اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم ياكريم
{قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً }
قال سبحانه { قل }
يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قل يا محمد لهؤلاء الكفار
{ لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } أي لو ملكتم خزائن الله وقيل لو ملكتم مقدورات ربي أي ما يقدر عليه ربي من النعم إذ لا يكون له سبحانه موضع يخزن فيه الرحمة ثم يخرج منه كما يكون للعباد ورحمته نعمته ، وقال القمي: لو كانت الأموال بيد الناس لما أعطوا الناس شيئاً مخافة النفاد، وقيل رحمة الرّبّ هى الولاية وسائر النّعم الظّاهرة والباطنة تسمّى رحمة باتّصالها بالولاية واذا لم تتّصل بالولاية تكون سخطاً ونقمةً واستدارجاً.
{ أنتم تملكون} أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله: { أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل
{ إذاً لأمسكتم } شحاً وبخلاً
{ خشية الإنفاق } أي خشية الفقر والفاقة عن ابن عباس وقتادة, وقيل خشية أن تنفقوا فتفتقروا عن السدي والمعنى لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر للإنفاق لانّكم ما خرجتم عن بشريّتكم والبشر فى جبلّته حبّ المال وخشية نفاده.
قال الراغب : يقال أنفق فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد
وقال بعضهم: الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق، وجوز أن يكون مجازاً عن لازمه وهو النفاد.
إن آيات القرآن الكريم اتخذت عدة أساليب لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية ومنها:
1 ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق .
2 ـ التنأيب على عدم الإنفاق .
3 ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق
وكذلك الحال في روايات أهل بيت النبوة عليهم السلام ومنها: عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله :
« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »
عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله :
« ما نقص مال من صدقة قط فأعطوا ولا تجبنوا »
{ وكان الإنسان قتوراً }
عطف للتّعليل اى فى جبلّته البخل ولذلك اتى بكان فانّه يدل على كون الوصف سجيّته سواء جعل قتوراً مبالغة او صفة مشبه
قتوراً: أي بخيلاً عن ابن عباس وقتادة, وهذا جواب لقولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ويقال نفقت نفقات القوم إذا نفدت وأنفقها صاحبها أي أنفدها حتى افتقر، وفسر القتور بالبخيل المبالغ في الإِمساك وقال في المجمع: القتر التضييق والقتور فعول منه للمبالغة، ويقال: قتر يقتر وتقتر وأقتر وقترَّ إذا قدّر في النفقة
من هو الإنسان في الآية؟
1-ظاهر قوله وكان الإنسان قتوراً العموم،
2-قيل أن الإنسان هو الكافر وهو قول الحسن وابن عباس
3- إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق: وهم الذين قالوا{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعًا } حيث أنهم طلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه.
إن في الناس الجواد فلماذا قالت الآية : { وكان الإنسان قتورا} على وجه العموم ؟
إن في ذلك أحد أمور وهي:
1-أَن يكون الأغلب عليهم من ليس بجواد فجاز الإطلاق تغليباً للأكثر
2-وأيضاً فإن ما يعطيه الإنسان وإن عدّ جواداً بخل في جنب ما يعطيه الله سبحانه لأن الإنسان إنما يعطي ما يفضل عن حاجته ويمسك ما يحتاج إليه والله سبحانه لا تجوز عليه الحاجة فيفيض من النعم على المطيع والعاصي إفاضة من لا يخاف الحاجة،
3- أَنه لا أحد إِلا وهو يجر إِلى نفسه نفعاً بما فيه ضرر على الغير، فهو بخيل بالإضافة إِلى جود الله تعالى.
4- أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل.
5-إِنَّ هذه التعابير لا تتنافى مع كونِ المؤمنين والصالحين يتحلّون بضد هذه الصفات، حيث يُشير التعبير إِلى أنَّ الطبيعة الآدمية هي هكذا، وإِذا لم يخضع الإِنسان لتربية القادة الإِلهيين،، وتُرك لشأنه كالنباتات المتروكة فسيكون مستعداً للإِتصاف بهذه الصفات السيئة. وهذا لا يعني أنَّ ذاته خُلقت هكذا، أو أنَّ عاقبة الجميع كذلك
يقول السيد محمد تقي المدرسي في تفسيره من هدي القرآن: (إن الحاجز الآخر الذي يحجز الإنسان عن الإيمان هو ( البخل ) فالإنسان مجبول على الشح سواء كان غنيا أو فقيرا ، فلو كان يملك خزائن الله ، و خزائن رحمته التي وسعت كل شيء لقبض يده خشية الإنفاق .
لقد تكررت في سورة الإسراء المباركة مثل هذه الآية التي تذكرنا بطبائع الإنسان كقوله سبحانه : " و كان الإنسان عجولا " و قوله " و كان الإنسان كفورا "
و قوله : " و إذا أنعمنا على الإنسان اعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر كان جزوعا "
و لعل السبب يكمن في ان هذه السورة تبين فوائد الوحي و من أعظم فوائده : شفاء البشر من طبائعه الضعيفة و المنحرفة ، ومن هنا ذكرت السورة ببعض هذه الطباع)
لنقف قليلاً مع هذه الصفة الذميمة في الإنسان:
ماهو البخل؟
هو الامساك حيث ينبغي البذل والسخاء فيه، وهو ضد الكرم، وهو من السجايا الذميمة والخلال الخسيسة، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه، وقد عابها الإسلام وحذّر المسلمين منها تحذيراً رهيباً.
لماذا البخل مذموم؟
البخل من ثمرات حب الدنيا ونتائجه، وهو من خبائث الصفات ورذائل الأخلاق، ولذا ورد في ذمّه ما ورد من الآيات والأخبار. قال الله تعالى: «ولا يَحسبنَّ الذينَ يبخلونَ بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم، سيطوقونَ ما بخلوا به يوم القيامة» سورة آل عمران: 180
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار. وجاهل سخي أحبُّ إلى الله من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل» جامع السعادات: 1/363
والأخبار في ذم البخل اكثر من ان تحصى، مع ان تضمنه للمفاسد الدنيوية والأخروية مما يحكم به الوجدان، ولا يحتاج إلى دليل وبرهان، حتّى أن النظر إلى البخيل يقسّي القلب، ومن كان له صفاء سريرة يكرب قلبه، ويظلم من ملاقاته، وقد قيل: «أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه».
مساوئ البخل
البخل سجية خسيسة، وخُلق باعث على المساوئ الكثيرة، والاخطاء الجسيمة في الدنيا والآخرة.
أمّا خطره الأخروي، فقد أعربت عنه احاديث أهل البيت (عليهم السّلام)، ولخّصه أمير المؤمنين (عليه السّلام) حيث قال: «والشحيح إذا شحَّ منع الزكاة والصدقة، وصلة الرحم، وقِرى الضيف، والنفقة في سبيل الله، وابواب البر، وحرام على الجنة ان يدخلها شحيح»
نهج البلاغة، اخلاق أهل البيت (عليهم السّلام): 81
وأمّا خطره الدنيوي، فإنّه داعية للمقت والازدراء لدى القريب والبعيد، وربما تمنى موت البخيل أقربهم إليه واحبهم له، لحرمانه من نواله وطمعاً في تراثه.
والبخيل بعد هذا اشدَّ الناس عناءً وشقاءً، يكدح في جمع المال ولا يستمتع به، وسرعان ما يخلّفه للوارث، فهو يعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
صور البخل
البخل وان كان مذموماً، إلاّ أنّه يختلف ذمّه ويتفاوت باختلاف صوره، فأقبح صوره واشدّها إثماً هو البخل بالفرائض المالية التي أوجبها الله عزّوجلّ على المسلمين، تنظيماً لحياتهم الاقتصادية، وإنعاشاً لمعوزهم. وهكذا تختلف معائب البخل باختلاف الأشخاص والحالات: فبخل الاغنياء أقبح من بخل الفقراء، والشحّ على العيال أو الأقرباء أو الاصدقاء أو الضيوف أبشع وأذمّ منه على غيرهم، والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من الطعام والملابس أسوأ منه في مجالات الترف والبذخ.
كيف نتخلص من هذه الصفة؟
علاج مرض البخل يتم بعلم وعمل، والعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى البذل على سبيل التكلف إلى ان يصير طبعاً له، فكل طالب لازالة البخل وكسب الجود ينبغي ان يكثر التأمل في اخبار ذم البخل ومدح السخاء، وما توعد الله به على البخل من العذاب العظيم، ويكثر التأمل في احوال البخلاء وفي نفرة الطبع عنهم، حتى يعرف بنور المعرفة ان البذل خير له من الامساك في الدنيا والآخرة، ثمَّ يكلف نفسه على البذل ومفارقة المال، ولا يزال يفعل ذلك إلى أن يهيج رغبته في البذل، وكلما تحركت الرغبة ينبغي ان يجتنب الخاطر الأول ولا يتوقف، لأن الشيطان يعده الفقر ويخوّفه ويوسوسه بأنواع الوساوس الصادة عن البذل.
نسألكم الدعاء
منقول