّابة يتخلّص بها الإنسان من عذاب الضمير الّذي يحلّ به حينما يرتكب الذنب, وإلّا فإنّه سيقضي عمره ملازماً للشعور بالألم والذنب, وهذا ما سيكون معرقلاً له في الحياة, فضلاً عن الخسران اللاحق في الآخرة, إذ لا مفرّ من الحساب, ولكن مع وجود التوبة يقطع الطريق أمام اليأس وينفتح به باب الإنابة, وفتح الصفحات البيضاء الجديدة.
دعاء التوبة للإمام السجّاد عليه السلام
بعد أن عرفنا مكان التوبة وحاجة الإنسان لها، نقول إنّ للتوبة في كلمات أهل البيت عليهم السلام إرثاً كبيراً, فقد تركوا لنا الكثير من الأدعية الّتي نستدرّ بها عطف الله ورحمته, ونخاطب بها ربّ العزّة بما يليق بالعبيد في خطاب سيّدهم ومالك أمرهم, ومن أجمل هذه الأدعية وأغزرها ما جاء في الصحيفة السجّادية لإمامنا السجّاد زين العابدين عليه السلام .
فدعاؤه عليه السلام في طلب التوبة قد حوى فنّ الاستغفار والتضرّع إلى الله تعالى, وفيه من غزارة المضامين العالية ما يجعلنا نقف أمامه طويلاً في محاولة لسبر أغواره وفهم الحالة الّتي يريد منّا الإمام عليه السلام أن نكون عليها في حالة التوبة.
تمجيد اللّه تعالى
ابتدأ الإمام عليه السلام الدعاء بتمجيد الله تعالى. وهذا من أهمّ آداب الدعاء. فقد حثّت الروايات الكثيرة على أهمّية البدء بالتمجيد والثناء قبل ذكر الحاجة. فقد قال أبو عبد الله عليه السلام لأبي بصير: " إن خفت أمراً يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله ومجّده واثنِ عليه كما هو أهله وصلِّ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم "12 .
فلهذا بدأ الإمام عليه السلام دعاءه بقوله: " اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ الْوَاصِفِينَ" أي يا من لا يصف حقيقة ذاته وجميل صفاته أكثر الناس قدرة على الوصف, "وإنّما لا يصفه سبحانه نعت الواصفين لأنّ الإحاطة بمعرفة كنه صفاته سبحانه وتعالى غير مقدورة لغيره عزّ وجلّ "13
وهذا تمجيد له سبحانه وتعالى, ثمّ قال عليه السلام : " وَيَا مَنْ لاَ يُجَاوِزُهُ رَجَاءُ الرَّاجِينَ", والرجاء الأمل, "المعنى: أنّه غايةُ كلِّ رجاء، لا مرجوَّ فوقه فيتعدّى إليه رجاءُ الراجين، بخلافِ مَن سواه من المرجوّين، إذ لا مرجوَّ سواه إلّا وفوقه مرجوٌّ يتجاوز إليه الرجاء، حتّى ينتهي إليه سبحانه فيقف عنده إذ لا غايةَ وراءه"14 .
ثمّ قال عليه السلام : " وَيَا مَنْ لاَ يَضِيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ", "وإنّما لا يضيع لديه سبحانه أجر المحسنين، لأنَّ إضاعة الأجر إنما يكون للعجز أو للجهل أو للبخل، وكلّ ذلك ممتنع في صفته تعالى, وفيه تلميح إلى قوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾15 16 "
.
ثمّ قال عليه السلام : " وَيَا مَنْ هُوَ مُنْتَهَى خَوْفِ الْعَابِدِيْنَ", فالعابدون الحقيقيّون لا يخشون أحداً كما يخشون الله تعالى, وما يبدر منهم في الدنيا كخوف إنّما هو الحذر والاحتراز, ولا يصل لمقام الخوف الّذي يكون بين العبد والله تعالى, كقوله تعالى في وصف نبيّه موسى عليه السلام :﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ 17 18 .
ثمّ قال عليه السلام : " وَيَا مَنْ هُوَ غَايَةُ خَشْيَةِ الْمُتَّقِينَ", والفرق بين الخوف والخشية أنّ الخوف هو توقّع حصول المكروه, والخشية: خوف يشوبه تعظيم المخشيّ مع المعرفة به، ولذلك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾19 .
أجر المحسنين، لأنَّ إضاعة الأجر إنما يكون للعجز أو للجهل أو للبخل، وكلّ ذلك ممتنع في صفته تعالى, وفيه تلميح إلى قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾15 16 "
.
ثمّ قال عليه السلام : " وَيَا مَنْ هُوَ مُنْتَهَى خَوْفِ الْعَابِدِيْنَ", فالعابدون الحقيقيّون لا يخشون أحداً كما يخشون الله تعالى, وما يبدر منهم في الدنيا كخوف إنّما هو الحذر والاحتراز, ولا يصل لمقام الخوف الّذي يكون بين العبد والله تعالى, كقوله تعالى في وصف نبيّه موسى عليه السلام :﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ 17 18 .
ثمّ قال عليه السلام : " وَيَا مَنْ هُوَ غَايَةُ خَشْيَةِ الْمُتَّقِينَ", والفرق بين الخوف والخشية أنّ الخوف هو توقّع حصول المكروه, والخشية: خوف يشوبه تعظيم المخشيّ مع المعرفة به، ولذلك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾19 .
********
حسن المآب - قبسات من دعاء التوبة
1- سورة الزمر:الآية 53، 54.
2- سورة البقرة: الآية 186.
3- سورة إبراهيم: الآية 31.
4- سورة الحجر: الآية 49.
5- سورة المؤمنون: الآية 109.
6- سورة الزمر:الآية 53.
7- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 545.
8- سورة النجم: الآية 32.
9- سورة المائدة: الآية 72.
10- سورة يوسف: الآية 87.
11- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2 ص 257.
12- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 483.
13- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
14- م.ن.
15- سورة التوبة: الآية 120.
16- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
17- سورة القصص: الآية 21.
18- يراجع الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 12 ص 204.
19- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.