
الوصية من الرسول لعلي بن أبي طالب عليه السلام تأتي في ثلاث مشاركات وهذه هي المشاركة الأولى في الليالي العلويه وتتحدث عن محور واحد وهو فطرية القول بضرورة الوصية . .
كيف يوصي القرآن والرسول صلى الله عليه واله بالوصية في الحدود الخاصة بقضايا الفرد، ويشتد التأكيد عليها حتى يقول صلى الله عليه واله: " من بات ولم يكتب وصيته فقد مات ميتة الجاهلية "، ثم يستسهلانها في الحدود العامة وما يخص قضايا الأمة ؟!!
وهذا ليس بسؤال بل هو شعور أصبح تتناثر المحاولات منذ القديم لأجل قطع هذا الشعور وحتى الإمامان البخاري ومسلم فقد قدما مادة من الأخبار يفترض أنها تقضي على هذا الشعور لكنها دعمته دعما قويا فخاب ما لعلهم كانوا يرجونه ؟!
وسنستمع إلى مجموعة من النصوص المعتمدة التي ربما سيقت لأجل أن تدعم نفي الوصية ولكنها وبحمد لله صارت دليلا قويا على فطرية الشعور بضرورتها وأن هذا الشعور ليس وليد الطقوس الشيعية والأخبار على الترتيب التالي:
أ ) حديث العباس وعلي عليه السلام:
" وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه واله سوف يتوفى من وجعه هذا إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، إذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه واله فلنسأله فيمن هذا الأمر إن كان فينا علمناه وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقال علي إنا والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها أناس من بعده وإني والله لا أسألها رسول الله ".
فهو جاء بهذا الحديث ليبين أنه مات ولم يسمع منه الوصية حتى أهل بيته وأن عليا نفسه لا يعلم بذلك بيد أننا نجد في الحديث جوانب أخرى تؤكد حقائقا غابت على الكثير:
1-عدم تقبل ذوق العباس لأن يموت الرسول صلى الله عليه واله دون توضيح للأمر وهذا يكفي لرد من يقول أن القول بضرورة الوصية من زعم الشيعة أوأنه شعور غريب على وجدان كل مسلم !
2-أن العباس هو العم لعلي وهو الأسن فلما لم يذهب بنفسه وما معنى أن يطلب من علي وهو الشاب اليافع أن يسأل الرسول وحينما توقف علي توقف العباس ؟
أليس ذلك دليل على أن العباس يرى عليا أفضل منه وأقرب من رسول الله صلى الله عليه واله وهذا يدخلنا بنا في أجواء أخرى مع من قدم العباس للاستسقاء بعد رسول الله لأنه عم الرسول ولقربه منه فهل خفي عليه قرب علي عليه السلام من رسول الله وهو الشيء الذي لم يخفى على العباس نفسه ؟!
3-أن هذا الحديث يكشف لنا عن شيء لا أظن أن الآخر يحب أن يظهر إلا أن يكون غير مبال وذاك هو إقرار علي أن هناك حساسية عند القوم من أهل البيت عليهم السلام قال: " لا يعطيناها أناس من بعده "، بل هو تقرير منه عليه السلام في أن القوم على استعداد تام لرد كلام رسول الله صلى الله عليه واله ..
4-قد ينتفض البعض ويرتعد لكلامنا هذا ويقول أنك تستنتج من الأحاديث وفق هواك . . ولكن سأطمئنه بما ذكره ابن حجر في فتح الباري من كلام معمر ــــ أحد أئمة الحديث الذين أعتمد عليهم البخاري كثيرا ــــ فقدنقل ابن حجر عن معمر في ذيل الحديث (4447 من البخاري) و (2/ 1927 من فتح الباري) قال:" وقال عبد الرزق كان معمر يقول لنا أيهما كان أصوب رأيا؟ فنقول العباس.
فيأبى ويقول: لو كان أعطاها عليا فمنعه الناس لكفروا ؟!".(1)
وفي رأي معمر الذي هو من التابعين إشارة إلى أنه في السابق لم تكن هنالك نظرة إلى الصحابة بعين العصمة التي تعصمهم عن الكفر فضلا عن الذنوب الأخرى وإنما هذه نظرة ولدت مع العصبيات التي جاءت متأخرة ؟!
هذا مع إغماض النظر عن موقفنا من مثل هذا الحديث وطبيعة نظرتنا إلى مصدره وإلا فإننا نتعامل مع مقطعه الآخر " فمنعناها "، أي رسول الله بوجهي حوار:
الحوار الأول:أن الرسول لا يمكن أن يمنعها عليا فالنصوص الكثيرة أشارت بأنه صلى الله عليه واله وسلم أتخذ عليا وصيا(2)، ووارثا، وخليفة(3)، ووزيرا، وأخا، ونفسا مكان نفس، وباب علم، وحبيبا، ومولى، وسفينة للنجاة، ونجما يهتدى به، ومدار حق، وفاروقا، وصديقا أكبر، وساقيا على الحوض (4)و...و...العديد العديد مما جاء في مصادر الفريقين وكل واحدة منها بطرق شتى لا يستطيع باحث أن ينكرها في المجموع إلا وظهرللجميع مكابرته ومعاندته وجرأته على الله ورسوله !!
بل إن منعها ممن هذه صفاته يعني عدم معرفة الراجح من المرجوح، وحاشا النبي صلى الله عليه واله ثم حاشاه ذلك ..
الحوار الآخر: أن الرسول صلى الله عليه واله قد يمنعها عليا مؤقتا لأجل علم يعلمه من الله بما تؤول إليه الأحداث وتكالب الناس عليه وهذا ما تفيده أخبار الوصية الخاصة التي أوصاها الرسول لعلي عليه السلام بأن لا يقاوم القوم فكأن عليا علم بها ولم يعلم بها العباس فقال ما قال للعباس لعلمه بذلك من طريق رسول الله صلى الله عليه واله ..واللافت أن هناك وصايا تقدم بها الرسول صلى الله عليه واله إلى أشخاص تحدث لهم فيها عن أيامهم المستقبلية وما سوف يجري عليهم من المحن وأوصاهم بأن يلزم الصمت أو الطاعة منها وصيته لأبي ذر في شخصه حيث قال له" كيف تصنع إذا أخرجت من المسجد النبوي؟
قال آتي الشام
قال كيف تصنع إذا أخرجت منها؟
قال أعود إليه.
قال كيف تصنع إذا أخرجت منه؟
قال أضرب بسيفي.
قال صلى الله عليه وسلم ألا أدلك على ماهو خير لك من ذلك وأقرب رشدا؟ تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك "(5).
أنظر هذه الوصية بالصبر على الظلم والضيم وهو أقل من علي عليه السلام طالبا ومطلبا فكيف نتعقل أن يترك عليا من دون وصية شخصية يبين له ما هو أقرب رشدا . .
وكيف كان أو يكون فهذه حفنة من الأسئلة الطبيعية التي تم واستمر تجاوزها من قبل الباحثين والدارسين لهذا الحديث وغيره وأهم سؤال فيها أن عدم الوصية ترك فراغا شعر به العباس بل سائر المسلمين كما سوف تطلع عما قليل وإن المشكلة حسب تصوري تكمن في تجاوز الأسئلة الطبيعية في مثل هذه القضية وهذه الأحاديث التي يفترض في ميزان الأخوة أنها في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل !!
ب) ما جاء عن الخليفة عمربن الخطاب: " إن أقواما يأمرونني أن استخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته فإن عجل بي أمر فالأمر شورى"(مسلم:1258).
وإن استفادة من خرج لهذا الحديث وهما مسلم والبخاري واضحة ولكن كيف باستفادتنا نحن؟
1- أن الاستخلاف والإيصاء أحس به أقوام إحساسهم بالضرورة فكلموه في ذلك !!
2- أن إحساسهم تأكد للخليفة عمر من خلال قوله " يأمرونني " ولم يقل يشيرون عليّ أو يحببون إليّ !!
3- أنه لم يوصي لأنه يرى في ذلك تأكيد للناس أن الرسول مات ولم يوصي لكنه أمن على الوضع بما يضمن الصلاح للجميع فقدم مقترح الشورى المقتصرة على أشخاص قليلة فقط ولم يقل لهم حسبكم كتاب الله كما صنع مع رسول الله صلى الله عليه واله حينما طلب أن يكتب الكتاب ؟!! كما في خبر البخاري:
" ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده قال عمر إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا... إلى أن قال ابن عباس: أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه"(البخاري:حديث114).
4- ثم أن الذين سألوا الخليفة الأول والخليفة الثاني أن يستخلفا واظهروا شفقتهم هم أنفسهم أو القريب منهم كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه واله لما لم تظهر هذه الشفقة على الأمة ولم يشعروا بالحاجة إلى الأمن والأمان آنذاك ؟!
وتبقى الاستفادة رقم(1) هي الأهم في بحثنا هنا ونرجوا من السادة المتابعين التنبه لها مع ملاحظة أنها عين الاستفادة من الحديث المتقدم ومن الحديث الآتي أيضا. .
ج ) عن إبراهيم عن الأسود قال " ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا قالت متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو حجري "(البخاري: حديث 2741).
إنما يهمنا من هذا الحديث أن الناس كانت قد علق بوجدانها ضرورة الوصية وشعروا بالفراغ من عدم ضوح أمرها لهم وهكذا نعرف أن من استطاع أن يطمسها أو يضيع الفرصة على رسول الله في كتابتها لم يستطع أن يملئ فراغ الإحساس بالحاجة لدى الناس الأوائل وليس الشيعة فقط ؟!!
بل إن عائشة نفسها كانت تشهد بأن وجدانها يوافق الناس وأنها كانت تدرك إحساس الناس هذا استمع إلى الحديث التالي:
" لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه ابدا ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءهم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر"(البخاري:4445).
هذا الحديث وإن كان طرفا من حديث صلاة الخليفة مكان رسول الله صلى الله عليه واله ولكن هو واضح فيما دار في خلد أم المؤمنين عائشة فإنها كانت ترى الناس متطلعة في أيام مرض رسول الله إلى من هو الوصي والخليفة وأن مجرد صلاة أبي بكر مكانه سيجعلهم يقطعون بكونه الخليفة مكان الرسول صلى الله عليه واله، وقريب من هذا الشرح ما ذكره العييني في عمدة القاري بشرح البخاري(8/ 300).
د) حديث طلحة قال: " سألت عبد الله بن أبي أوفى أوصى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا فقلت كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بها قال أوصى بكتاب الله "(البخاري:4460).
أنظر كيف أنكر عبد الله بن أبي أوفى الوصية مطلقا ثم أحرجه السائل العاقل فتدارك وقال" أوصى بكتاب الله "، ومن لا يقبل بفهمنا لموقف بن أبي أوفى فإننا نتنزل معه ونقول أن ابن أبي أوفى حينما أنكر الوصية كان قد فهم أن السائل يسأل عن الوصية لإنسان . . ولم استدل له بما في القرآن من وظيفة كل مسلم أجابه بأن هذا المقدار حصل من الرسول صلى الله عليه واله بالوصية بكتاب الله عز وجل . .
ونحن يكفينا ما فهمه بن أبي أوفى من السائل أولا لأن ذلك يدل على أن السؤال عن وصية الرسول لشخص كان رائجا علمنا ذلك من هذاالحديث ومن حديث القوم الذين أدعوا عند أم المؤمنين عائشة وصية الرسول لعلي عليه السلام !
تحقيق في موقف بن أبي أوفى:
1- أن الذي تكلم عن كتاب الله في وفاته هو الخليفة حيث قال " عندنا كتاب الله حسبنا " (تقدم تخريجه) وليس الرسول صلى الله عليه واله!!
2- أن الحديث المعروف عند المسلمين وبالطرق الثابتة أنه أوصى بالثقلين وليس بكتاب الله وحده ؟!
وعند غلق حلقة المطاف نقول:
ما دام هذا الشعور مسيطر على النفوس والعقول لما لم يكترث له رسول الله صلى الله عليه واله ألم يكن من اللازم أن يدفعه وأن ينزعه من الأذهان فينفي الوصي والخليفة والإمامة، ولا وراثة . .
أليس هذا أوجب من أن ينفي التوريث بالدرهم والدينار كما زعموا ويترك فكرة التوريث في الإمامة ؟!!
(2) سيأتي مفصلا في المحاضرتين التاليتين إن شاء الله تعالى.
(3) وهذا هو مدار البحث في المحاضرة الثانية بعد هذه إن شاء الله تعالى.
(4) جاء ذلك في مصادر كثيرة:الرياض النضرة2/ 203.مجمع الزوائد:9/ 130. الحاكم النيسابوري في المستدرك:3 / 138 وقال هذا حديث صحيح الإسناد.المعجم الصغير للطبراني:2/ 89 وغيرهم.
(5) فتح الباري عن أحمد وأبي يعلى :4/ 495، وهي رواية حار فيها القوم حيرة كبيرة لما يلزم منها من تمييز أبي ذر بالحق وخصومه بالباطل !!
................