قال الإمام الكاظم (عليه السلام) مخاطباً هشام:
(يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك، وقال لقمان (عليه السلام): (إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل...).
إن الكفاح الدائم والمستمر للمؤمنين الإلهيين ضد عوامل التخريب والانحراف في المجتمع، والأفكار المنحطة فيه، كانوا يستعينون بالمدد اللامرئي لتنفيذ برامجهم الإصلاحية وإرشاد العباد إلى نهج الرشاد، وحيث كانت لأرواحهم ارتباط غير منقطع بقدرة الله الأزلية، فإنهم كانوا يتابعون أهدافهم حتى المرحلة النهائية بكل صراحة وموضوعية.
لكن الثقة بالنفس بدون الاتكال على الله لا يمكن أن تنفذ روح الإنسان في الأحوال الحرجة والمنهكة لقوى القلق والاضطراب، لأن الشدائد والعوامل المعاكسة في الحياة تهزم روح الخالي من الاعتماد على الله، والذي لا تتجاوز بصيرته عن حدود الماديات؛ وهو بهذه الحالة لا يتمكن من أن يخطو أية خطوة في مدارج الكمال حتى لو كانت سهلة واضحة وربما يعيقه ألم بسيط عن تحقيق هدف كبير، إن كيفية روحية المسلمين الأوائل في صدر الإسلام وبصورة خاصة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) تثبت لنا صحة ما نرمي إليه، إذ كانوا أفضل وأكمل نموذج للاعتماد على الله والتوكل عليه.
فالذين تربّوا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الإسلامية الأولى النشطة المعطاء، لم تسيطر عليهم حالة عدم الثقة أبداً، وذلك بسب إرادتهم القوية وإيمانهم الأصيل، وهذه الإرادة الثابتة المطمئنة هي التي فتحت لهم طريق النجاح والتقدم والانتصار على الباطل لقد سلكوا طريق الحق وقالوا كلمة الحق ونشروا رسالة الحق ولم تأخذهم في الله لومة لائم حتى أحدثوا ذلك المجتمع الإسلامي الوحيد الذي لم نر نظيراً له في التاريخ.
قال الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أن أمر أصحابه بقول الحق وإظهاره، والتجنب عن الباطل: (إتق الله، وقل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك، أي فلان اتق الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك).
على كل أحد أن يقيّم موقعه في الحياة، ويعرف أن ما اختاره من طريق هل هو إلى خير وسعادة أم إلى شقاء وتعاسة؟ وبالتعرف على الحاجات النفسية يستطيع أن يكافح ضد العوامل التي توجب اضطراب التوازن الروحي، وأن لا يدع تلك العوامل تجتمع وتتكاتف على ضرر الإنسان، فيقول الخير من أي موقع كان. قال الإمام الكاظم (عليه السلام) للفضل بن يونس:
(أبلغ خيراً وقل خيراً، ولا تكن إمّعة).
المسؤولية الفردية
إن المسؤولية الفردية في الإسلام تشكل أساس التعاليم الإنسانية والتوصل إلى السعادة المعنوية في النظام الإسلامي يتوقف على عمل الشخص نفسه والتكاليف التي وضعها على عاتق الإنسان في جميع الشؤون الدينية والدنيوية يجب أن تؤدي بالعمل المباشر، وعلى هذا الأساس يترتب مبدأ الثواب والعقاب. والقرآن الكريم ينبه إلى:
(وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَ مَا سَعَى) و(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) .
وقال تعالى أيضاً: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
وفي هذه الدنيا يستوفي الإنسان نتائج أعماله. جاء عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال: (من عمل سوءاً يُجْزَ بِهِ في الدنيا) .
وقال (صلّى الله عليه وآله): (من يرزع خيراً يحصد رغبة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة) .
وكتب الفيلسوف الأمريكي (امرسون) يقول: (إن العالم بمثابة جدول ضرب أو معادلة رياضية كيفما يعادلونها تعتدل وتتوازن ويكون جوابها واحداً دائماً، إننا أي طريقة نختارها لحل مسألة رياضية فإن إعداد النتائج ستكون واحدة لا محالة والطبيعة بسكوتها تفشي كل سر بطريقة متقنة، وتجازي كل جريمة، وتثبت على كل فضيلة. وكل عمل يستكمل نفسه من طريقين:
الأول: التفاعل في الطبيعة الواقعية لنفس الفعل والعمل.
والثاني: الطريقة العلنية الظاهرة. والكيفية العلنية هي التي تسمى الجزاء والعقاب. العقاب الذاتي يرى بالعين المجردة في الشيء نفسه، والعقاب الكيفي يرى ببصيرة الفهم.
هذه العقوبة الخاصة من الممكن أن تبدو بعد أعوام عديدة من وقوع الحادثة، ولكنها تستتبعها وتلازمها حتماً. إن الجريمة والجزاء أغصان شجرة واحدة، والجزاء ثمرة تنضح وتظهر فجأة من باطن زهرة اللذة التي سترتها وغطتها) .
لذلك وجدنا الإمام الكاظم (عليه السلام) يوصي عموم أصحابه بتنظيم أوقاتهم، والعمل على تهذيب نفوسهم وتحمل مسؤولياتهم فقال (عليه السلام):
اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات:
ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات، ولا تحدثوا أنفسكم بفقر ولا بطول عمر، فإنه من حدّث نفسه بالفقر بخل ومن حدثها بطول العمر حرص.
اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا باعطائها ما تشتهي من الحلال وما لا يثلم المروءة، وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين، فإنّه روي: (ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه)
وقال (عليه السلام) في استغلال الوقت لصالح الفرد وحثه على تحمل المسؤولية في هذه الحياة الدنيا: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه أشرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة على نفسه فهو في النقصان، ومن كان إلى النقصان أكثر فالموت خير له من الحياة) .
عيوب النفس
إن لمختلف أنماط السلوك أثراً في الأشخاص لا يوصف إيجابياً أو سلبياً. ومن عيوب النفس الغرور: إن الغرور وحب التغلّب والارتفاع غالباً ما يمنع الإنسان من أن يدرك حدود نقائصه، ومن أن يقف على حدود قدراته وطاقاته.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (رضا العبد عن نفسه برهان سخافة عقله) .
وإن الأمر الذي يمنع من نمو استقلالية شخصيته، ويسبب في توقف نموه النفسي، وجموده، هو عدم اطلاعه على ما في وجوده من نقائص ممّا يجعل الإنسان لا يهتم أبداً بسد تلك النقائص وترميمها.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الراخي عن نفسه مستور عنه عيبه، ولو عرف فضل غيره كفاه ما به من النقص والخسران) .
عن علي بن سويد، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن العجب الذي يفسد العمل، فقال: العجب درجات: منها أن يُزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً. ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمُنَّ على الله عزّ وجلّ ولله المنّة عليه .
وفي ذلك قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (العجب يفسد العقل)
ونجد كثيراً من أولئك الذين يتلفون طاقاتهم الروحية من دون أن يفيدوا منها في تحسين وضعهم الشخصي والاجتماعي، ومن دون أن يكون لهم أدنى اطلاع عن القوى المخبوءة والطاقات العجيبة في نفوسهم، اللّهم إلا أن تتفق أرضية مساعدة لهم على إبراز استعداداتهم المثمرة، وكم من قدرات مفيدة تذهب هدراً على أثر عدم اطلاع أصحابها عن كيفية ومستوى اقتدارها وحسن استثمارها.
جاء في غرر الحكم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (من طلب عيباً وجده).
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (يا هشام إن العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له به، وأكثر الصواب في خلاف الهوى، ومن طال أمله ساء عمله).
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) أيضاً: (من تعظم في نفسه لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض، ومن تكبّر على إخوانه واستطال عليهم فقد ضاد الله ومن ادعى ما ليس له فهو أغنى لغير رشده).
أما الذين يصابون بالعقد والآلام النفسية، أو يعانون كابوس اليأس والقنوط، هم في الواقع أناس غير مطلعين على استعداداتهم وإمكاناتهم وطاقاتهم الكامنة فيهم، كي يسدوا عوزهم بالإفادة ممّا فيهم من قوى وطاقات، ويستبدلوا ما فيهم من نقص بالكمال، ولذا فمن الضروري لهؤلاء السعي الحثيث لاكتشاف أنفسهم. وقد أكّد العلماء على معرفة النفس ضمن الأمور التي ترتبط منها بالإنسان كذلك في العهد الحاضر يعد تعلم أصول معرفة النفس من أهم المواضيع في علم النفس الطبي، هذا والعصر الحاضر عصر الدراسات العميقة بشأن الطبيعة الإنسانية وعصر علم النفسي بالمعنى الفني والاختصاصي العام.
معرفة النفس
إن مشكلة معرفة النفس والجهل بحاجاتها الروحية حقيقة لا يمكن إنكارها، في حين أن الجهال منا يظنون أنهم يعرفونها أفضل من الجميع، وأنهم مطلعون على علل دوافعها وأفكارها وسلوكها. وبالتالي هم مطلعون على باطنهم تماماً.
ومشكلة معرفة النفس هي العلة لكثير من الأخطاء وسوء الفهم وإصدار الأحكام الظالمة، ممّا يستدل رؤية الإنسان لأساس هذه المشاكل في الجهل وذلك بالإمكانات وكميتها وكيفيتها، التي أودعتها يد الخلقة في وجود إنسان. ولا ننسى الدور الذي تؤديه الوراثة والتربية والمحيط الاجتماعي والبيئة في نظام الحياة النفسية، إضافة إلى سيطرة الأهواء والنقائص على الإنسان ولنا في الحكام العباسيين دليل واضح على ذلك وفي العصور القديمة كان الفلاسفة يؤكدون على معرفة النفس ضمن الأمور التي ترتبط بالإنسان، كما نلاحظ في وقتنا الحاضر أن تعلم أصول معرفة النفس يعد من أهم المواضيع في علم الطب النفسي. في هذا العصر ظهرت سلسلة من البحوث القيمة بشأن علم النفس بالمعنى الاختصاصي العام.
ولهذا فإن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ينبه الناس إلى أن يجتنبوا اتباع الهوى فيقول: (إياكم والهوى، فإن الهوى يعمي ويصم) .
وعن الإمام أبي جفعر (عليه السلام) قال: (لا يغرنك الناس من نفسك فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك، وأحسن فإني لم أر شيئاً أحسن دركاً ولا أسرع طلباً من حسنة محدثة لذنب قديم) .
وروى الكليني أيضاً عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: (لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف وسارعوا إلى طاعة الله وأصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم، فإنما ذلك عليكم) .
وقال (عليه السلام) أيضاً: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه) .
الحب الخالص والود الخالد
وهل أروع وأعظم من هذا الرباط الوثيق الذي يجعل المسلمين كالبنيان المرصوص! قال تعالى في كتابه العزيز: (﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾) وقد عرض سبحانه لدفع البشر إلى هذه المحبة الصافية النزيهة بواعث وأشواقاً، ولذلك أوجد في ضمير الإنسان حباً للذات متوازناً ومتناغماً، ويبلغ في تعاليمه إلى قاعدة ينطلق في ظلها من قيود الغرور وعبادة الذات بحيث لا يظهر فيه اتجاه مفرط في حبه لذاته. وهذا على عكس ما وجدنا عند هارون والمنصور والهادي... إن الكبرياء يختص بذات الله وحده لا شريك له، الله الذي لا يتطرق إليه الفقر والحاجة، بل تحتاج إليه جميع الموجودات من جميع الجهات:
قال تعالى: (﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾) .
والإصابة بالغرور وحب الظهور والتعالي على الناس هو انحراف أكيد عن البرامج الإلهية. والقرآن الكريم يلفت نظر المغرور إلى عجزه واحتقاره وبذلك يهبط بروح القوة عنده من قمة الخيالات الواهبة إلى حضيض الهاوية فيقول تعالى:(﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾) إن من لا ينصرف عن النظر إلى المبدأ الأعلى للوجود لا تسيطر عليه في مواقف الرفاهية والنعمة حالة الغرور بل يبقى على ما هو عليه، إذ أن الإسلام يدعو إلى التواضع والاعتدال، ولا يجب الكبر والاستعلاء لذلك دعا الله جل وعلا رسوله الكريم ليتواضع ويلين جانبه مع الناس قال تعالى: (﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾) .
وقال (صلّى الله عليه وآله): (إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله وإن المتواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا إنماءً، فتصدقوا يزدكم الله).
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (إياك والكبر فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، الكبر رداء الله فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار على وجهه).
وسبب وجود الغرور والقيم الكاذبة المسيطرة على الروح والمدركات هو عدم وجود القيم الإلهية في القلوب المؤمنة. ذلك أن المؤمن يتجنب كل خضوع مذل تنزل به شخصيته في مجتمعه، لأنه أمام ذات الكبرياء المقدسة التي تعطيه الدفع الكبير والقوة الهائلة في سائر حالاته. والله تعالى يوصي أهل الإيمان بهذه المزية الإيمانية الخاصة في جميع المواقع وكل المراحل. قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
والإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (إن قلوب المؤمنين مطوية).
روى الكليني عن علي بن جعفر عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان فإذا أراد استنارة ما فيها نضحها بالحكمة، وزرعها بالعلم، وزارعها والقيم عليها رب العالمين) .
وهكذا قال قلب الإمام الكاظم (عليه السلام) مزروعاً بالحكمة والعلم والقيم من رب العالمين.
الامام الكاظم باب الحوائج
وصلى الله تعالى على النبي الكريم محمد وآله الراضين المرضيين