اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طرحنا هنا معرفة الله -1- نكمل...
يقول المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) بأرفع بيانٍ للتوحيد:
" إنّ أوّل عبادة الله معرفته " وهو بمعنى أنّ أرفع وأعظم عبادة لله هي معرفته
إنّ الفائدة في وجود الإنسان تكمن في عبوديته لله تعالى ولا تكمن فيما يماثل عبادة الملَك، ولوْ كان هذا الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء.
إنّ إرادة الله قد تعلّقت بهذا الموجود أنْ يجعله خليفة له في الأرض على ما هو عليه، ولوْ كان متلبساً بعملين قبيحين وهما الإفساد في الارض وسفك الدماء، وهذا لا يتعارض مع عبوديّة هذا الإنسان لله تعالى وإنْ كان فعله القبيح يتعارض مع عبادته لله التي يشترك فيها مع الملك، ومنْ هنا يردّ الله على اعتراض الملك الذي كان ناشئاً من عدم الاطلاع على حقيقة العبوديّة الكامنة في وجود الإنسان .
لو أن سيّداً ومولى أرسل عبدَه إلى مكان ما وقام هذا العبد بفعل خطأ فلا يحقّ لأحد معاقبته، ولوْ قام شخصٌ بأذيّته ومعاقبته فإنّ المولى يطالب بحقّه ويعتبر الاعتداء على عبده إعتداء عليه، وأذيّة العبد وإهانته أذيّة للمولى وإهانة له، فإنّ العبد لو أخطأ لا يحق لأحد أنْ يؤذيه ويعاقبه بلْ لا بدّ أنْ يردّ أمره إلى مولاه وسيده فهو المؤهّل الوحيد لمعاقبته.
في خبر طويل عن الإمام الباقر (عليه السلام): قال الراوي:" يا ابن رسول الله إنّي أجد من شيعة أمير المؤمنين ومن مواليكم من يشرب الخمر، ويأكل الربا ويزني ويلوط ويتهاون في الصلاة والزكاة والصوم والحدّ والجهاد وأبواب البر حتّى أنّ أخاه المؤمن يأتيه في حاجة يسيرة فلا يقضيها له، فكيف هذا يا ابن رسول الله؟ ومن أيّ شيء هذا؟
ثمّ قال: وإنّي أجد الناصب الذي لا أشك في كفره يتورّع عن هذه الأشياء، لا يستحلّ الخمر ولا يستحلّ درهماً لمسلم ولا يتهاون بالصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد، ويقوم بحوائج المؤمنين والمسلمين، لله وفي الله تعالى فكيف هذا ولم هذا؟
قال (عليه السلام): " إعلم أنّ الله عزّ وجلّ خلق أرضاً طيبة طاهرة وفجّر فيها ماء عذباً زلالاً فراتاً سائغاً، فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فقبلتها، فأجرى عليها ذلك الماء سبعة أيّام، ثمّ نضب عنها الماء بعد السابع فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً، فجعله طين الأئمة (عليهم السلام) ثمّ أخذ جلّ جلاله ثقل ذلك الطين، فخلق منه شيعتنا، ومحبونا من فضل طينتنا، فلو ترك طينتكم كما ترك طينتنا لكنتم أنتم ونحن سواء "
قال (عليه السلام): " خلق الله عزّ وجل أرضاً سبخة خبيثة منتنة، وفجّر فيها ماءً أجاجاً مالحاً آسناً، ثمّ عرض عليها جلّت عظمته ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم تقبلها، وأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيّام، ثمّ نضب ذلك الماء عنها، ثمّ أخذ من كدورة ذلك الطين المنتن الخبيث وخلق منه أئمة الكفر والطغاة والفجرة، ثمّ عمد إلى بقية ذلك الطين فمزج بطينتكم، ولو ترك طينتهم على حاله ولم يمزج بطينتكم ما عملوا أبداً عملاً صالحاً، ولا أدّوا أمانة إلى أحد ولا شهدوا الشهادتين، ولا صاموا ولا صلّوا ولا زكّوا ولا حجّوا ولا أشبهوكم في الصور أيضاً "
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام) قال: قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام): " إنّ الله بعث جبرئيل إلى الجنة فأتاه بطينة من طينتها وبعث ملك الموت إلى الأرض فجاءه بطينة من طينتها فجمع الطينتين ثم قسمها نصفين فجعلنا من خير القسمين وجعل شيعتنا من طينتنا فما كان من شيعتنا ممّا يرغب بهم عنه من الأعمال القبيحة فذاك ممّا خالطهم من الطينة الخبيثة ومصيرها إلى الجنة وما كان في عدونا من بر وصلاة وصوم من الأعمال الحسنة فذاك لما خالطهم من طينتنا الطيبة ومصيرهم إلى النار "
المولى إنّما يدافع عن عبده لأنّ العبد قد صار واحداً مع مولاه، فلو لطم أحدٌ العبدَ على وجهه فإنّما يلطم المولى على وجهه ولوْ أوذي العبد فإنّما يؤذى المولى، وهذا هو معنى قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها "
لأنّ فاطمة أَمَةُ الله، فمن لطمها (سلام الله عليها) على وجهها فقد لطم وجه الله تعالى وتقدس، ومن ضرب فاطمة على جنبها فقد ضرب الله تعالى وتقدس على جنبه، لأنّها أَمَةُ الله.
إنْ كانت العبادة نصيب شخص ما، فقيمتها في كونها باباً لتحقّق المعرفة التي تخوّله وتؤهله لأنْ يكون عبداً واصلاً إلى مقام العبودية، وإلاّ فما لمْ تتحقق العبوديّة فلنْ يكون التوحيد، وهو أساس المعرفة، نصيبه.
ما يميّز العبد عن العابد، أنّ العابد لوْ قام بعمل حسن تجاه المولى، فإنه يُعطى ماله وأجرته، ومنْ ثمّ يُخلى سبيله في نهاية المطاف، فلو قام العابد ليله وصام دهره، يُعطى ما يشاء من الثواب الجزيل ويصرفه المولى إلى الجهة التي يريدها فيفتح له أبواب الجنان يتبوأ منها حيث يشاء.
وأمّا العبد فشأنه غير هذا، فهو مع مولاه أينما كان فلو كان مولاه في النار يكون معه في النار، ولو كان في الجنة يكون معه هناك، لا لأجل الجنّة بل لأجل حضور مولاه في ذاك المقام.
الإنسان إنّما خرج من الجنة لأنّ وجوده يقتضي العبودية، ولو كانت ذاته تقتضي العبادة مجردةً عن العبوديّة لما خرج منها.
حالُ الخطاب الالهي مع العبد: يا عبدي أنت لي وليس لك عمل بالجنة ولا بغيرها، فما شأنك والجنة التي يبحث عنها الآخرون، فأنت في جنبي ومعي ولن تفارقني.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " إنّ أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده "
هذا التّوحيد هو الكينونة واحداً مع المبدأ، وهذه هي النتيجة المطلوبة المرتقبة من سالك طريق العبودية.
عبادة الله تعرّف الإنسان على حقيقة التّوحيد عن طريق السلوك الذي يتمّ بإرادة العابد واختياره، وأمّا العبوديّة فهي حركة واصطفاء من ناحيّة المولى والمعبود سواء سبق هذا الانتجاب طاعة من العبد أو لم تسبقه، فالعبادة هي الإطاعة الصرفة، وأمّا العبوديّة فتارة تكون مع الطاعة وأخرى لا تكون معها.
العبد هو بمثابة المجذوب السالك الذي يظهر شأنه ويخرج وجوده من الحقّ تعالى ويُصنع من المبدأ
{ واصطنعتك لنفسي } وأمّا العابد فهو بمثابة السالك المجذوب.
المجذوب السالك هو الذي يجلس أوّلاً في جنب الحقّ تعالى، ويكون له انجذاب وانضمام له تعالى ومن ثمّ يعرج نحو الفعلية، فالفعليّة متأخرةٌ عن جذبه وارتباطه مع الحقّ تعالى.
وأمّا السالك المجذوب فهو الذي يقوم بالعمل والفعل، ومن ثمّ يصل إلى الجذبة والاتصال؛ العبوديّة هي الجذب الملحوق بالسلوك، وأمّا العبادة فهي السلوك العملي الملحوق بالوصول إلى الجذب والإتصال؛ هذا فيما لو كان الاتصال من نصيبه، وإلاّ فقد يحصل له الاتصال وقد لا يحصل من جراء العبادة.
في حديث أولي الألباب عن الإمام الصادق (عليه السلام):" إنّ أولي الألباب الذين عملوا بالفكرة حتّى ورثوا منه حبّ الله فإنّ حبّ الله إذا ورثه القلب إستضاء به "
العرفاء في كلماتهم وفي أشعارهم كثيراً ما يستفيدون من كلمة { أولي الألباب } وأولوا الألباب هم الذين ارتبطوا بلبّ الشيء وتجاوزوا القشر، ويعبّر عن العوام بأنّهم قشريون لأنّهم يقومون فقط بأعمال الظاهر من دون مراعاة الآداب والرسوم الباطنية.
ولتوضيح المطلب نقول:
للّوز قشر ظاهري أخضر، وهذا الظاهر يحفظ اللبّ من الرطوبة والحرارة ويحفظه من كلّ آفة، ومن هنا تجد أنّ كلّ من يحافظ على ظاهر الأمور بنحو تامّ يُحفظ من كلّ الآفات.
أمّا أهل اللب فهم الذين يريدون أنْ ينفصلوا عن هذا القشر الظاهري، وحيث أنّ هذا القشر يحفظ اللب من الآفات فلو عُزل اللبّ عن هذا القشر، فإنّ البلاءات سوف تنصبّ على وجود الإنسان لأنّه يريد أنْ يتخلص من هذا القشر ويصل إلى اللبّ.
الآن، لو أردت أنْ تضع هذا اللوز مع قشره في فم شخص، فأيّ حالة تصيبه؟
كلّ هذه الأعمال التي ننجزها أنا وأنت هي قشر وجودنا وليست قابلة للأكل وليس لها أيّ قدر، فتلك القشور لا بدّ أنْ تزيلها، ومن هنا قد تأتي البلاءات وتنصبّ على رأس منْ يريد أنْ يزيلها، وليس المقصود من إزالتها ترك الأعمال والتكاليف الشرعيّة الظاهرية، بل إنّ التكاليف الشرعيّة الظاهرية، التي من شأنها أنْ توصل إلى العبودية، مندرجة ضمن اللبّ.
كثيراً ما يتقيّد الناس بمسألة ماء الوجه، ويطلبون كلّ حياتهم أنْ يبقى ماء وجههم محفوظاً غير مراق، ولكنّ الله قد يريق ماء وجه الإنسان السالك في سيره التصاعدي، لأنّه يريد أنْ يخلّص السالك الموالي من هذا القشر المتلبس بوجوده، حتّى لا يتخيّل أنّ ماء وجهه هذا هو ماء وجهه الحقيقي؛ ومن نعم الله تعالى على الإنسان تخليصه من كلّ الأوهام والخيالات حتّى تظهر حقيقة وجوده بإزالة القشر الظاهري عن وجوده، بل وكلّما ذهب ماء الوجه بنحو أسرع كلّما كان الخلاص أسرع من القشر، وعندما يذهب القشر يبقى اللبّ؛ ولكن مع بقاء اللب لا تتصور أنّ الأمر قد انتهى، بلْ يوجد في باطن هذا اللب ما هو أعمق وأدق وهو لبّ اللبّ.
الآن نضع لب هذه اللوزة في الماء الساخن، وهذا يعني أنّنا نضع لبّ الإنسان في جهنم حتّى ننـزع ذاك القشر البنّي عن هذا اللب فيصير هذا اللبّ أبيضاً نقياً، هذه مرحلة، ولكن توجد مرحلة أرقى وأصفى وهي الوصول إلى لب اللباب؛ هنا لا بدّ أنْ نقطّر هذا اللب، فإذا تمّ تقطيره أُخذ منه زيت اللوز، ومن ثمّ يصنع هذا الزيت طعامٌ للآخرين، وهذا هو الفناء.
إنّ أولي الألباب الذين عملوا بالفكرة؛ أصحاب اللبّ في نهايتهم يصبحون طعاماً للآخرين وهذا هو فناؤهم
وهو قول الإمام (عليه السلام): " شيعتنا كالنحل لوْ علم الناس ما في بطونهم لأكلوهم "
فكلّ ما هو طيّب يكون مَصرفاً واستهلاكاً للآخرين، وهذا كلّه بسبب قداستك وطهارتك أيّها الشيعي ولأجل الأسماء الإلهيّة الموجودة فيك.
إنّ صفات الحقّ تعالى ظاهرة في هذا العالم على نحو البسط التام، بنحو لا يشذّ عن حيطتها شيء في هذا العالم، فكما أنّ الطاعات الصادرة من المؤمنين لها ظهور وكشف عن بعض الأسرار الإلهيّة والصّفات الربانية، كذلك المعاصي في هذا العالم الصادرة عن العاصين- ونحن هنا لسنا بصدد تجويز المعاصي في هذا العالم- هي كشف ورفع قناع عن بعض الأسرار الالهية، فكلّ أهل المعصيّة في العالم وأهل الشرك وعبدة الأصنام إنّما يكشفون عن صفات الحقّ تعالى، فلوْ لم يكن هناك أهل معصيّة ما كان لك أنْ تعرف ما هي الرحمة الإلهيّة الرافعة للذنوب، ولوْ لم يكن هناك أهل ذنب، ما أمكن معرفة ماهيّة المغفرة الإلهية.
إنّ رحمة الله ليست مقيّدة بنحو تختص فقط بأهل الطاعة، بل هي مطلقة وشاملة لكلّ أصناف الناس في هذا الوجود المنبسط.
العبوديّة هي مقام ومرتبة ولا تكون إلاّ بإعطاء الحقّ وموهبته، ولا يمكن أنْ تحصل بالسعي والعمل، بلْ هي على نحو أنّ الله تعالى وتقدّس ينتخب شخصاً ويقول له أنت عبدي.
العبيد عندما يُعرضون في سوق العبيد، لا يذهبون نحو شخص ويقولون له: يا سيد اشتريني أنا.
أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما حضر مرة إلى سوق العبيد وقف في موضع ما، وبدأ ينظر إلى العبيد المعروضين، فنظر يميناً ويساراً فوقع نظره على عبد، وكان هذا العبد أينما ينظر أمير المؤمنين (عليه السلام) ينظر إليه، تبسم المولى له فتبسم العبد فقال لصاحب هذا العبد: بكم تبيع هذا؟
طلب سعراً معيناً، ولكن المولى أعطاه ضعف ما طلبه، وكان هذا العبد قنبراً؛ فعندما وصل إلى خدمة أمير المؤمنين (عليه السلام) بدأ يبكي، وقال للمولى أنّه عندما نظرت إليّ طلبت أنْ أكون عبداً لك، وهذه هي العبوديّة وهذا هو ظهورها في عالم الدنيا.
وكذلك المولى اشترى ميثماً ثمّ حرّره بعد ذلك، ولكنّ نفس ميثم لم يقبل أنْ يذهب ولم يقبل أنْ يشتري هذه الحريّة بالعبودية.
نسأل الله أن يرزقنا معرفة أحكام وشؤون العبوديّة على ما هي عليه.
التوحيد الشهودي سماحة العارف الكامل السيد أحمد الموسوي النجفي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين