اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم ياكريم
يقول تعالى في سورة الأعراف:
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }
موسى (عليه السلام) نبي من أنبياء أولي العزم
فكيف يطلب رؤية الله تعالى إن كانت الرؤية ممتنعة هكذا يستدل المخالفون على جواز الرؤية..فكيف نرد على هذه الشبهة الواهية
أولاً:الآية تفيد امتناع الرؤية وذلك لوجوه
1 ـ الاجابة بالنفي المؤبد
لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أُجيب بـ (لَنْ تَرَانِي) ، والمتبادر من هذه الجملة أي قوله: (لَنْ تَرَانِي) هو النفي الابدي الدالّ على عدم تحقُّقها أبداً.
والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتى في مورد واحد.
قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) ، (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ،(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ،(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)،إلى غير ذلك من الايات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.
وربّما نوقش في دلالة (لَنْ) على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم «لن» موضوعة للتأبيد، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين :
1 ـ إنّ المراد من التأبيد ليس كونُ المنفي ممتنعاً بالذات، بل كونه غير واقع، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الامكان، نعم ربّما يكون عدم الوقوع مستنداً إلى الاستحالة الذاتية.
2 ـ إنّ المراد من التأبيد هو النفي القاطع، وهذا قد يكون غير محدّد بشيء وربّما يكون محدّداً بظرف خاص، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحالة مادام الظرف باقياً.
والحاصل: أنّ ما أُثير من الاشكال في المقام ناشئ من عدم الامعان فيما ذكرنا من الامرين، فتارةً حسبوا أنّ المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربّما يكون المدخول أمراً ممكناً كما في قوله: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً) ، وأُخرى حسبوا أنّ التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق، فناقشوا بالايات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفياً مطلقاً، ولو أنّهم وقفوا على ما ذكرنا من الامرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات.
وبما أنّه سبحانه لم يتّخذ لنفي رؤيته ظرفاً خاصاً، فسيكون مدلوله عدم تحقّق الرؤية أبداً لا في هذه الدنيا ولا في الاخرة.
والحاصل: أنّ الاية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الامر الجلل، ولذلك أمره أنْ ينظر إلى الجبل عند تجلّيه، فلما اندكّ الجبل خرّ موسى مغشيّاً عليه من الذُعْرِ، ولو كان عدم الرؤية مختصاً بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول: لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الاخرة فاصبر حتى يأتيك وقته، والانسان مهما بلغ كمالاً في الاخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي خُلق عليها، وقد بيّن سبحانه أنه خلق ضعيفاً.
2 ـ تعليق الرؤية على أمر غير واقع
علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلّي، وعدم تحوّله إلى ذرّات ترابية صغار بعده، والمفروض أنه لم يبقَ على حالته السابقة، وبطلت هويّته، وصارت تراباً مدكوكاً، فإذا انتفى المعلّق عليه (بقاء الجبل على حالته) ينتفي المعلّق، وهذا النوع من التعليق في كلامهم، طريقة معروفة حيث يعلِّقون وجود الشيء على ما يعلم عدم وقوعه وتحقّقه، والله سبحانه بما أنه يعلم أنّ الجبل لا يستقر في مكانه ـ بعد التجلّي ـ فعلّق الرؤية على استقراره، لكي يستدلّ بانتفائه على انتفائه
قال سبحانه: (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)
والحاصل: أنّ المعلّق عليه هو وجودُ الاستقرار بِغَضّ النظرِ عن كونهِ أمراً ممكناً أو مستحيلاً، والمفروض انّه لا يستقر، فبانتفائه ينتفي ما علّق عليه وهو الرؤية.
3 ـ تنزيهه سبحانه بعد الافاقة عن الرؤية
تذكر الاية أن موسى لما أفاق فأوّلُ ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال: (سُبْحَانَكَ) وذلك لانّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص، فنزّه سبحانه عنها، فطلبها نوع تصديق لها.
4 ـ توبته لاجل طلب الرؤية
إنّ موسى (عليه السلام) بعدما أفاق، أخذ بالتنزيه أولاً والتوبة والانابة إلى ربّه ثانياً، وظاهر الاية أنه تاب من سؤاله، كما أنّ الظاهر من قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) إنه أوّل المصدّقين بأنه لا يرى بتاتاً.
ثانياً
والجواب عن الشبهة واضح، فإنّ الاستدلال بطلب موسى إنّما يصحّ إذا طلبها الكليم باختيار ومن دون ضغط من قومه، فعندئذ يصلح للتمسّك به ظاهراً، لكن القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حين كانوا مصرّين على ذلك .
ويدلّ عليه قوله سبحانه: (يَسْأَلُك أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلك فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم)
وبعد ما عادوا إلى الحياة بدعاء موسى طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتّى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم كما حلّ سماعه للوحي سبحانه محلّ سماعهم لكلامه تعالى حتّى يؤمنوا به.
فعند ذاك لم يكن لموسى محيص إلاّ الإقدام على السؤال وقال: (ربّ أرني أنظر إليك) فأجيب بقوله: (لن تراني) (رؤية الله سبحانه،مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام)
انّ القرائن تشهد على أنه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرّين على ذلك :
1 ـ أنه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولاً .
2 ـ أنه سبحانه أتْبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانياً .
3 ـ ثمّ نقل اختيار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقاته سبحانه وقال:
(وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةَ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (الاعراف/155)
والاجابة الحاسمة تتوقّف على توضيح أمر آخر وهو: هل كان سؤال موسى الرؤية مستقلاً عن طلب القوم الرؤية، أم لا صلة له بطلبهم؟
من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحد أو زمانين، بل المهم، وجود الصلة بين السؤالين وعدمها، وكون الثاني من توابع السؤال الاوّل.
والظاهر بل المقطوع به هو الاوّل، ويدلّ على ذلك أمران:
الاوّل: سياق الايات ليس دليلاً قطعياً:
إنّ ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقُّق قصة العجل، لقوله سبحانه: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتِ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ) (النساء/153)
فإن تخلل لفظة «ثم» حاك عن تأخّرها عن الذهاب، ومع ذلك كلّه فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الاعراف بعد ذكر قصة العجل، وهذا لو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ السياق ليس دليلاً قطعياً لا يجوز مخالفته، فكما جاز تأخير المتقدّم وجوداً في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها.
الثاني: استقلال السؤالين غير معقول
انّ لاحتمال استقلال السؤالين صورتين:
الاُولى: أن يتقدّم موسى بسؤال الله الرؤية لنفسه ثمّ يَحدث ما حدث، من خروره صعقاً وإفاقته وإنابته ثمّ إنّه بعدما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يُرِي الله لهم جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
الثانية: عكس الصورة الاُولى، بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثمّ يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث ثمّ هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيُخاطب بقوله: (لَنْ تَرَانِي وَلكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) .
انّ العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية.
أما الاُولى، فلو كان موسى متقدّماً في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به بقوله (لَنْ تَرَانِي) كان عليه أن يذكّر قومه بعواقبِ السؤال، وأنه سألها ربّه ففوجئ بالغشيان، مع أنه لم يذكرهم بشيء مما جرى عليه حين طلبهم، ولو ذكّرهم لما سكت عنه الوحي.
أمّا الثانية: فهو كذلك، لانه لو كان قد تقدّم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفهياً فلا يصحّ في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلاً.
وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقاءين ولا سؤالين مستقلّين، وإنّما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتّب وصلة، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الاوّل، وعندئذ لا يدلّ سؤال موسى الرؤية على كونها أمراً ممكناً لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه.
وتوضيح ذلك: أنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعتَ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقاته وسأله سبحانه أن يكلِّمه، فلما كلّم الله وسمع القوم كلامه قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وإلى هذه الواقعة تشير الايات التالية:
1 ـ (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة/151)
2 ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة/55)
3ـ (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (النساء/153)
4 ـ (وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (الاعراف/155)
إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلّم موسى (عليه السلام) حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئاً، وإنّما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم، وهو القائل: (قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ)
فلو كان هناك سؤال فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد اصابة الصاعقة السائلين، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى، وعندئذ نتساءل هل يصح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأُمّ عينيه ما رأى؟
كلا، وكيف يصحّ له أن يسأله وقد وصف السؤال بالسفاهة، فلم يبق هناك إلاّ احتمال آخر، وهو انّه بعدما عاد قومه إلى الحياة أصرّوا على موسى وألحّوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد اخباره بالرؤية، وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الذين عرفوا بالعناد واللجاج، وبما أنّ موسى لم يُقْدِم على السؤال إلاّ باصرار منهم لكي يسكتهم، لذلك لم يتوجه إلى الكليم أيُّ تَبَعة ولا مؤاخذة، بل خوطب بقوله (لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)
(رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل،الشيخ جعفر السبحاني)
وللامام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) هنا كلام حول سؤال موسى:ذكرالطبرسي في الاحتجاج،قال عليّ بن محمّد بن الجهم: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى (عليهما السلام)، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك انّ الانبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول الله عزّ وجلّ (وَلَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أنّ الله ـ تعالى ذكره ـ لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟
فقال الرضا (عليه السلام): «إنّ كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أنّ الله تعالى عن أن يُرى بالابصار، ولكنّه لما كلّمه الله عزّ وجلّ وقرّ به نجيّاً، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سينا، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم كلامه، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لانّ الله عزّ وجلّ أحدَثَه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلامَ الله حتى نرى الله جهرةً، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عزّ وجلّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظلمهم فماتوا
فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعتُ إليهم وقالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لانّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله إيّاك، فأحياهم الله وبعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لاجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته، فقال موسى (عليه السلام): يا قوم إنّ الله لا يُرى بالابصار ولا كيفية له، وإنّما يعرف بآياته ويعلم باعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى (عليه السلام): يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم
فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا موسى إسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكِ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ (بآية من آياته) جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ (يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنّك لا تُرى».
فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
(ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التفسير مانقرأه في الآية (155) من سورة الأعراف من أن موسى"ع" قال بعدما حدث ماحدث
{ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}، فيتضح من هذه الجملة أن موسى"ع" لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب اطلاقاً، بل لعل الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضاً لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغير المنطقي، إنهم كانوا مجرد علماء ومندوبين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسى "ع" لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته
(الأمثل في تفسير القرآن)
*وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال: ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً وتبرأ من فعلهم، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لابدّ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرةً، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله: (لَنْ تَرَانِي) ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)
* وفي الجوامع (تفسير الصافي ج2): وقيل في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بقوله أرني أنظر إليك عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطر الخلق إلى معرفتك ، أنظر إليك أعرفك معرفة ضرورية كأني أنظر إليك كما جاء في الحديث ( سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ) بمعنى ستعرفونه معرفة جلية هو في الجلاء مثل أبصاركم القمر إذا امتلى واستوى بدرا ، قال : ( لن تراني ) لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ، ولن تحتمل قوتك تلك الآية ، ولكن انظر إلى الجبل فإني أورد عليه آية من تلك الآيات فإن ثبت لتجليها واستقر مكانه فسوف تثبت بها وتطيقها ( فلما تجلى ربه ) فلما ظهرت للجبل آية من آيات ربه ( جعله دكا وخر موسى صعقا ) لعظم ما رآى ( فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ) مما اقترحت ( وأنا أول المؤمنين ) بعظمتك وجلالك .
* هناك احتمال آخر ذكره الطباطبائي في الميزان: وهو أن موسى"ع" طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى، وتنافي نبوة موسى"ع"، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية، نوع من الشهود الكامل الروحي والفكري ، لأنه كثيراً ماتستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول: أنا أرى في نفسي قدرة على القيام بهذا العمل، في حين أن القدرة ليست شيئاً قابلاً للرؤية، بل المقصود هو أنني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح، كان موسى"ع" يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكناً في الدنيا، وإن كان ممكناً في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود، ولكن الله تعالى أجاب موسى"ع" قائلاً: إن مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك، ولاثبات هذا المطلب تجلى للجبل، فتحطم الجبل وتلاشى، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب.
*ان الله تعالى أراد أن يُرَى بهذا العمل شيئين لموسى"ع" وبني إسرائيل:
الأول: أنهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.
الثاني: كما أن هذه الآية الإلهية مع أنها مخلوق من المخلوقان لا أكثر، ليست قابلة للرؤية بذاتها، بل المرئي هو آثارها، أي الرجة العظيمة، والمسموع هو صوتها المهيب، أما أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامضة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعين، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأخرى، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية، ويقول: حيث أننا لا نرى ذاتها، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها، فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى بما أنه غير قابل للرؤية إذن لايمكننا الإيمان به، مع أنه ملأت آثاره كل مكان).
تفسيرالأمثل
نسألكم الدعاء