السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وألعن أعداءعم أجمعين من الأولين والآخرين
قال الله ربي جل علاه :{ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّى خِفْتُ الْمَوَلِىَ مِن وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } سورة مريم (1-6)
المراد من الإِرث
لقد قدم المفسّرون الإِسلاميون بحوثاً كثيرة حول الإِجابة عن هذا السؤال، فالبعض يعتقد أنّ الإِرث هنا يعني الإِرث في الأموال، والبعض اعتبره إِشارة إِلى مقام النبوة، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى جامعاً شاملا لكلا الرأيين السابقين.
وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الأوّل، في حين ذهب جماعة من علماء العامّة إِلى المعنى الثّاني، والبعض الآخر ـ كسيد قطب في (في ظلال القرآن)، والآلوسي في روح المعاني ـ اختاروا المعنى الثّالث.
إِنّ الذين حصروا المراد في الإِرث في المال استندوا إِلى ظهور كلمة الإِرث في هذا المعنى، لأن هذه الكلمة إِذا كانت مجرّدة عن القرائن الأُخرى، فإِنّها تعني إِرث الأموال، أمّا في موارد استعمالها في بعض آيات القرآن في الأُمور المعنوية، كالآية (32) من سورة فاطر: (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.
إِضافة إِلى أنّه يستفاد من قسم من الرّوايات أن هدايا ونذوراً كثيرة كانت تجلب إِلى الأحبار ـ وهم علماء اليهود ـ في زمان بني إِسرائيل، وكان زكريا رئيس الأحبار.
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود، وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود، فقد كان لها نصيب منها.
لقد كان زكريا خائفاً من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين، وانتهازيين، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة، فتكون بنفسها سبباً لنشوء وانتشار الفساد في المجتمع، لذلك طلب من ربّه أن يرزقه ولداً صالحاً ليرث هذه الأموال وينظر فيها، ويصرفها في أفضل الموارد.
الرّواية المعروفة المروية عن فاطمة الزهراء(عليها السلام) والتي استدلت فيها بهذه الآية من أجل استرجاع فدك، هي شاهد آخر على هذا المدعى.
ينقل العلاّمة الطبرسي في كتاب الإِحتجاج عن سيدة النساء(عليها السلام):
إِنّه عندما صمم الخليفة الأوّل على منع فاطمة الزهراء (عليها السلام) فدكاً، وبلغ ذلك فاطمة، حضرت عنده وقالت:
«يا أبا بكر! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إِذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا: (إِذ قال رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب؟).
أمّا الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي، فقد تمسكوا بقرائن في نفس الآية، أو خارجة عنها، مثل:
1 ـ يبدو من البعيد أن نبيّاً كبيراً كزكريا، وفي ذلك السن الكبير، يمكن أن تشغل فكره مسألة ميراث ثروته، خاصّة وأنّه يضيف بعد جملة (يرثني ويرث من آل يعقوب) جملة (واجعله ربّ رضياً)، ولا شك أن هذه الجملة إِشارة إِلى الصفات المعنوية لذلك الوارث.
2 ـ إِنّ الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة، فإِنّه ذكر صفات ومقامات معنوية عظيمة، ومن جملتها مقام النبوة.
3 ـ إِن الآية (38) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إِلى هذا الطلب والدعاء، وأنّه فكر في ذلك عندما شاهد مقامات مريم حيث كان يأتيها رزقها من طعام الجنّة في محرابها بلطف الله: (هنا لك دعا زكريا ربّه قال ربّ هب لي من لدنك ذرية طبية إنّك سميع الدعاء).
4 ـ ورد في بعض الأحاديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يؤيد أن الإِرث هنا يراد به الارث المعنوي، وخلاصة الحديث أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) روى عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّ عيسى بن مريم مرّ على قبر كان صاحبه يعذب، ومرّ عليه في العام الثّاني فرأى صاحب ذلك القبر لا يعذب، فسأله ربّه عن ذلك، فأوحى الله إِليه أنّه لصاحب هذا القبر ولد صالح قد أصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفر الله له بعمل ولده.
ثمّ قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده»
ثمّ تلا الإِمام الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا: (هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً).
فإِن قيل: إِن ظاهر كلمة الإِرث هو إرث الأموال.
فيقال في الجواب: إِن هذا الظهور ليسَ قطعياً، لأنّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن مراراً في الإِرث المعنوي، كالآية (32) من سورة فاطر، والآية (53) من سورة المؤمن. إِضافة إِلى أنّنا لو فرضنا أنّها خلاف الظاهر، فإِنّ هذا الإِشكال سيزول بوجود القرائن.
إِلاّ أنّ أنصار الرأي الأوّل يستطيعون أن يناقشوا هذه الإِستدلالات، بأنّ ما كان يشغل فكر زكريا ـ نبي الله الكبير ـ هي مسألة الأموال، ولم تكن تشغله كمسألة شخصية، بل باعتبارها مصدراً لفساد أو صلاح المجتمع; لأنّ بني إِسرائيل ـ وكما قيل أعلاه ـ كانوا يأتون بالهدايا والنذور الكثيرة إِلى الأحبار فكانت تودع عند زكريا، وربما كانت هناك أموالا متبقية من قبل زوجته التي كانت من أسرة سليمان، ومن البديهي أن وجود شخص غير صالح يتولى هذه الأموال قد يؤدي إِلى مفاسد عظيمة، وهذا هو الذي كان يقلق زكريا.
وأمّا الصفات المعنوية التي ذكرت ليحيى في هذه الآيات والآيات الأُخرى، فإِنّها تؤيد ما ذكرنا، وتنسجم معه، لأنّه أراد أن تقع هذه الثروة العظيمة بيد رجل صالح يستفيد منها في سبيل المجتمع.
إِلاّ أنّنا نعتقد بأنا إِذا توصلنا من مجموع المباحث أعلاه إِلى هذه النتيجة، وهي أن للإرِث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف، لأنّ لكل رأي قرائنه، وإِذ لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الرّوايات، فإِنّ هذا التّفسير يبدو أقرب للصواب.
أمّا جملة (إِنّي خفت الموالي من ورائي) فإِنّها مناسبة لكلا المعنيين، لأنّ الأشخاص الفاسدين إِذ تولوا أمر هذه الأموال، فإِنّهم سيكونون مصدر قلق حقاً، وإِذا وقعت زمام الأُمور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين، فإِنّ ذلك أيضاً يثير المخاوف، وعلى هذا فإِنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين. وحديث فاطمة الزهراء (عليها السلام) يناسب هذا المعنى أيضاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء التاسع
متباركين بمولد منقد البشرية الامام الحجة (عليه السلام) وكل عام وأنتم بألف خير