اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القَسَم في سورةِ البروج
حلف سبحانه في سورة البروج بأُمورٍ أربعة :
1 ـ ( السَّماءُ ذات البُرُوج ) : المنازل .
2ـ ( اليَوم المَوعُود ) : القيامة .
3 ـ شاهد
4 ـ مشهود .
قال سبحانه : ( وَالسَّماءِ ذاتِ البُروجِ * وَاليَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُودِ * النارِ ذاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمْؤمِنينَ شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤمِنُوا بِاللّهِ العَزيزِ الحَمِيد ) . (1)
فأقسمَ سبحانه بالعالم العُلوي وهو : السماء وما فيها من المنازل ، الّتي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ، ثمّ أقسم بأعظم الأيّام وأجلّها ، الّذي هو مظهر مُلْكه وأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، ومجمَع أوليائه وأعدائه ، والحكم بينهم بعلمه وعدله .
ثُمّ أقسمَ بكلّ شاهد ومشهود ـ إذا كان اللام للجنس ـ فيكون المراد : كلُّ مُدرِك ومُدرَك وراعٍ ومَرعيّ ، والمصداق البارز له هو النبي الّذي سُمِّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة .
تفسير الآيات :
أمّا السماء : فكلّ شيء عَلاكَ فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فَرَسِه :
وَأَحمَرَ كَالديباجِ أَمّا سَماؤُهُ فَرَيّا وَأَمّا أَرضُهُ فَمُحولُ
وقال بعضهم : كلّ سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض . وسُمّي المطر سماءً لخروجه منها .
وأمّا البروج : واحدها بُرْج ، ويُطلق على الأمر الظاهر ، وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره للناظرين ، ويُسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع بُرجاً .
والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء .
وربّما يُفسّر بالمنازل الاثنى عشر للقمر ؛ لأنّ القمر يصير في كلّ بُرجٍ يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثُمّ يستَتِر ليلتين ثُمّ يظهر .
وربّما يفسّر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الأولى ما ذكرناه ( منازل النجوم على وجه الإطلاق ) .
واليوم الموعود : عَطف على السماء ، وهو يوم القيامة الّذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ، ويوم الفصل والجزاء الّذي وعد اللّه به على ألسنة رُسله ، وفيه يتفرَّد ربّنا بالمُلك والحُكم .
وقد وُعِد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرَّةٍ وقال :
( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) . (1)
وقال : ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلكِنّ أَكْثَرهُمْ لا يََعْلَمُون ) . (1)
وقال تعالى : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ ) . (2)
إلى غير ذلك من الآيات الّتي سَمَّى اللّه سبحانه فيها ذلك اليوم بوَعد اللّه .
وشاهِد ومَشهود : اللفظان معطوفان على السماء ، والجميع قَسَم بعد قَسَم ، وأمّا ما هو المقصود ؟
فالظاهر أنّ الشاهد هو مَن عاين الأشياء وحضرها ، وأوضحه مِصداقاً هو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؛ لأنّه سبحانه وصفه بكونه شاهداً ، قال : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً ) . (3)
نعم ، تفسيره بالنبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من باب الجَري والتطبيق على أفضل المصاديق ، وإلاّ فله معنى أوسع ، يقول سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (4) ، فقد عدّ المؤمنين شهوداً على الأعمال ، فإنّ الغاية من الرؤية هي الشهود .
وتدلّ الآيات على أنّ نبي كلّ أُمّة شاهد على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) . (5)
وأمّا المشهود ، فالمراد منه يوم القيامة ؛ لأنّه من صفات يومها ، قال سبحانه :
( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) (1) ، والمراد به : ( ذلك يومٌ مجموعٌ له الناسُ ) أي : يُجمَع فيه الناس كلّهم ، الأولون والآخرون منهم ، للجزاء والحساب ، والهاء في ( له ) راجعة إلى اليوم ( وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُود ) ، أي : يَشهده الخلائق كلّهم ، من الجنِّ والإنس ، وأهل السماء وأهل الأرض ، أي يحضره .
ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه ، وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق . (2)
هذا كلّه حول المُقسَم به ، وأمّا المُقسَم عليه ، فيحتمل أن يكون أحد أمرين :
أ ـ ( قُتِلَ أَصحابُ الأُخْدُود ) ، وفسَّره بقوله : ( النّارِ ذات الوقُود ) ، أي : أصحاب الأُخدُود هم أصحاب النّار الّتي لها من الحَطَب الكثير ما يشتدّ به لهيبُها ، ويكون حريقها عظيماً ، ولهيبها متطايراً .
ثُمّ أشار إلى وصف آخر لهم ( إِذْ هُمْ عَلَيها قُعُود ) ، أي : أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يُشرفون عليهم ، وهم يُعذّبون بها ، ويوضّحه قوله في الآية اللاحقة : ( وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤمِنينَ شُهُود ) ، أي : أُولئك الجبابرة الّذين أحرقوا المؤمنين ، كانوا حضوراً عند تعذيبهم ، يشاهدون ما يُفعَل بهم ، وفي هذا إيماء إلى قَسوَة قلوبهم ، كما فيه إيماء إلى قوَّة اصطبار المؤمنين وشدَّة جَلدهم ورَباطة جَأشِهم .
وأمّا الصِلة بين ما حلف به من ( السماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ) ، وجواب القَسَم فهي : أنّه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج ، والبروج آية الدفاع ، حيث كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنيَّة على سور البلد عن بلدهم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها لِلنّاظرين * وَحَفِظْناها مِنْ كُل
شَيطانٍ رَجِيم ) . (1)
فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام ، مبيِّناً بأنّ اللّه الّذي كما يدفع بالبروج عن السماء كيد الشياطين ، كذلك يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين .
ثُمّ أقسمَ باليوم الموعود ، الّذي يجزي فيها الناس بأعمالهم ، فهو يجزي أصحاب الأُخدُود بأعمالهم .
وأقسمَ بالشاهِد الّذي يُشاهِد أعمال الآخرين ، وأقسمَ بمشهود ، أي كلّ ما يَشهده الشاهِد ، وهو أنّه سبحانه تبارك وتعالى يُعاين أعمالهم ويشاهدها .
ويمكن أن يكون جواب القَسَم قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَريق * إِنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ ذلِكَ الْفَوزُ الكَبير ) . (2)
فاللّه سبحانه يوعد الكفّار ويعد المؤمنين .
وأمّا وجه الصِلة فواضح أيضاً بالنسبة إلى ما ذكرنا في الوجه الأوّل ، ويُحتمل أن يكون الجواب قوله : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشدِيد * إِنَّهُ هُُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد ) (3)
____________
1 ـ البروج : 1 ـ 8 .
1 ـ يونس : 48 .
1 ـ يونس : 55 .
2 ـ الكهف : 21 .
3 ـ الأحزاب : 45 .
4 ـ التوبة : 105 .
5 ـ النساء : 159 .
1 ـ الحجر : 16ـ 17 .
2 ـ البروج : 10ـ 11 .
3 ـ البروج : 12ـ 13 .
الأقسام في القرآن الكريم:العلامة المحقق جعفر السبحاني
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين