اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام على بديعة الوصف والمنظرالسلام على من نرتجيها ليوم الفزع الأكبر
5. الأرض
الشاهد الآخر الذي يشهد على أعمال العباد وتصرفاتهم، الأرض التي يجري عليها العمل الصالح أو الطالح، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه:
( يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوحى لَها ) .
لم تشر الآية إلى نوع المخبر عنه وانّ الأرض تخبر عن أيّ شيء..!؟ ولكن بقرينة كون الآية تتحدث عن بعث الناس يوم القيامة وانّهم سيرون أعمالهم التي اقترفوها يوم القيامة، يتّضح بجلاء أنّ إخبار الأرض يتعلّق بأعمال العباد الصالحة منها أو الطالحة، خيراً أو شراً، ولذلك أردفها مباشرة بالحديث عن ثواب الأعمال وجزائها حيث قال سبحانه:
( يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوا أَعْمالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) .
والجدير بالذكر انّه ليس كلّ نقاط الأرض تشهد على الإنسان، بل الذي يشهد منها هو البقعة التي ارتكب الإنسان العمل عليها خيراً أم شراً، ولقد أكّدت الروايات هذا المعنى.
سأل أبو كهمس أبا عبد اللّه عليه السلام فقال: يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرقها..!؟ قال عليه السلام : «لا، بل هاهنا وهاهنا، فإنّها تشهد له يوم القيامة». ولقد وردت في المصادر الحديثية روايات كثيرة في خصوص شهادة الأرض على أعمال الإنسان في يوم القيامة، وقد جاءت هذه الروايات في الأبواب المتعلّقة بالصلاة الواجبة والمستحبة،والحجّ، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و...، ولكثرتها يحتاج بحثها ودراستها إلى بحث مستقل وشامل خارج عن حدود البحث هنا، ولقد روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «أتدرون ما أخبارها..!؟» قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: «أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأنّه بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا»
ولقد أزاحت الآيات والروايات الستار عن وجه الحقيقة وأشارت إلى تلك المعارف الدقيقة في وقت كان يغط العالم فيه بسبات ويعيش الجهل المطبق وانعدام الفكر والمعرفة،وهذا شاهد صدق على أحقّية المعارف الإسلامية وانّها تنبع من عين صافية وتنزل من لدن عليم حكيم.
ولقد أشار الحكيم الرومي إلى هذه الحقيقة بأبيات رائعة استوصى مضامينها من آيات الذكرر الحكيم والروايات الشريفة.:
6. الزمان
إذا كانت الأرض وبشهادة الآيات القرآنية تشهد يوم القيامة بما جرى عليها من عمل وما اقترف من أفعال، كذلك الزمان ليله ونهاره يشهدان على الإنسان بما اقترف من أعمال.
روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:«إنّ النهار إذا جاء قال يابن آدم : اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربّك يوم القيامة، فإنّي لم آتك فيما مضى ولا آتك فيما بقي، وإذا جاء الليل قال مثل ذلك».
كما روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عليه السلام قال: «الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلاّ الثقلين: يابن آدم إنّي على ما فيّ شهيد فخذ منّي ، فإنّي لو طلعت الشمس لم تزدد فيّ حسنة ولم تستعتب فيّ من سيئة، وكذلك يقول النهار إذا أدبر الليل».
7. القرآن
دلّت بعض الروايات على أنّ القرآن الكريم يظهر يوم القيامة بصورة إنسان ليشهد على الأُمّة وعلى طريقة تعاملهم معه، ويشكي إلى اللّه سبحانه وتعالى هجرهم له، وفي نفس الوقت يشهد بحق من حفظوه وصانوه واعتنوا به.
فقد روى سعد الخفاف، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «...إنّه سبحانه يخاطب القرآن الكريم ويقول: يا حجّتي في الأرض... كيف رأيت عبادي..!؟ فيقول: منهم من صانني وحافظ عليَّ ولم يضيع شيئاً، ومنهم من ضيّعني واستخف بحقّي وكذب وأنا حجّتك على جميع خلقك،فيقول اللّه تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لأُثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب ولأُعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب».
8. صحيفة الأعمال
من الشهود الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة صحيفة أعماله التي تحتوي على جميع أعماله الحسنة والسيّئة الخيّرة والشريرة.
ولقد أكّد القرآن الكريم وفي آيات كثيرة وجود هذه الصحيفة حيث قال سبحانه:
( ...قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ )
وقال تعالى في آية أُخرى:
( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْويهُمْ بَلى وَرُسُلنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )
فهاتان الآيتان صريحتان في أنّ الملائكة يكتبون كلّ ما يصدر من الإنسان ويحصون عليه جميع حركاته وسكناته الظاهرة والخفيّة إلاّ أنّهما لم تتعرضا إلى مسألة الشهادة يوم القيامة، ولكن من الواضح أنّ الكتابة لابدّ أن تكون نابعة من غرض وهدف، وإلاّ لأصبح هذا التدوين وهذه الكتابة لغواً، وما هذا الغرض إلاّ لأجل الاحتجاج على الإنسان يوم القيامة فتكون الكتابة مقدّمة للاحتجاج، ولذلك نرى القرآن الكريم يصرّح في آية أُخرى:
( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمّا فيهِ... )
وفي آية أُخرى:
( ...وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذ يَخْسَرُالْمُبْطِلُونَ * وَتَرى كُلَّ أُمَّة جاثِيَةً كُلُّ أُمَّة تُدْعى إِلى كِتابِها... * هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ... )
والعجيب هنا أنّ هذه الصحيفة بنحو من الدقّة في تدوين وتسجيل الأعمال: دقيقها وجليلها، بل والأُمور الخفية جـداً حتّـى أنّ المجرمين يتعجّبون من هذه الدقّة، ولقد حكى لنا القرآن الكريم حالهم يوم القيامة بقوله سبحانه:
( ...ما لِ هذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرةً وَلاكَبيرةً إِلاّ أَحْصاها... )
وفي آية أُخرى يصرّح القرآن الكريم أنّ كلّ إنسان تعلّق صحيفة عمله في عنقه:
( وَكُلَّ إِنْسان أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقيهُ مَنْشُوراً )
إلى هنا تمّ البحث عن الشهود الذين هم من خارج نفس الإنسان، وحان الوقت للحديث عن الشهود من داخل الإنسان.
الشهود من داخل الإنسان
إنّ المراد من هذا الصنف من الشهود هو أعضاء بدن الإنسان التي هي جزء من بدنه، أو التي ترتبط بالبدن بنحو من الأنحاء، ومن هذا الصنف:
الف: أعضاء البدن
من الأُمور المحيّرة والعجيبة يوم القيامة أنّ أعضاء الإنسان المجرم تشهد على جرائمها وما تقترفه من أعمال في الحياة الدنيا، بنحو لا تبقي عذراً للمجرم أو للحاضرين والناظرين.
يقول سبحانه:
( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْديهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ )
وفي آية أُخرى يؤكّد القرآن الكريم أنّ لسان الإنسان يختم عليه، ويفسح المجال للأعضاء الأُخرى لتدلي بشهادتها يوم القيامة، قال تعالى:
( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ )
ب: شهادة الجلود
فإذا كانت الطائفة الأُولى من الآيات أشارت إلى شهادة أعضاء بدن الإنسان، فإنّ هناك طائفة أُخرى من الآيات تشير إلى أنّ من بين الشهود يوم القيامة جلد الإنسان نفسه يشهد على عمل الإنسان حيث قال تعالى:
( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حتّى إِذا ما جآءُوُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .
ففي هذه الآية شهادة على أنّ الجلود تشهد على الإنسان وأعماله بصورة مطلقة، فهي تشمل كلّ ما يصدر من الإنسان من عمل، سواء صدر هذا العمل من خلال يد الإنسان أو رجله أو ...، ولكن ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد من «الجلود» هو الكناية عن «الفروج»وليس مطلق الجلود، وإنّما كنّى القرآن الكريم عن ذلك بالجلود مراعاة للأدب والخلق والتنزّه في الكلام.
ولكنّ هذا التفسير لا يقوم على أساس محكم، أضف إلى ذلك أنّ كلمة «الفروج» قد وردت في القرآن الكريم حينما جاء الحديث عن مدح المؤمنين والثناء عليهم، حيث قال تعالى:
( وَالَّذينَ هُمْ لِفُروجِهِمْ حافِظُونَ ) .
بقي هنا سؤال وهو أنّ المذنبين يعترضون على خصوص شهادة الجلود ولا يعترضون على شهادة سائر الأعضاء والجوارح فما هو وجهه؟
والجواب: انّ الجلود تشهد على ما يصدر عنها بالمباشرة، بخلاف السمع والبصر فإنّها كسائر الشهود تشهد بما ارتكبه غيرها.
إلى هنا اتّضح الكلام عن أصناف الشهود التي تشهد على الإنسان يوم القيامة
نسألكم الدعاء
دمتم بحب ورعاية الزهراء