اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حقيقة أن يكون الإنسان حياً، تظهر من خلال تعلق قلبه بما يحقق له النفع، لأنّ هذا القلب ينزع دائماً للبحث عن أسباب سعادته بشوق، ويندفع لتحقيق رغباته بفيض من مشاعره... ولكن متى استطاع هذا الإنسان أن يحصل على ما يعتقد أن فيه سعادته يكتشف أنّه لم يصل إلى ما يرجوه من الطمأنينة وقرة العين. وتتراءى له غاية أخرى، فيجد ويجتهد ليحصل عليها وهكذا...
فإذا كانت النفس البشرية سقيمة، وإذا كان القلب مريضاً يفتقد إلى الرشد، فإنّه يتيه فيما يظنه أسباب سعادته، ويبالغ في ورو مياهها الآجنة، فيشرب ثمّ يشرب دون أن يرتوي. جاء في الحديث: "لو كان لإبن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف إبن آدم إلا التراب".
أمّا إذا كانت النفس البشرية سليمة راشدة، فإنّها تنتقل من طلب ما لا يغني إلى ما هو أسمى وأرفع درجة، فتنتقل مثلاً من حب الشهوات إلى حب المال، ومن حب المال إلى حب الفضل وتحصيل الكرامة، ومن ذلك إلى طلب العلم، إلى أن تجد أن لا شيء من ذلك يروي ظمأ النفس ويطفئ هيامها فتشتد بطلبها للمحبوب الأوحد الذي هو سبب كل خير.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور/ 39-40)، هذه الآيات الكريمة تبين أن أصحاب الأهواء والنفوس السقيمة يتخبطون في ظلمات الشهوات التي تهطل عليهم (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة/ 19-20).
فالشهوات لها عواقب وخيمة وأثار قاتله تظهر آثارها في الدنيا قبل الآخرة ولكنهم يعمون أعينهم عنها ويصمون آذانهم، والله سبحانه محيط بهم.
أمّا أهل البصيرة أو أولو الألباب فإنهم سرعان ما ينتقلون إلى طلب ما هو حق وخير، وتتعلق قلوبهم بالله سبحانه وتعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) (النور/ 37).
إنّ قراءة متأنية لواقع المجتمعات والأفراد تبين أن أهل الدنيا تتعلق قلوبهم بما سوى الله من علائق الدنيا، والذين آمنوا لا تتعلق قلوبهم إلا بالله لأنّه علّة الخير كله. قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...) (البقرة/ 165).
فإذا عرف أهل البصيرة أنّ الله هو أصل الخيرات وعلة المنافع والمرتجى لتحصيل السعادة، تركوا ما سواه، وهجروا كلّ العلائق الفانية وشدوا الرحال، وانطلقوا في رحلة السفر إلى الله.
- ما هو السفر إلى الله:
عندما يكتشف الإنسان المتبصر أن كلَّ ما في هذه الدنيا لا يحقق له المطلوب من السعادة والإطمئنان، ولا يلبي حنينه وهيامه، يبدأ بالبحث عما هو جدير بقلبه فلا يجد إلا الله سبحانه وتعالى، فكما أن هدف المحب هو الوصول إلى محبوبه والوصال معه، وكما أن هدف العاشق الذوبان في معشوقه، كذلك تكون الحالة مع العاشقين لله سبحانه، وإذا كان عنوان الحب والعشق هو العطاء والفناء في المحبوب والمعشوق، فإن أكثر ما تتجلى محبة العاشقين لله في سوح الجهاد وذلك أنّ المجاهد في سبيل الله أبعد ما يكون عن النفاق والرياء وكل ما يفسد صفاء القلب، فهو ينتظر لقاءه بمحبوبه في أيّة لحظة، ولذا فإنك تجد أن حماسة الثوريين المجاهدين لا تبرد إذا غادر ساحات الجهاد، فهم يعودون من ساحات الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر حتى يصلوا إلى الهدف ويصلوا إلى الحبيب... ومتى أثقلت على قلوبهم أعباء الحياة الدنيا وشعروا أن علائق الدنيا الفانية بدأت تستأثر بشغافها، وأن حبيبهم بات كأنّه غريب عن وجودهم دخل الهم والحزن إلى تلك القلوب التي لم تكد تنسى طعم حبها الصادق لله فتضرعت في سرها وما هو أخفى... فإذا برحمة الرحيم قريبة منها وإذا بها تتذكر، فتصرف وجهها عن كل ما خلا الله سبحانه وتعالى، وتهاجر من جديد إليه، وخير مكان تعشقه أصول أرواحهم هو ساحات الجهاد حيث تكون قريبة من الآخرة وبعيدة عن الدنيا... قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).
إنّ الخطوة الأولى في طريق السفر إلى الله هي معرفة الله، إذ كيف يسافر العباد لطلب محبوبهم إذا كانوا لا يعرفونه، ولا يعرفون الطريق التي توصل إليه؟ قال إبن ميثم البحراني: "المراد بالمعرفة، المعرفة التامة التي هي غاية العارف في مراتب السلوك وأوليتها في العقل لكونها علّة غائية، وبيّنٌ الترتيب بأنّ المعرفة تزداد بالعبادة وتَلقي الأوامر بالقبول، فيستعد السالك أوّلاً بسببها للتصديق بوجوده يقيناً، ثمّ لتوحيده، ثمّ للإخلاص له، لنفي ما عداه عنه، فيغرق في تيار بحار العظمة، وكل كمال لما قبلها، إلى أن تتم المعرفة المطلوبة له بحسب ما في وسعه، وبكمال المعرفة يتم الدين وينتهي السفر إلى الله تعالى".
- عقبات في الطريق:
والطريق إلى الله رغم أنّه قريب المسافة، كما ورد في الدعاء "وإنّ الراحل إليك قريب المسافة" وهذا يعني أنّ الرحلة قد تكون قصيرة إذا انكشفت للإنسان آليات السفر. إلا أنّ هذا الطريق قد يكون محفوفاً بالمزالق والعقبات، لأنّ الشيطان دأبه إعتراض سبيل الإنسان وتثبيطه وردّه، ووسائل الشيطان كثيرة وكلها معدودة في شهوات الحياة الدنيا الفانية، وقد جاء في رواية ضرّار بن حمزة الضبابي وقد سأله معاوية عن أمير المؤمنين (ع) قال: "لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات، غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، فآه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر، وعظيم المورد، يقول ابن ميثم البحراني عند ذكره لهذا الحديث: وهذا صريح موضح لإثبات ملكة العفة له، وقمع الشهوة بالكلية".
وبهذا يرسم أمير المؤمنين (ع) للسالكين إلى الله الطريق الواضح، حتى يتمكنوا من تحرير أنفسهم من إستعمال الشيطان لهذا البدن، ويصلوا إلى الحرِّية والإنعتاق من عبودية غير الله، ليمتلكوا حرِّية الإستجابة لنداء الروح الباحثة عن الله سبحانه وتعالى من دون عناء.
- ترويض النفس:
إذاً، لإزاحة العقبات من طريق السفر، ينبغي بداية إزالة علائق النفس الأمارة بالسوء من كل عُلقة غير علقتها بالله، وفي هذا المجال لا يستطيع الإنسان السالك أن يعبر إلى ساحة الأنس بالله سبحانه إلا بمعونة الله والإتكال على تسديده وحسن توفيقه.
- زاد المسافرين:
يتبيّن من كل ما مر أنّ السفر طويل، وهو بحاجة إلى الزاد، فسواء في مرحلة تعمير البدن، أو النفس، أو ترويضهما، أو الإنطلاق بهما في السفر، كل ذلك يحتاج إلى الزاد، فما هو هذا الزاد؟ وما الذي ينبغي على العبد أن يتزود به؟ وما الذي يعين العبد على التزود؟
- ما هو الزاد:
الزاد لغة: طعام المسافر
إصطلاحاً: هو ما يتزود به المسافر إلى الله للصبر على تكاليف الطريق، حتى يلقى الله تعالى وهو حافظ لإسلامه ودينه.
والزّاد للراحل إلى الله هو غذائه الروحي الذي يشتريه عند حضوره قلباً وجسداً في دور وبيوت العبادة.
فنحن نحتاج إلى الغذاء الروحي، والغذاء الروحي هو التقوى، ففي القرآن الكريم (... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197)، وقد قال الإمام الصادق (ع): "لما أشرف أمير المؤمنين على القبور قال: يا أهل التربة، يا أهل الغربة، أمّا الدور فقد سكنت وأمّا الأزواج فقد نكحت وأمّا الأموال فقد قسمت لهذا خبر ما عندما فما خبر ما عندكم؟ ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: لو أذن لهم بالكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى".
يتبع ....