السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ نوري حاتم
ثانياً: وإضافة إلى دور المجتمع في رعاية الأفكار الأساسية الرشيدة وحفظها حيّة نشطة في العلاقات الاجتماعية, يقوم نفس الإمام المهدي (عليه السلام) بعملية تربية كبرى للفرد وتهذيبه وتربيته. فإن الأفكار الرشيد التي يطرحها الإمام تدخل في قلب كل فرد من أفراد المجتمع وتتحول إلى حقائق حيّة تبعث في روح الفرد الأمل والنشاط والحيوية وتقوم بعملية تصعيد مستمرة لعوامل الخير في نفس الإنسان وتطوير لنوازع الإصلاح في كيان الفرد. وعملية التصعيد هذه, عملية فائقة جداً وسريعة وعميقة جداً؛ بحيث أنها تتحول إلى أفعاال وعلاقات وصور عملية قائمة في عمق العلاقات الاجتماعية.
إن ذات وجود الإمام (عليه السلام) نعمة كبرى للفرد والمجتمع حيث إن نفس سلوك الإمام (عليه السلام) وتعاطيه مع الفرد والمجتمع وطريقة تعامله مع شؤون الحياة يشكّل قدوة عملية للفرد وصورة حيّة.
فإن الفرد في المجتمع حينما يشعر أن الإمام (عليه السلام) إنسان مسدّد من الغيب, متصل بحبل الله, وهو البشرى التي بشر بها النبي (صلي الله عليه و آله سلم) من قبل, بل وينزل المسيح (عليه السلام) من عليائه ويصلي خلفه كرامة له ... كل فرد من أفراد المجتمع يتأثر بكلام الإمام (عليه السلام) وإرشاداته وينفذها عملياً ومباشرة في حياته وعلاقاته الاجتماعية.
وفي ضوء هذا يتضح معنى بعض الروايات القائلة بأن الإمام (عليه السلام) بمجرد أن يسمح رأس مسلم في المجتمع يصير هذا المسلم عالماً زكيّاً.
ثم ان وجود الإمام المهدي (عليه السلام) بركة شاملة يفتح به الله خرائن الأرض وأبواب السماء. فكل شيء على هذه الأرض من جماد ونبات وحيوان يساهم من موقعه في بناء حضارة الإمام المهدي التي تقوم على العدل والرحمة. وبذلك تبلغ التقنية الحضارية في زمانه الذروة العليا وتُمكّن المهدي (عليه السلام) من بناء الإنسان المسلم والمجتمع الصالح.
ومن الواضح أن التقنية العالية والثروات العامة تساهم في عملية التربية والتهذيب الكبرى التي يخوضها الإمام (عليه السلام). إذ بمساعدتها يمكن إيصال كلمات الإمام (عليه السلام) وإرشاداته المستمرة إلى كل من أفراد العالم على حجمه ومباشرةً.
وهذا يعني أن التقنية العالية تساهم في اتصال كل فرد بالإمام (عليه السلام) مباشرة وتلقي التوجه اللازم في طيّ مراحل التكامل والتطور المعنوي والفكري.
إن من الواضح أن عملية التربية لا يمكن للمجتمع بمفرده أن يمارسها من دون إرادة الفرد في التغيير, ومن دون التفاعل مع المجتمع في هذا الفعل والانفعال التربوي؛ وذلك لأن إرادة الفرد في التغيير هي مفتاح الحركة والتحول والسير إلى الأمام؛ فالفرد الذي لا يقبل بالتفاعل مع الأفكار الرسالية لا يمكنه أن يتطور ويتكامل مهما اتسمت عملية التربية بالدقة, ومهما توفر لها من قيادات صالحة, إذ ما فعل النبي أمام نفسه مع أبي سفيان ومع أبي جهل وأمثالهما من فراعنة قريش, فإنهم رفضوا النور وفضلوا الظالم عليه حتى مع الإسلام السطحي الذي أعلنه أبو سفيان.
إن عملية التغيير تبدأ بإرادة واعية من قبل الفرد بضرورة التحول ولزوم تهذيب النفس والتخلص من الظلام الداخلي الذي تعيش النفس في أرجائه ولزوم فتح نافذة من نور الإسلام والهدى الذي يحمله المربي المعصوم المسدّد من قبل الغيب ليدخل نور الهداية والصلاح من خلالها إلى نفس الإنسان, ويضيء زواياها المظلمة وينقيها من خفافيش الظلام والباطل.
إن عملية التغيير السيكولوجي تبدأ من شعور الفرد بضرورة التكامل وتغيّر الكم الأخلاقي والباطني إلى كيفٍ ينسجم مع التطور المعنوي والأخلاقي الهائل الذي سيعمل الإمام (عليه السلام) على إيجاده... وبالضبط نظير مقدار من الطين الذي ليس له ماهية نافعة يتعامل معه لإيجاد شكلٍ جميل يسر الناظرين, أو مادة من الأصباغ المختلفة يرسم منها منظراً رائعاً, فإن القوى التي يتمتع بها الإنسان قوى هائلة وكمية من الإمكانات لا بد من تهذيبها وترويضها لتأخذ شكلاً معيناً مفيداً للفرد والمجتمع.
ودور الإمام (عليه السلام) في عملية التربية دور مزدوج؛ فهو من جانب يُحسّس الإنسان بواقعه ويشعره بلزوم التحول والتغيير, بل ان عملية التحول والتكامل مسألة ضرورية لا يمكن التسامح فيها إطلاقاً, وبديهة أساسية لا يمكن التغافل عنها, والخطوة الضرورية التي يجب على كل فرد في المجتمع القيام بها, ومن دونها يفقد الفرد مصداقيته الإنسانية والاجتماعية ... إذ ان الإنسان في سرّ الله الذي آمن بالله واليوم الآخر عمل على طبق إيمانه, أي هذّب نفسه من عوامل الشر وتحلى بصفات الخير, وتحرك باتجاه الأعمال الصالحة. وبنفس الوقت يقوم الإمام (عليه السلام) بعملية إيجابية في مجال تغيير الفرد, وهي توضيح الأفكار والأخلاق الصالحة وبيان الصراط المستقيم في كل مجالات الحياة وبصورة مركزة, بصورة يستطيع الفرد أن يتلقاها ويتعامل معها ويجعلها هدفاً دائماً يتحرك باتجاهها بصورة مستمرة.
إن عملية التربية الفردية والاجتماعية تكتسب محتواها واتجاهها من مضمون الأفكار المركزية التي يعتمد عليها المجتمع في تكوينه الثقافي وعلاقاته الاجتماعية. فالفكر الذي يرفع الفرد إلى مصاف الإله ويقدس حريته المطلقة يخلق شخصية طاغية على المجتمع تتوقع كل شيء دون جهد ومشاركة في العمل الاجتماعي. وكذلك الفكر الذي يطحن الفرد في ماكنة المجتمع؛ فإنه لا يستطيع أن يرفع الفرد إلى مستوى الشعور بالوحدانية الشخصية الضرورية في عملية البناء والإبداع.
قال روبرت اوين, وهو يوضح هذا السلوك التربوي الخاطئ:
»إن تعليم الناشئة يجب أن يكون بالضرورة الأساس الوحيد الذي يقام عليه البناء الهيكلي للمجتمع. ولتنفيذ إعادة تربية المجتمع يجب أن ينشأ نظام قومي للمدارس تسيطر عليه الدولة مركزياً من خلال إحداث نظام قومي للتدريب والتربية تتولى توجيهه عقول كفيّة, حتى يصبح هذا النظام أداة أمينة وطيّعة وفعّالة واقتصادية في يد الحكومة«.
إن الاعتماد المطلق على المجتمع كوسيلة وحيدة ونهائية في تربية المجتمع طريقة خاطئة لا يمكن أن يملأ فراغات الإنسان ويكوّن شخصيته. كما أن منح الفرد – غير المعصوم – الدور الأساسي في عملية التربية لا يقل عن الاتجاه الآخر انحرافاً وابتعاداً عن المنهج الوسط والسديد في تربية الفرد والمجتمع.
ثالثاً:يتبع ...