اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مقاما الخلوص والإخلاص
عالم الخلوص والإخلاص
وليعلم أنَّ الوصول إلی هذه المقامات والدرجات لا يمكن أن يتحقّق دون الإخلاص في سبيل الحقّ، ومادام السالك لم يصل إلی منزلة المخلَصين، فلن يتمّ له كشف الحقيقة كما ينبغي.
واعلم أنَّ الإخلاص والخلوص علی قسمين : الاوّل: خلوص الدين والطاعة للّه تعالى
الثاني : خلوص النفس له تعالى
يدلّ علی الاوّل الآية الكريمة : { وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
وعلی الثانية الآية الشريفة : { إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ }
والحديث النبويّ المشهور : " مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ إلَى لِسَانِهِ "
أي أنَّ الذي يصل إلی هذه المرحلة هو ذاك الذي أخلص نفسه للّه تعالي.
وتوضيح هذا الإجمال أنَّ الله تعالى كما أسند الصلاح في القرآن الكريم وفي بعض المواضع إلی العمل، كقوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا } أو {عَمِلَ عَمَلاً صَـالِحًا } أو { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ }
وفي بعض المواضع أسند ذلك أيضاً إلی ذات الإنسان، كقوله تعالى :{ إِنَّهُ و مِنَ الصَّـالِحِينَ } أو { صَـالِحُ الْمُؤْمِنِينَ }
كذلك اعتبر أنَّ الإخلاص والخلوص يستند إلی العمل أحياناً وقد نسبه إلیه، وأحياناً يستند إلی الذات
وبديهيّ أنَّ تَحَقُّقَ الإخلاص في مرتبة الذات متوقّف علی الإخلاص في مرتبة العمل أي أنَّ الذي لم يُخلِص في أعماله وأفعاله وأقواله وفي سكناته لن يصل إلی مرحلة الإخلاص الذاتي؛ قال عزّ من قائل :{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ }
بإرجاعه الضمير المستتر الفاعل في «يرفع» إلی «العمل الصالح» إذ يصبح المعني «العَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ». واعلم أنَّ الذي يصل إلی مرحلة الخلوص الذاتيّ وينال هذا الفيض العظيم، سوف تكون له آثار وخصائص ليست من نصيب الآخرين، منها :
آثار وخصوصيّات مقام الإخلاص
الاوّل : ما نصّت علیه بعض الآيات من عدم تسلّط الشيطان علیه
كقوله تعالى :{ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }
وممّا لا ريب فيه أنَّ هذا الاستثناء للمخلصين ليس تشريعيّاً، وإنَّما هو أثر طبيعيّ لاقتدارهم الذاتيّ في مقام التوحيد؛ حيث لا يعود للشيطان قدرة علی إغوائهم، وبسبب ضعفه وعجزه لا يستطيع أن يصل إلیهم في هذه المرحلة؛ ولانـّهم أخلصوا أنفسهم للّه يرون الله في كلّ ما تقع علیه أبصارهم، وإذا بدا لهم الشيطان بأيّ شكل أو هيئة، تراهم ينظرون إلی هذه الهيئة بالنظر الإلهي ليغترفوا منها فيضاً إلهيّاً، لهذا اعترف الشيطان منذ البداية بالعجز عن التأثير في هذه الطائفة، ولم يكن ذلك منه مُحاباةً لهم أوترحّماً علیهم، إذ لا غاية له سوي الغواية والإضلال.
الثاني : أنَّ هذه الطائفة معفوّة من حساب يوم الحشر الآفاقيّ والوقوف في عرصاته، وقد جاء في القرآن الكريم :{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَـاواتِ وَمَن فِي الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَهُ }
فيعلم من هذه الآية الكريمة ـ بشكل قطعيّ ـ وجود جماعة تأمن صعقة يوم القيامة وفزعه، وإذا ضممنا إلیها الآية الشريفة :
{ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ } يتّضح أنَّ الطائفة التي هي في أمان من صعقة يوم القيامة هي «عباد الله المخلصين»؛ لانـّه ليس لهؤلاء أعمال توجب حضورهم في عرصة يوم القيامة، فهم قد قتلوا في ساحات جهاد النفس وترويضها بالمراقبة والعبادات الشرعيّة، وتعلّقوا بالحياة الابديّة بعد ما اجتازوا القيامة الانفسيّة العظمي، وقد تمّ حسابهم خلال فترة المجاهدة، فجلّلوا بعد نيلهم شرف القتل في سبيل الله بخلعة الحياة الابديّة، لينعموا بفيض الخزائن الربوبيّة؛
قال عزّ من قائلٍ : { ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }
يضاف إلی ما تقدّم أنَّ الإحضار ينشأ من عدم الحضور، فهم قبل ظهور القيامة كانوا حاضرين في كلّ مكان، ومطّلعين علی كلّ الاحوال؛ لقوله تعالي : { عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }
الثالث : أنَّ كلّ ما يعطي للإنسان من ثواب وأجر يوم القيامة سوف يكون مقابل ما عمله إلاّ هذه الطائفة من الناس تتعدّي الكرامة الإلهيّة لهم حدود أجر العمل المعهود :{ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ }
ولوقيل : إنَّ مفاد هذه الآية هو أنَّ المعذّبين يجزون بحسب أعمالهم، أمّا عباد الله المخلَصين فلن يكون جزاؤهم بحسب أعمالهم، بل الله المنّان سوف يعطيهم بفضله وكرمه. نقول : إنَّ في الآية إطلاق، فلا يختصّ الخطاب فيها بفئة المعذّبين، يضاف إلی ذلك أنَّ مجازاة العباد بالفضل والكرم الإلهيّ لا يتنافي مع الجزاء الذي يقابل العمل، وإن كان معنى الفضل هو أنَّ الله المنّان يعطي الاجر العظيم في قبال العمل الصغير، فيعدُّ تعالى العمل الصغير كبيراً، ولكن مع هذا كلّه يبقي الجزاء واقعاً في قبال العمل، في حين أنَّ الآية الكريمة تصرّح بأنَّ جزاء المخلَصين غير هذا؛ ومفادها : أنَّ عباد الله المخلَصين لا ينالون الجزاء مقابل العمل أبداً، وجاء في آية أُخرى :
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
فكلّ ما تتعلّق به مشيئتهم يتاح لهم وزيادة علیه، يتّضح من هذا أنـّهم يُعطون من الكرامات الإلهيّة فوق ما تتعلّق به الإرادة والمشيئة، وأعلی من مستوى التصوّر، وأعلی مستوى من فضاء تحليق طائر اختيارهم وإرادتهم. ولهذه المسألة دقائق جديرة بالانتباه.
الرابع : أنَّ لهؤلاء المقام المنيع والمنصب الرفيع والمرتبة العظيمة التي يستطيعون فيها أداء الحمد والشكر والثناء للذات الاحديّة كما هو لائق بالذات المقدّسة
قال عزّ من قائل :{ سُبْحَـانَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ }
وهذه غاية كمال المخلوق، ومنتهي الدرجة الممكنة.
رسالة لب الألباب لسماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني (قدس سره)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين