اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم ياكريم
يقول تعالى في سورة المعارج في سياق الحديث عن أهوال يوم القيامة
{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ }
{ يبصرونهم }
وإكمالاً للحديث وتوضيحاً لذلك الموقف الموحش يضيف تعالى، فيبين أن من أهم ما يقع يومئذٍ رفع الحجب عن المجرمين حتى يروا الحقائق التي عميت عنها أبصارهم وقلوبهم في الدنيا كما أنهم يرون أقربائهم وأصدقائهم بل إنهم يعرفونهم "يبصرونهم" غاية الأمر أن هول الموقف ووحشته لا يمكّن الإنسان من التفكير بغيره، وقيل يرون الملائكة والروح الذين يعرجون إلى الله، وقيل أئمة الهدى والحق لكن القول الأول أنسب.
* لماذا بُنِيَّ الفعل(يبصرونهم) للمجهول؟
يبصرونهم: من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره، وبُنِيَّ الفعل للمجهول لأن المجرمين يحشرون عمياناً أعينهم وقلوبهم كما كانوا في الدنيا عمياناً لا يرون الحقائق وإنما يبصرهم الله أو ملائكته بأمره وهناك تبلغ ندامتهم ذروتها لما يرون من واقع العذاب الذي كذبوا واستهزؤوا به في الدنيا إلى درجة العتو والتحدي
عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى {يبصرونهم} يقول: (يعرفونهم ثم لا يتساءلون)، وجمع فقيل يبصرونهم لأن الحميم وإن كان مفرداً في اللفظ فالمراد به الكثرة والجمع.
* { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعاً * ثم ينجيه }
فمن شدة العذاب يتمنى المجرم أن يفتدي من العذاب بأحب أقربائه وأكرمهم عليه فاشتغال كل إنسان بنفسه بلغ بالمجرمين إلى هذا الحد.
ما معنى { يود }؟ ولماذا لم يقل يرجو؟
يود:أي يتمنى، والمودة مشتركة بين التمني و بين المحبة يقال: وددت الشيء أي تمنيته، و وددته أي أحببته،كما أن لو هنا : في منزلة التمني، والتمنيهو تمني الشيء مع الكسلوالرجاءيكون مع بذل الجهد وحسن التوكل وعلامة حسنالرجاء حسن الطاعة، وبما أنهم كافرون مجرمون لم يأمنوا بالله تعالى ولم يعملوا الأعمال الصالحة كان ذلك بمثابة الكسل فناسب ذلك { يود}
ويفتدي: من الفداء أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما
* لماذا قال(المجرم) ولم يقل الكافر أو العاصي؟
لأن المتلبس بالإجرام أعم من الكافر أو العاصي، والمجرم يشمل الكافر والعاصي وكل مذنب.
نعم إن عذاب الله شديد في ذلك اليوم المهول إلى حد يتمنى المجرم سلامته من العذاب النازل به بإسلام كل كريم عليه وهم أربع مجاميع:
الأولى: { بنيه} الأولاد: الذين هم أقرب الناس إلى الإنسان وأعزهم عليه
الثانية: { صاحبته} الزوجة: التي كانت سكناً له وربما آثرها على أبويه في الدنيا
الثالثة: { أخيه} الإخوان: الذين كانوا ناصرين له ومعينين
الرابعة: { فصيلته التي تؤويه} عشيرته وعائلته التي انفصل وتولد منها، الأقربون الناصرون له في الشدائد
فيضحي بهم لخلاص نفسه وليس فقط أولئك بل إنه مستعد للافتداء بمن في الأرض من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم بدلالة قوله { جميعاً } لينجي نفسه
* لماذا قال { صاحبته} ولم يقل زوجه؟
ربما لأن بعض الزوجات قد يكون بينها وبين زوجها شيء من المشاكل فربما يفهم البعض أن الزوج يفتدي بزوجته في الآخرة بسبب ما بينهما من مشاكل في الدنيا، لكن استخدام كلمة { صاحبته } ينفي هذا الاحتمال لأن الصاحبة تدل على المصاحبة فهي التي تصاحبه في حياته
* لماذا قال{ ثم } ولم يأتي بغيرها من أدوات العطف { فينجيه }؟
ثم حرف للعطف والترتيب لكن مع التراخي في الزمن بين المعطوف والمعطوف عليه فنجاة الإنسان تأتي بعد تقديم الفدية وهذا ما نراه في الحياة الدنيا فهناك فترة بينهما وأتى بها هنا لاستبعاد الإنجاء فالآية تعني أنه يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك فهي تدل على أنهم يعلمون أن هذا الافتداء لا ينفع شيئاً وأنه محال، أما الفاء فهي حرف للعطف والترتيب
والذي هو نوعان :نوع يفيد الترتيب في المعنى حيث يكون المعطوف لاحقاً ومتصلاً بلا مهلة كقوله تعالى { خلقك فسواك فعدلك }
فجميعها أتت متصلة لا فرق بينهما في الزمن، وآخر يفيد الترتيب مع التعقيب كالقول (خرج الطبيب فالمريض) فهي تفيد أن الطبيب خرج أولاً ثم خرج بعده الطبيب لكن الفترة بينهما ليست بعيدة، فلو قال (فينجيه) لظن البعض أن النجاة ممكنة بالفداء فبمجرد ما يقدم المجرم الفدية ينجو من العذاب
* ما دلالة اختلاف ترتيب الأقارب بين سورة عبس وآية سورة المعارج؟
آية سورة عبس في الفرار يوم القيامة والمشهد مشهد فرار وأن يخلو الواحد إلى نفسه وعادة الفرار يبدأ من الأبعد إلى الأقرب فيكون الأقرب آخر من يفر منه الإنسان { يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه * وصاحبته وبينيه } فأبعد المذكورين في الآية هو الأخ لأنه أحياناً لا يرى الإنسان أخاه أشهراً فبدأ بالفرار منه ثم قدم الأم على الأب في الفرار لأن الأم لا تستطيع أن تدفع عنه أو تنصره لكن الأب ينصره، أما في سورة المعارج فالمشهد مشهد فداء وذكر القرابات { يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه}
وأقرب القرابة الأبناء والإنسان بطبيعته إذا رأى مشهد العذاب-والعذاب هنا فوق ما يتصور-فهو يبدأ بأغلى وأعز ما يملك وهم أبناؤه ليفتدي بهم نفسه لو استطاع ثم الأدنى فالأدنى.
* لماذا لم يذكر الأم والأب في ذكر من يُفْتَدى به من العذاب؟
ربما لأن الله تعالى أمر بالإحسان إليهما ودلّ على عظيم مكانتهما فلا يمكن أن يُفْتَدى بما يُتقرّب إليه به، فهل وضعهما مكانه في جهنم هو الإحسان الذي أمرنا الله به؟
وعليه لا يصح أن يفتدي الإنسان بأبويه مهما كان حفاظاً على مكانتهما والبر بهما.
* هل الجميع يوم القيامة على هذه الحال، حتى المؤمنين؟
إن المؤمنون على العكس من ذلك يسألون عن بعضهم ويسعون في خلاص بعضهم البعض بالشفاعة والسؤال من الله وقلوبهم مطمئنة إلى رب الأرباب لأنهم لم يتورطوا في الجرائم حتى يهولهم الأمر...إلاّ خشية الإيمان، بلى إنهم آمنوا بوعد الله فسعوا لخلاص أنفسهم أما المجرمون الذين كفروا وتمادوا في الجريمة بسبب الكفر بالآخرة والجزاء فإنهم يجدون أنفسهم بين يديّ عذاب شديد.
إن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة حثت على العمل الصالح الذي ينفع الإنسان في الآخرة ويكون منقذاً له
نقل قيس بن عاصم أحد أصحاب رسول الله (ص) أنه ذهب يوماً بصحبة جماعة من بني تميم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال قيس مخاطباً رسول الله: يا رسول الله نحن قوم نعيش في الصحراء ولا نحظى بمجلسك إلاّ لماماً فعظنا فنصح لهم رسول الله وأوضح لهم ما ينفعهم في الحياة الدنيا للآخرة ومن جملة ما قال: (إن لك جليساً لا بد لك وهو لا يفارقك فهو يدفن معك والحال أنك ميت وهو حي فإذا كان جليسك شريفاً فأنت عزيز، وإن كان حقيراً فسوف يسلمك للحوادث)
فقال قيس إني لأحب أن تنظم نصائحك ووصاياك شعراً لنحفظها ولتكون لنا ذخراً وفخراً فأمر الرسول أن يأتوا بحسان بن ثابت ولكن قيساً أثر فيه حديث رسول الله (ص) تأثيراً هيج نفسه فنظم هذه الأبيات وقدمها لرسول الله قبل أن يأتي حسان:
تخيّر خليطاً من فعالك إنما قرين الفتى في القبر ما كان يفعل
ولا بدّ بعد الموت من أن تعده ليوم ينادي المرء فيه فيقبل
فإن كنت مشغولاً بشيء فلا تكن بغير الذي يرضي به الله تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته ومن قبله إلاّ الذي كان يفعل
ألا إنّما الإنسان ضيف أهله يقيم قليلاً فيهم ثم يرحل
فالدنيا تعد بالنسبة للآخرة مرحلة تهيؤ وتكميل و إعداد للإنسان، فهي في الحقيقة مدرسة ودار للتربية
فقد ورد أن رجلاً جاء للإمام علي (عليه السلام) وبدأ بذم الدّنيا على أنها تخدع الإنسان وتفسده وأنها مكَّارة وجانية، وكان هذا الرجل قد سمع أن العظماء يذمّون الدّنيا فتخيّل أنّ ذلك يعني ذم واقع هذا الكون، وأنه بذاته شر، ولم يعلم هذا الغافل أنّ الذّمّ ينصرف إلى عبادة الدّنيا والنظرة القصيرة والرغبات الهابطة التي لا تنسجم مع الإنسان وسعادته
فأجابه الإمام (عليه السلام): إنّما أنت الذي تنخدع بالدنيا والدنيا لا تخدعك وأنت تجني على الدنيا وهي لا تجني عليك
حتى قال: الدنيا صديقة لمن يسير معها بأسلوب الصداقة، ومتبع للعافية لمن يدرك حقيقتها، الدنيا معبد لأحباب الله ومصلّى ملائكة الله، ومحطّ وحي الله، ومتجر أولياء الله.
فالذي نظر إلى الحياة بالمنظار الماديّ الطبيعي وتصور أن الحياة هي الأكل والنوم والشراب وإرضاء الشهوة والغريزة، سقط في أحضانها وذمّ الدنيا لعدم فهمه وإدراكه لواقع الحياة الحقيقية، وفي المقابل الذي رأى الحياة دار عمل وعطاء وامتحان، داراً مؤقتة، دار فناء لا دار بقاء ونظر إلى الحياة على أنها قصيرة الأمد في حين نظر إلى الآخرة على أنّها دار خلود، دار بقاء وهي الحياة الحقيقية
كما يقول تعالى { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } أدرك أن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وأن ثمرة أعمالنا فيها ستجنى في الآخرة.
نسألكم الدعاء
منقول