معنى قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ...}
المسألة
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }
ما سبب نزول هذه الآية؟ وهل المقصود منها تمييز نساء النَّبي وسائر نساء المؤمنين عن (الإماء)؟
فقد يُشكِل البعض بقوله إِنَّ إسلامكم يصون نساءً دون نساءِ -وحاشى لله أن ينزّل دينًا كهذا-؟!
كما جاء في: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ } يُميَّزن من الإماء والقينات فلا يُؤذَين فلا يؤذيهن أهل الريبة
وفي تفسير آخر: أنهن حرائر { فَلاَ يُؤْذَيْنَ } يتعرض أهل الريبة لهم كتعرضهم للإماء
الجواب
الأمر بالسّتر ليس لغرض التّميُّز عن الإماء
لم أجد في الرّوايات الواردة عن أهل البيت (ع) ذكرًا لمنشأ نزول الآية التَّاسعة والخمسين من سورة الأحزاب، نعم ورد في تفسير القمّي والذي هو تفسير روائي أنَّ سبب نزول قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }
هو أنّ النّساء كُنَّ يخرجن إلى المسجد يُصلِّين خلف رسول الله (ص)، وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقعد الشبَّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذينهنّ ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ...}
إلى قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }
وهذا الذي أفاده علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره لم ينسبه للرّسول (ص) أو إلى واحدٍ من أئمّة أهل البيت (ع) ولو كان ما أفاده روايةً لكانت منقطعة ومرسلة، فهي ساقطة عن الاعتبار، على أنّها لا تقتضي كون المعنى لقوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } هو أنَّ الأمر بالسّتر كان لغرض التّميُّز عن الإماء كما سنُوضّح ذلك فيما بعد.
نعم ورد في روايات العامّة ما يقتضي ذلك:
فقد روى السّيوطيّ في الدرّ المنثور بسندٍ إلى أبي مالك قال: " كان نساء النّبيّ (ص) يخرجن بالليل لحاجتهنّ وكان ناس من المنافقين يتعرّضون لهنّ فقيل ذلك للمنافقين فقالوا إنَّما نفعله بالإماء فنزلت الآية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ...} فأمر بذلك حتّى عُرفوا من الإماء
وذكر أيضًا أنَّ ابن جرير أخرج عن أبي صالح قال: " قدم النّبيّ (ص) المدينة على غير منزل فكان نساء النّبيّ (ص) وغيرهنّ إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهنّ، وكان رجال يجلسون على الطّريق للغزل فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ﴾ الآية يعني بالجلباب حتّى تُعرف الأمة من الحُرَّة
فمنشأ تفسير قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } بالتّميُّز عن الإماء هو هذه الرّوايات الواردة من طرق العامّة وإلاّ فما ورد في تفسير القمّي لا يقتضي ذلك.
الصحيح في معنى الآية الكريمة
وكيف كان فالصّحيح أنَّ معنى قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } هو أنَّ الحكمة من الأمر بالتّستُّر بالجلابيب وعدم إظهار الجيوب والصّدور هو أنَّ ذلك أقرب إلى أن يُعرفن بالصَّلاح والعفاف والسّتر فلا يتعرَّض لهُنَّ الفُسَّاق.
فإنَّ المرأة إذا ظهرت في مظهر المُحتشِمة فإنَّ الفَسَقَةَ من النَّاس لا يتعرَّضون لها غالبًا وإنَّما يتعرَّضون للمرأة المبتذِلة.
فمعنى قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ }
هو أنَّ ارتداء الحجاب والجلباب هو أقرب الوسائل للتّحاشي عن إيذاء الفسقةِ من النَّاس، وذلك لأنَّ ارتداء الحجاب يكون مُؤشِّرًا إلى أنَّ المُرتديةَ له هي من أهل العفاف والسّتر، وهذا هو معنى قوله ﴿يُعْرَفْنَ﴾ أي يُعرفن بالعفاف والسّتر فيتميَّزْنَ عن الفاسقات المبتذِلات، وليس معناه أنّهنّ بارتدائهنّ للحجاب يُعرفن بأنّهنّ حرائر فيتميّزن عن الإماء فذلك ما يُنتج عدم إيذاء الفسقة لهنّ، فإنَّه ليس في الآية بقطع النّظر عمَّا ورد في سبب النّزول ما يَدُلُّ على ذلك، إذ لو كان المُخاطَب بارتداء الجلابيب هو خصوص الحرائر لكان الأنسب هو عدم التّعبير عن المُخاطَب بنساء المؤمنين إذ أنَّ في نساء المؤمنين إماء وفي المؤمنين عبيد، والغالب من نساء العبيد إماء، فالخطاب في الآية المُباركة يشمل المؤمنات الإماء وحينئذٍ كيف يكون المُراد من قوله تعالى: ﴿يُعْرَفْنَ﴾ هو أنّهُنَّ يُعرفن حرائر فيتميّزن عن الإماء والحال أنَّ الخطاب موجّه للإماء المؤمنات كما هو متوجّه للمؤمنات من الحرائر؟!
فهذا الذي ذكرناه يُعدّ قرينة على ما استظهرناه من أنَّ المُراد من قوله تعالى: ﴿يُعْرَفْنَ﴾ هو أنَّهُنَّ يُعرفن بالصّلاح والسّتر والعفاف فيتميّزْنَ عن الفاسقات المبتذلات وهو ما ينتج غالبًا عدم تعرّض الفاسقين لهنَّ بالأذى.
وثَمَّة قرينة أخرى يُمكن أن تُساهم في تأكيد ما استظهرناه وهو أنَّ الآية المباركة وقعت في سياق آيةٍ سبقتها كانت متصدّية للتشنيع على من يؤذي المؤمنين والمؤمنات وذلك بإطلاقه يشمل العبيد المؤمنين والإماء المؤمنات.
قال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا }
الإشكال غير وارد على كلِّ حال
ثُمَّ أنَّه لو التزمنا بأنَّ المُراد من الآية المُباركة هو ما استظهره بعض المفسّرين كالفيض الكاشاني (رحمه الله) لما كان الإشكال الذي ذكرتموه واردًا، إذ أنَّ الآية بناءً على هذا الاستظهار وإن كانت متصدّية لمخاطبة نساء المؤمنين من الحرائر إلا أنَّ ذلك لا يعني الإذن للإماء بالتّبرُّج، كما لا يعني الإذن للفاسقين بالتّعرُّض للإماء والإيذاء لهنّ.
فقد تصدّى القرآن الكريم في آياتٍ آخرى لمخاطبة عموم النّساء المُؤمنات بالعفاف والسّتر.
قال تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...}
وبهذه الآية المباركة وغيرها يتبيّن أنّه لا يصحّ القول بأنّ الله تعالى قد صان نساءً دون نساءٍ حتَّى بناءً على التّفسير الذي استظهره بعض المُفسّرين من الآيةِ مَوردَ البَحثِ، وذلك لأنَّه لا يصحّ اجتزاء القرآن واستنتاج معنىً لبعض آياته بقطع النّظر عن آياته الأخرى.
وعليه لو صحَّ ما استظهره بعض المُفسّرين من الآية التي هي مورد البحث لكان اللازم توجيه ذلك بنحوٍ لا يتنافى مع الآيات الأخرى.
وذلك بأن يُقال أنّ الآية الشَّريفة وإن كان الخطاب فيها موجّه لخصوص الحرائر من المؤمنات إلا أنَّها ساكتة عن بيان حكم الإماء لا أنّها مقتضية للدّلالة على الإذن للإماء بالتّبرُّج. فإنّ مخاطبة أحدٍ بتكليف لا يعني إعفاء غير المُخاطب عن مثل ذلك التّكليف. فقد يقتضي الحال تكليفَ المولى بعض عباده بفعلٍ ثُمّ يكلّف بعضًا آخر من عباده بمثل ذلك الفعل، وقد يُخاطب المولى عموم عباده بتكليف بعد أن كان قد خاطب بعض عباده بنفس ذلك التّكليف وكُلُّ ذلك خاضعٌ لمقتضيات الحال والمناسبات التي يقتضيها المقال.
فمثلا قوله تعالى من سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فالخطاب بالنّهي عن السّرقة والزّنا وقتل الأولاد متوجّه في الآية المُباركة لخصوص المؤمنات وذلك لأنّ اقتضاء الحال أوجب توجيه الخطاب لهُنَّ بالخصوص، فلم يمنع ذلك من توجيه المولى خطابًا آخر بالنّهي عن كلّ هذه الأمور لعموم عباده.
لذلك ورد في سورة الإسراء: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }
وورد في سورة الأنعام: {...وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ...}
الشيخ محمد صنقور
نسألكم الدعاء