اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قَالَ اللَهُ الحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
{ اللَهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالاْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَ نَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ (بل هي في وسط الصحراء تظلّها السماء، تكتسب من الشمس والهواء والارض) يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَی نُورٍ يَهْدِي اللَهُ لِنُورِهِ (إلی منزل قُربه) مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَـالَ لِلنَّاسِ وَاللَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * (وتلك المشكاة ـ أو المؤمنون الذين اهتدوا بنور الله تعالى) * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ و يُسَبِّحُ لَهُ و فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَو'ةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَـارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور/ 24]
تفسير العلامة الطباطبائيّ لـ: { اللَهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالأرْضِ }
قال أُستاذنا الاعظم العلامه آية الله الطباطبائيّ (قدّس الله سرّه) في تفسير هذه الآيات والآيات التي تليها والخاصّة بوصف الكافرين:
تتضمّن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان والكفّار، تميّز المؤمنين منهم بأنّ المؤمنين مهديّون بأعمالهم الصالحة إلی نور من ربّهم يفيدهم معرفة الله سبحانه ويسلك بهم إلی أحسن الجزاء والفضل من الله تعإلی يوم ينكشف عن قلوبهم وأبصارهم الغطاء، والكفّار لا تسلك بهم أعمالهم إلاّ إلی سراب لا حقيقة له، وهم في ظلمات بعضهافوق بعض ولم يجعل الله لهم نوراً فما لهم من نور.
وقد بيّن سبحانه هذه الحقيقة بأنّ له تعالی نوراً عامّاً تستنير به السماوات والارض فتظهر به في الوجود بعدما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البيّن أنّ ظهور شيء بشيء يستدعي كون المُظْهِر ظاهراً بنفسه و (الظَّاهِرُ بِذاتِهِ المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ هُوَ النُّورُ)، فهو تعإلی نور يظهر السماوات والارض بإشراقه عليها، كما أنّ الانوار الحسّيّة تُظْهِر الاجسام الكثيفة للحسّ بإشراقها عليها غير أنّ ظهور الاشياء بالنور الإلهيّ عين وجودها وظهور الاجسام الكثيفة بالانوار الحسّيّة غير أصل وجودها.
ونوراً خاصّاً يستنير به المؤمنون ويهتدون إليه بأعمالهم الصالحة وهو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم وأبصارهم يوم تتقلّب فيه القلوب والابصار فيهتدون به إلی سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، ومثّل تعإلی هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتلالا الزجاجة كأ نّها كوكب درّيّ فتزيد نوراً علی نور، والمصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبّح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربّهم وعبادته تجارة ولا بيع.
فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقّب للسعادة الخالدة، وحرّمه علی الكافرين وتركهم في ظلمات لا يُبصرون، فخصّ من اشتغل بربّه وأعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، وَاللَهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ لَهُ المُلْكُ وَإلَيْهِ المَصيرُ.
وقوله تعالى: { اللَهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالاْرْضِ..} إلی آخر الآية
المشكاة علی ما ذكره الراغب وغيره: كُوَّةٌ غَيْرُ نافِذَةٍ وهي ما يتّخذ في جدار البيت من الكوّة لوضع بعض الاثاث كالمصباح وغيره عليه وهو غير الفانوس.
و الدرّيّ: من الكواكب العظيم الكثير النور، وهو معدود في السماء.
و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتّخذ من الزيتون.
وقوله: { اللَهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالاْرْضِ }
النور معروف وهو الذي يظهر به الاجسام الكثيفة لابصارنا، فالاشياء ظاهرة به وهو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته، فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. هذا أوّل ما وضع عليه لفظ النور، ثمّ عمّم لكلّ ماينكشف به شيء من المحسوسات علی نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعدّ كلّ من الحواسّ نوراً أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع أو الشمّ والذوق واللمس، ثمّ عمّم لغير المحسوس فعدّ العقل نوراً يظهر به المعقولات، كلّ ذلك بتحليل معني النور المبصر إلی الظاهر بذاته المُظْهِر لغيره.
وإذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الاشياء كان مصداقاً تامّاً للنور، ثمّ لمّا كانت الاشياء الممكنة الوجود إنّما هي موجودة بإيجاد الله تعإلی كان هو المصداق الاتمّ للنور فهناك وجود ونور يتّصف به الاشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعإلی ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الاشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والارض، وهذا هو المراد بقوله:{ اللَهُ نُورُ السَّمَـاواتِ وَالاْرْضِ }، حيث أُضيف النور إلی السماوات والارض ثمّ حمل علی اسم الجلالة، وعلی هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إنّ المعني اللَهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ، وعمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها وهو الوجود الذي يحمل عليها تَعإلَی اللَهُ عَنْ ذَلِك وَتَقَدَّسَ.
ومن ذلك يستفاد أنّه تعالی غير مجهول لشيء من الاشياء، إذ ظهور كلّ شيء لنفسه أو لغيره إنّما هو عن إظهاره تَعإلی فهو الظاهر بذاته له قبله، وإلی هذه الحقيقة يشير قوله تعالی بعد آيتين:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَهَ يُسَبِّحُ لَهُ و مَن فِي السَّمَـاوَاتِ وَالاْرْضِ وَالطَّيْرُ صَـافَّـاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ و وَتَسْبِيحَهُ } ، إذ لا معني للتسبيح والعلم به وبالصلاة مع الجهل بمن يصلّون له وتسبيحه فهو نظير قوله: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }
فقد تحصّل أنّ المراد بالنور في قوله: اللَهُ نُورُ السَّمَـ'وَ تِ وَالاْرْضِ نوره تعالی من حيث يشرق منه النور العامّ الذي يستنير به كلّ شيء وهو مساوٍ لوجود كلّ شيء وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامّة.
وقوله:{ مَثَلُ نُورِهِ } يصف تعالی نوره، وإضافة النور إلی الضمير الراجع إليه تعإلی ـ وظاهره الإضافة اللاميّة دليل علی أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله، بل النور المستعار الذي يفيضه، وليس هو النور العامّ المستعار الذي يظهر به كلّ شيء وهو الوجود الذي يستفيضه منه الاشياء وتتّصف به، والدليل علی قوله بعد تتميم المثل: { يَهْدِي اللَهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ }، إذ لو كان هو النور العامّ لم يختصّ به شيء دون شيء، بل هو نوره الخاصّ بالمؤمنين بحقيقة الإيمان علی ما يفيده الكلام.
وقد نسب تعإلی في سائر كلامه إلی نفسه نوراً كما في قوله:
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِـُوا نُورَ اللَهِ بِأَفْوَ هِهِمْ وَاللَهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ } ( الصفّ/ 8)
وقوله:{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ و نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ و فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّـِنْهَا } (الأنعام/ 122)
وقوله:{ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } (الحديد/ 28)
وقوله:{ أَفَمَن شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَی نُورٍ مِّن رَّبّـِهِ } (الزمر/ 22)
وهذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلی ربّهم وهو نور الإيمان والمعرفة.
وليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإنّ الآية تصف حال عامّة المؤمنين قبل نزول القرآن وبعده.
علی أنّ هذا النور وصف لهم يتّصفون به كما يشير إليه قوله: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } (الحديد/19)
وقوله:{ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } (التحريم/ 8)
والقرآن ليس وصفاً لهم وإن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلی ما قلناه.
معرفة الله للعلامة الطباطبائي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين