اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
" يا أبا ذرّ , نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ. يا أبا ذرّ , اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. يا أبا ذر , إيّاك والتسويف (المماطلة) بأملك، فإنّك بيومك ولستَ بما بعده.
يا أبا ذرّ , إذا أصبحت فلا تُحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخذ من صحّتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري ما اسمك غداً... يا أبا ذرّ , كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك ".
تمهيد:
هناك مجموعة من بين أحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باسم الوصايا ، يُخاطب بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً معيّناً. وهي عبارة عن وصايا أخلاقيّة عامّة تحتوي على مطالب كثيرة، منها وصيّته للإمام عليّ عليه السلام، ومنها وصيّته لعبد الله بن مسعود ومنها وصيّته لأبي ذرّ الغفاريّ . ولعلّ مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون مسؤوليّة المحافظة على تلك الوصايا الأخلاقيّة على عاتق الشخص المخاطَب، ومن خلاله يوصي سائر الناس ممّن نُقلت له هذه الوصية، وعلى الطريقة المعروفة ( إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة ).
صنفان يوم القيامة:
إنّ هذا المقطع من الوصيّة يُشير إلى أهمّيّة الوقت في حياة الإنسان، ويؤكّد لنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ضرورة الاستفادة من النعمة التي نحن فيها قبل فقدها، من نعمة العمر والصحّة والفراغ والشباب والغنى، وبشكل عامّ الاستفادة من هذه الحياة كلّها ـ التي هي مزرعة الآخرة ـ قبل الانتقال إلى عالم الآخرة، حيث وقت الحصاد والنتيجة والثواب أو العقاب.
وقد قسّمت الآيات القرآنية الناس يوم القيامة إلى صنفين رئيسَين، صنف يكون فرحاً مستبشراً، وآخر حزيناً نادماً: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
وأمّا الصنف الآخر الذي لم يستفد من نعم الدنيا للآخرة فهو كما تتابع الآيات الكريمات: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ *خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾
العمر مدرسة:
إنّ دورة العمر بالنسبة لكلّ إنسان عبارة عن مدرسة، فكما أنّ الطالب في المدرسة عليه أن يغتنم اليوم والساعة والدقيقة، ويستفيد من كلِّ المعلِّمين الموجودين، ومن جميع الفرص المتاحة له، وكلّ ذلك مسؤول عنه الطالب قبل يوم الامتحان، كذلك الإنسان في الدنيا عليه أن يغتنم كلّ فرصة متاحة له قبل يوم الحساب، بحيث لا تذهب أيّ دقيقة هدراً من عمره النفيس والغالي، قبل ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ .
لو أنّ شابّاً ورث عن أبيه ثروة ضخمة، ولكنّه كان سفيهاً فأسرف وأنفق كلّ ثروته وبذّرها يمنة ويسرة من دون حساب دقيق، ومن دون رعاية لمصلحته ومصلحة أهله، ألا يأسف عليه الناس والعقلاء ويعجبون من تصرّفاته، علماً منهم بما ستؤول إليه أموره في المستقبل جرّاء ما جنته وتجنيه يداه وقد صادفنا جميعاً كثيراً من أمثال هذه الحالة، وتأسّفنا لها، إلا أنّنا لا نتأسّف ولا نُعيرُ أيّ أهمّيّة إزاء التبذير والإسراف في ثروةٍ هي أهمّ بكثير من المال، ألا وهي الوقت والعمر. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّنا نُعطي أهمّيّة كبيرة للمال ونُقدِّر قيمته، ولا نعطي أهمّيّة ولا نُقدِّر قيمة الوقت والعمر.
وقت الناس والعمل:
نُشاهد الكثيرين في حياتنا اليومية ممّن ربَّوا أنفسهم على ألّا يعتدوا على أموال الآخرين، ويتجنّبون أيّ شبهة في أكل أموال الناس، ويخافون الله سبحانه وتعالى في درهم يأكلونه بالباطل أو شبهة. وإذا ما حدث أن تضرّر أحدٌ منهم سارعوا لتعويض خسارته وجبرانها من أموالهم الخاصّة حتّى يحصلوا على رضى ذلك المتضرِّر، كلّ ذلك مخافةً من الله. ونِعْمَ هذه الصفة الموجودة فيهم. ولكن نفس هؤلاء الأشخاص لا يهتمون بوقت الآخرين، ولا يُعطونه أيّ أهمّيّة ولا أدنى حرمة، فيهدرون أوقات الآخرين بأعذارٍٍ شتّى وبأساليب مختلفة، ولا يلتفتون إلى أنّ ما يقومون به ـ من إتلاف وقت الآخرين بلا مبرّر شرعي ـ، مطالبون به يوم القيامة وسيسألون عنه:
فبعضٌ يُعطي الموعد بعد الآخر وهو على علمٍ أنّه سوف لن يفي بالموعد، وعليه، يكون قد وقع في محرّمين اثنين، فهو من جهةٍ وقع في محرّم الكذب ومن جهة أخرى أتلف وقت الآخرين وهم ينتظرونه. وقد يعتاد على هذا الأمر حتّى يُفتضح أمره بين الناس ويُصبح ذا سمعة سيّئة بينهم.
وبعضٌ يُقيم عند الآخرين في أوقاتٍ فضيلة، وفي أوقات عملهم فيهدرها سدى، أو يجلس مع أقوام جلسة المساء أو الصباح وهو يهدر وقته ووقت الآخرين على جلسات لا يُذكر فيها الله عزّ وجلّ ولا أهل البيت عليهم السلام، ولا تُستغلّ بالعلم والمعرفة أو العمل النافع، وإنّما بالمزاح واللّعب والضحك، هذا إن لم تجرّهم الأحاديث إلى النكات الفاضحة وغيبة الناس ومحرّمات أخرى والعياذ بالله.
وهذا كلّه إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أنّنا لم نهضم بعدُ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تماماً في أنّ قيمة الوقت والعمر أسمى وأرفع وأغلى من قيمة المال، لأنّ إتلاف مال الآخرين يُمكن تعويضه من مالنا الخاصّ، بينما إتلاف عمر الآخرين - وهو أهمُّ من المال - لا يُمكن تعويضه من عمرنا الخاصّ!