اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما السبب الذي يجعلنا راضين بالواقع المر الذي تعيشه بعض عوائلنا، حيث العلاقات المتوترة والاجواء المشحونة والثقة المفقودة؟ هل هي ظروف الحياة المعقدة التي نعيشها؟ أم طغيان الحالة المادية على عموم الحالة المعنوية من اخلاقيات ومعنويات وعواطف؟
ربما يقنع البعض نفسه بان هذه الاسباب تجعله يائساً من وجود نموذج آخر وناجح في الحياة، او لنقل من نموذج قادر على اقتحام الواقع السيئ الذي يعيشه ويقلبه رأساً على عقب فيكون صحيحاً ومنطقياً! هذا اليأس نجده للأسف عند الحديث عن سيرة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، تلك المرأة الشابة التي عاشت حياتها في مرحلة الشباب فقط، ثم فارقت الحياة في ربيع العمر وبعد لم تكمل الثامنة عشر من عمرها. فما السبب يا ترى في هذه النظرة السلبية؟ هل ان فاطمة تختلف في سائر النساء في تركيبتها (الفسيولوجية)؟ ألم تكن لها مشاعر واحاسيس ورغبات كباقي نساء العالم؟
ان فاطمة بنت محمد رسول الله صلوات الله عليهما، كانت في طفولتها كسائر الفتيات وفي بيتها كسائر النساء، كما هو أبوها النبي الخاتم الذي اراد له الله تعالى ان يكون كسائر البشر، لا ان يكون ملكاً او قدّيساً يتميز عن الناس في مأكله او منامه ومعاشرته للناس. "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران /164)، وهذه واحدة من عديد الآيات التي تشير الى هذه الحقيقة الحضارية في الرسالات الالهية.
إذن؛ فاطمة امتداد للنبوة منذ صغرها، (فاطمة أم أبيها)، فما أعظم هذا الهتاف وهذا الوسام. لقد ولدت الزهراء عليها السلام في السنة الخامسة بعد البعثة النبوية حيث كان الاسلام في أوج جهاده ونظاله ضد الشرك والظلم. فتحت عينيها على الحصار الاقتصادي الظالم المعروف في (شعب أبي طالب) حيث شدّ المسلمون الأوائل بقيادة النبي الأكرم حجر المجاعة على بطونهم. فشهدت المواجهة المحتدمة والصمود والتحدي ثم الضغوط العاصفة التي واجهت أباها برحيل عمه وحاميه أبو طالب وبعده بفترة وجيزة أمها خديجة. في اجواء الصمود والتحدي والاستقامة ترعرعت فاطمة وكبرت، وعندما التحقت بأبيها وبالمسلمين في المدينة، كانت فاطمة السيدة الاولى في المجتمع الاسلامي الاول، فالانتصار للحق ومواجهة الباطل والطغيان وتجسيد القيم الفاضلة والالتزام بالاحكام الدينية وغيرها من الالتزامات والمتبنيات، لم يأت لفاطمة سماعاً او من خلال قراءة كتاب – مثلاً- انما عاشت كل ذلك بتفاصيله واندكت به اندكاكاً، ولعل هذا ما يجب في الحقيقة ان يرفع عنّا الغرابة من العفوية والسلاسة في عديد مواقفها الساطعة، من قبيل اهداء الثوب الجميل والجديد لزفافها لامرأة فقيرة، او تقديم طعام الافطار لسائل على الباب، او لتحملها مشاق العمل البيتي دون ان تنطق بكلمة عن ذلك لزوجها امير المؤمنين عليه السلام، وغير ذلك كثير.
ماذا عند فاطمة...؟!
نعم؛ عندما نرى الفتيات والنسوة اليوم يقتدين في تعاملهن مع ازواجهن وابنائهن بالممثلين والممثلات، وبطريقة ادارة البيت وحتى التجميل وغيره من بعض القنوات الفضائية او المواقع الرخيصة، يجدر بنا ان نطرح هكذا تساؤل مثير، حتى ندرك المسافة التي تفصلنا عن البيت السعيد بكل ما تعنيه الكلمة. أي شيء نريد...؟ نريد الدفء والحنان والتعاون والعفوية والتربية الصحيحة وكل مقومات السعادة في الاسرة التي نعتقد انها تشكل المجتمع الصغير وسط المجتمع الكبير الذي يجب ان يكون نواة الحضارة الكبيرة.
كما الشمس مصدر الدفء والينابيع مصدر المياه العذبة والقلب النظيف ينبوع الحب والحنان والايمان، فان فاطمة جمعت في بيتها كل هذه الينابيع وغيرها مما يمثل القيم الفاضلة والنبيلة في الحياة، لذا كان بيت علي وفاطمة أفضل البيوت في العالم على الاطلاق بتصريح من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وفي حديث مرويٍ من مصادر اهل السنة، عندما نزلت الآية الكريمة: "في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها إسمه"، فقام رجل وقال: أيّ بيوت هذه فقال النبي: صلى الله عليه وآله: إنها بيوت الأنبياء، فقام رجلٌ آخر وأشار إلى بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما وقال: أهذه منها ؟ قال النبي: (صلى الله عليه وآله): نعم؛ ومن أفضلها...
حول هذا الحديث يعلّق سماحة الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) على كلمة (من) التبعيضية، يقول: (ولعل إجابة النبي صلى الله عليه وآله كانت بقدر عقل السائل، ولعلها محيّثة، وإلا من بعض الحيثيات فان بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما هي أفضل البيوت، لأنه البيت الوحيد في العالم الذي ضمّ معصومين، ولذلك يمكن القول إن من هذه الحيثية بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما هو أفضل البيوت على الإطلاق). لكن ما هي معالم هذا البيت السعيد الذي بشّر به النبي الأكرم بيوت المسلمين منذ ذلك الحين والى يوم القيامة؟ في هذا الحيّز المحدود نشير الى عدد من المعالم التي نرجو ونطمح ان تفيدنا في حياتنا:
بيت الحب والحنان
اين يكمن الحب في الحياة الزوجية...؟ هل هو اللحظات العاطفية في الغرفة المغلقة؟ أم في الخلوة ليلاً؟ ربما يكون الاثنين صحيحاً، لكننا نبحث عن حب يعيش معنا لحظات حياتنا اليومية، وتكون لوحة جميلة يتطلع اليها الابناء ويستفيدوا منها لمستقبلهم، فهذا هو الانجاز والمكسب العظيم.
دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً كما يدخل أي زوج الى بيته ظهراً ليأخذ قسطاً من الراحة على متكئٍ له. فطلب الامام من زوجته الصديقة طعاماً يأكله، ففاجأته بالقول: لقد مرّ علينا يومين وليس عندنا طعام! فقال لها ولِمَ لم تخبريني؟ قالت: إن أبي نهاني أن أسألك شيئاً، وقال لي: إن جاء بشيءٍ فبها، وإلا فلا تسأليه شيئاً.
في الحقيقة يمكن ان يكون هذا موقفاً عابراً وسريعاً في حياتنا لكن له اثر عظيم في سعادتنا، لنختبر القدرة على عدم المطالبة بالمال لامور ثانوية وكمالية، ولنجرب عدم المقارنة بذلك الرجل الثري او تلك المرأة ذات المهارات والاعمال المتعددة، ونرى النتيجة، ان الشيء الذي نربحه بترك هذه العادة المقيتة، هو الحب والحنان والقرب اكثر بين الزوجين، وليعرف المتزوجون ان هذا الحب سيكبر ويتماسك عندما يعرف احد الزوجين ان الاخر قد ضحى بسكوته وصبره على شحّة معينة او نقص في شيء معين في البيت او غير ذلك، وهذا ما نتعلمه من الدرس الذي قدمته لنا الصديقة الطاهرة مع زوجها وهو امير المؤمنين وسيد المتقين.
بيت التعاون
يروي الفقيه المقدس الشيرازي (قدس سره) هذه الرواية: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على علي و فاطمة عليهما السلام ذات يوم، فرأى علياً ينظف العدس، فيما فاطمة صلوات الله عليها بجنب القدر تطبخ الطعام، فقال صلى الله عليه وآله: (إسمع مني يا أبا الحسن، ولا أقول إلا ما أمر ربي... ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله من الثواب مثل ما أعطاه الصابرين).
لا مجال للتعليق الكثير على هذه الرواية... يكفي ان يجرب الزوج ما قام به الامام علي عليه السلام، ويضع نفسه مكان أمير المؤمنين، وطالما نتحدث ونقرأ ونكتب وحتى ندعو بصوت عالٍ باننا من اتباع علي ومن شيعته، ثم يجد هذا الزوج انه بالحقيقة يختزل زمناً طوله حوالي اربعة عشر قرناً، ولمن يبحث عن آثار الحضارة الاسلامية، فانها تتمثل امامنا في هذا الاختزال. ان خطوة واحدة من الزوج ومن الزوجة نحو البيت السعيد الذي كان يعيشه على وفاطمة صلوات الله عليهما، كفيل بان يفتح امامنا ابواب السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، لاننا افدنا انفسنا أولاً، ثم كسبنا رضا الله تعالى.