اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل ألقى الحسينُ (عليه السّلام) بنفسه إلى التهلكة بثورته ضد الاُمويِّين ؟
أوّل الشبهات التي ترد على ذهن السامع أو القارئ لمصرع الحسين (عليه السّلام) هي شبهة : أنّ الحسين بعمله هذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة التي نهى الله تعالى عنها بقوله : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ ) . والقيام بمثل ذلك العمل الانتحاري يعتبر غريباً مِنْ مثل الحسين (عليه السّلام) العارف بشريعة الإسلام ، والممثّل الشرعي لنبي الإسلام جدّه محمد (صلّى الله عليه وآله) .
لذا فالجواب عن هذه الشبهة يتوقّف على تقديم مقدّمة للبحث في الآية الكريمة ، والتعرّف على معنى التهلكة المحرّمة ومتى تصدق ، وهل ينطبق ذلك على عمل الحسين (عليه السّلام) ؟ وننظر هل يصدق عليه (صلوات الله عليه) أنّه ألقى بنفسه إلى الهلكة والتهلكة أم لا ؟
قوله سبحانه وتعالى : ( وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ )(1) .
التهلكة : يعني الهلاك ، وهو كلّ أمر شاقّ ومضرّ بالإنسان ضرراً كبيراً يشقّ تحمّله عادة ؛ مِنْ فقر أو مرض أو موت . والآية الكريمة أمرت أوّلاً بالإنفاق في سبيل الله ، أي التضحية والبذل فيما يرضي الله تعالى ، ويقرّب الإنسان إلى الله ، ثمّ نهت عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة ؛ وذلك بترك الإنفاق في سبيل الله .
ثمّ قالت : ( وَأَحْسِنُوا ) ، أي كونوا محسنين في الإنفاق والبذل ؛ إذ إنّه ليس كلّ تضحية حسنة وشريفة ، ولا كلّ بذل هو محبوب وحسن عند الله ، وإلاّ لكانت تضحيات المجانين والسفهاء أيضاً شريفة وفي سبيل الله .
فالتضحية الشريفة المقدّسة والتي هي في سبيل الله تعالى تعرف بتوفّر شروط فيها ، وتلك الشروط نلخّصها فيما يلي :
الشرط الأول : أن تكون التضحية والبذل والإنفاق في سبيل شيء معقول محبوب عقلاً وعرفاً ، أي في سبيل غرض وهدف عقلاني ، وإلاّ خرجت عن كونها تضحية عقلائيّة ودخلت في عداد الأعمال الجنونية أو اللاإرادية .
الشرط الثاني : أن يكون المفدّى والمضحّى له أشرف وأفضل من الفداء والضحية لدى العقلاء والعرف العام ، كأن يُضحّى بالمال مثلاً لكسب العلم أو الصحة ، أو يُضحّى بالحيوان لتغذية الإنسان ، وهكذا كلّما كانت الغاية أفضل وأثمن كانت التضحية أشرف وأكمل .
هذان العنصران هما الشرطان الرئيسان من الشروط التي لا بدّ منها في كلّ بذل وإنفاق وتضحية حتّى تكون حسنة وشريفة وفي سبيل الله ؛ وعلى هذا يظهر جلياً وبكلّ وضوح أنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) كانت في سبيل الله مئة بالمئة ، وأنّ كلّ ما قدّم فيها وأنفق مِنْ مال وبنين ، ونفس ونفيس ، وغال وعزيز كان إنفاقاً حسناً ، وبذلاً شريفاً ، وتضحية مقدّسة يستحق عليها كلّ إجلال وتقديس وشكر ؛ بداهة توفّر الشرطين الآنفين في ثورته (عليه السّلام) على أتمّ صورهما حسبما نعرف ذلك مفصّلاً فيما يأتي .
وكذلك يتّضح زيف وبطلان الهراء والتهريج القائل أنّ الحسين (عليه السّلام) بنهضته تلك ألقى بنفسه إلى التهلكة ؛ لأنّه قام بدون عدّة وعدد كافيين في وجه قوّة تفوقه عدّة وعدداً بأضعاف مضاعفة !
إنّا نقول لهم : لقد قام قبل الحسين (عليه السّلام) كثير من الأنبياء والرسل في وجه أعداء لهم أقوى عدّة وعدداً ، وقام كثير من الصلحاء وهم عزّل في وجه الطغاة الأقوياء ، ولاقوا صنوفاً من العذاب والأذى والقتل ، فهل كان كلّ اُولئك على خطأ وباطل في مواقفهم ؟!
أمّا استدلالهم بفعل أمير المؤمنين (عليه السّلام) مع معاوية حيث قَبِلَ الصلح أو التحكيم ، وكذلك فعل الحسن الزكي (عليه السّلام) حيث صالح معاوية ، وقَبْلَ ذلك كلّه فعل النبي (صلّى الله عليه وآله) مع المشركين عام الحديبية . . . فإنّه استدلال فاسد وقياس مع الفارق ، حيث صالح هؤلاء أعداءهم ؛ لأنّهم أيقنوا بعدم جدوى الحرب والقتال ، وعدم الوصول إلى الغاية المطلوبة مع الاستمرار في الحرب ، وهي ظهور الحقّ وإزهاق الباطل ، بل بالعكس ظهر الحقّ بصبرهم ومهادنتهم أكثر وأكثر .
فصلح الحديبية مثلاً أظهر عطف الرأي العام العربي نحو محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وأظهر حسن نواياه للعرب ، وأنّه رجل سلام وداعية حبّ ومودّة ، لا رجل حرب ، وبالتالي مهّد ذلك الصلح لفتح مكة بدون قتال ، ثمّ لدخول الناس في دين الله أفواجاً .
وأمّا قبول علي (عليه السّلام) للتحكيم في صفين ، وصلح الحسن مع معاوية فلمْ يكن عن شعور بالعجز عن المقاومة ، ولا بدافع قلّة العدد وكثرة العدو ، بل لغرض فضح نوايا معاوية ، وكشف مؤامراته العدوانية أمام أعين البسطاء الذين كانوا قد خدعوا بنفاقه ودجله .
وكذلك سكوت علي (عليه السّلام) عن حقّه بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) كان لعلمه (عليه السّلام) أنّ استعمال السيف لا يجدي نفعاً لمصلحة الإسلام ، بل يعرض ذلك لخطر أعظم ، وضرر أشدّ ، وفساد أكبر .
والخلاصة : إنّ آية التهلكة لا تشمل مطلق الإقدام على الخطر ، ولا تحرّم التضحية بالنفس والنفيس إذا كانت لغاية أعظم وأفضل ، وهدف أنبل وأشرف ، كالذي قام به الحسين (عليه السّلام) بثورته الخالدة ، وحيث توفّرت في تضحياته كلّ شروط التضحية الشريفة والفداء المقدّس على أكمل وجه ؛ لأنّه (عليه السّلام) ضحّى وفدى ، وبذل وأنفق في سبيل أثمن وأغلى شيء في الحياة مطلقاً ألا وهو الإسلام ؛ دين الله وشريعة السماء ، ونظام الخالق للمخلوق ، ودستور الحياة الدائم الذي لولا تضحيات الحسين (عليه السّلام) لدُفن تحت ركام البدع والتشويهات والانحرافات التي خلّفتها عهود الحكم السابقة ، كما دُفنت الديانات السابقة على الإسلام تحت ترسبات البدع والتحريف حتّى لمْ يبقَ منها أثر حقيقي ؛ حيث لمْ يقيّض لها حسين فيستخرجها ويزيل عنها المضاعفات ، كالذي فعله الحسين بن علي بالنسبة إلى الديانة الإسلاميّة الخالدة .
وهنا قد يرد سؤال وجيه يجدر بنا التعرّض له والإجابة عليه ، والسؤال هو : كيف يكون الإسلام أغلى وأثمن ، وأشرف وأفضل مِنْ كلّ الموجودات والكائنات حتّى الإنسان نفسه فضلاً عن المال والولد ؟! أليس الله تعالى خلق الكون لأجل الإنسان ؟! فكيف يُضحّى بحياة الإنسان في سبيل الدين الذي هو بدوره وجد لأجل سعادة الإنسان وخدمة الإنسان وخيره ؟!
والجواب : نعم ، إذا تعرّض الدين لخطر الزوال أو التحريف فمعنى ذلك أنّ سعادة الإنسان تعرّضت للخطر ، وكرامة الإنسان تعرّضت للزوال ، ولا شك أنّ الإنسان إذا دار أمره بين أنْ نعيش بلا سعادة ولا كرامة ، أو يموت دفاعاً عنهما وإبقاء لهما لغيره وجب الدفاع والصيانة حتّى الموت .
إذا دار الأمر بين أنْ يعيش الإنسان بلا سعادة وكرامة أو يموت سعيداً كريماً ، فلا شكّ أنّ الموت بسعادة وكرامة أفضل من الحياة بدونهما . إذا دار الأمر بين أنْ يعيش الإنسان في مجتمع لا يشعر بكرامته الإنسانية ، ولا يخضع لنواميس الحياة الطبيعية أو يموت ، فلا خلاف في أنْ الموت خير له وأفضل .
ففي الحديث الشريف عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إذا كان اُمراؤكم خياركم , وأغنياؤكم سمحاءكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خيرٌ لكم مِنْ بطنها . وإذا كان اُمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأمركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خيرٌ لكم مِنْ ظهرها )) .
وقال الحسين (عليه السّلام) في خطبة : (( إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )) . إذ إنّ كلّ الأشياء إنّما تخدم مصلحة الإنسان ، وتكون خيراً للإنسان إذا كانت مقرونة مع الدين الصحيح .
فالمال مثلاًً إنّما يكون خيراً وسعادة إذا كان بيد إنسان متديّن يؤمن بالمبدأ والمعاد ، ويتقيّد بحدود الدين في كسب المال وصرفه .
أمّا المال إذا كان بيد الملحد الإباحي ، المتجرّد مِنْ كلّ قيود الدين والعقل والنظام الاجتماعي الإنساني ، فإنّه وسيلة هدم وتخريب ، وشقاء لصاحبه ولغيره : ( إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى )(1) . وقال (عليه السّلام) : (( هلك خزّان الأموال وهم أحياء )) .
وكذلك الأولاد إنّما يكونون خيراً للوالدين وقرة عين لهما إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، وبما فرض عليهم الدين مِنْ حقوق الوالدين واحترامهما ، أمّا لو كانوا بخلاف ذلك فهم وبال على الوالدين ، يرهقونهما طغياناً وكفراً .
وهكذا كلّ شيء في الحياة نافع وخير إذا ساده النظام والدين ، وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ، ولا سعادة في دنيا بلا دين . وقال تعالى : ( فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً )(2) .
ونعود فنقول : إنّ الحسين (عليه السّلام) ضحّى في سبيل أقدس قضية وأشرف غاية في الوجود ، ألا وهو الإسلام الذي تعرّض لأكبر الأخطار على يد ألدّ أعدائه وهم الاُمويّون ، فكان (عليه السّلام) بذلك القيام أصدق مثال ، وأظهر مصداق للشهداء الذين قال الله تعالى فيهم : ( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ )(3) .
ولله درّ مَنْ قال :
كذبَ الموتُ فالحسينُ مخلدُ كلّما مرّت الدهورُ تَجدّدُ
وقال الاُستاذ حسين الأعظمي :
شـهيد العُلا ما أنت ميتٌ وإنّما يموت الذي يبلى وليس له ذكرُ
ومـا دمُـك المسفوكُ إلاّ قيامةٌ لـها كلّ عامٍ يومُ عاشور حشّرُ
ومـا دمُك المسفوكُ إلاّ رسالةٌ مخلدةٌ لمْ يخلُ مِنْ ذكرها عصرُ
ومـا دمُـك المسفوكُ إلاّ تحررٌ لدنيا طغت فيها الخديعةُ والمكرُ
وهـدمٌ لـبنيان على الظلمِ قائمٍ بناه الهوى والكيدُ والحقد والغدرُ
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب:الشيخ عبد الوهاب الكاشي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين