السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
{يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ}. (الآية: 6، من السورة 84 : الانشقاق)
قال أستاذنا الأعظم آية الحقّ و العرفان العلاّمة الطباطبائيّ أعلى الله مقامه في تفسير هذه الآية الكريمة:
« قال الراغب: الكَدْحُ السعي و العناء ـ انتهى. ففيه معنى السير، و قيل : الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثّر فيها انتهى ـ و على هذا فهو مُضَمّن معنى السير، بدليل تعدِّيه بإلی، ففي الكدح معنى السير علی أيّ حال .
و قوله : فَمُلاَقِيهِ عطف علی كَادِحٌ، و قد بيّن به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبيّة، أي أن الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مُدَبَّر، ساعٍ إلی الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المُدَبِّر لأمره، فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملاً، فعليه أن لا يريد و لا يعمل إلاّ ما أراده ربّه و مولاه و أمره به، فهو مسؤول عن إرادته و عمله .
و من هنا يظهر أوّلاً أن قوله : {إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ} يتضمّن حجّة علی المعاد، لما عرفت أن الربوبيّة لا تتمّ إلاّ مع عبوديّة، و لا تتمّ العبوديّة إلاّ مع مسؤوليّة، و لا تتمّ مسؤوليّة إلاّ برجوع و حساب علی الأعمال، و لا يتمّ حساب إلاّ بجزاء .
و ثانياً : أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلی حيث لا حكم إلاّ حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب .
و ثالثاً : أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان، فالمراد به الجنس، و ذلك أن الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان»
وقد أثبت أعاظم حكماء الإسلام أن بين ربّ العزّة و بين مخلوقاته نوعاً من الجذب و الانجذاب يُعَبَّر عنه بالعشق .
وحبّ الله لمخلوقاته هو الذي أوجدها، و ألبس كلّ واحد منها (كلٌّ حسب إمكانيّته و استعداده و ماهيّته المتفاوتة) لباس الوجود و البقاء، و وصف كلاّ منها بصفاته حسب بما يناسبها. إنّ هذا الحبّ هو الذي أعطى العالَم كيانه و بقاءه و ديمومته، بدءاً بالأفلاك و مروراً بالأرض و الذرّة إلی الدُّرّة، و جَعْلها كلّها موجودات تتحرّك نحوه و تشقُّ طريقها إليه.
إنّ حياة وعيش وحركة كلّ ما سوى الله هي بواسطة ذلك الحبّ و العشق الذي أوجده الله عزّ و جلّ في فطرتهم. و على هذا فإنّ كلّ موجود من الموجودات الإمكانيّة يجد طريقه إلی الاستمرار في حياته و بقائه علی أساس و أصل ذلك الحبّ للمحبوب، و هكذا يستمدّ قانون التجاذب (الجذب و الانجذاب) استمراريّته بين جميع المخلوقات السفليّة (الدنيا) و العوالم العُلويّة .
إنّ هذا التجاذب المستقرّ في كلّ موجود بشكل خاصّ هو السبب في تكوين و إنشاء تلك الحركة المُتَّجِهة نحو المبدأ الأعلى عبر مدارج و معارج متباينة، بحيث صار الكلّ عاشقاً له من وراء حجاب أو بغير حجاب وصار هذا الكلّ في حركة دائبة إليه. و كلّ ما في الأمر أن الموجودات الضعيفة و الماهيّات السفليّة تتعرّض خلال سيرها لتأثير شديد من قِبَل قوى أشدّ منها نظراً لصفة المحدوديّة الموجودة في وجودها، و هو ما يتسبّب في فَنائها هناك . وكلّ موجود عالٍ هو غاية سير الموجود و المعلول الأدنى منه الأقرب فالأقرب، حتى يصل إلی ذات الحقّ و المُصَدِّر المطلق، و الذي هو الموجود الأوّل العظيم اللامتناهي في العوالم، حيث يفنى فيه و تتحقّق عند ذاك عمليّة التحابب والتعاشق بين الحقّ سبحانه و تعالى و بين ذلك الموجود .
و قد عُبِّرَ في هذه الآية الشريفة الكريمة عن تحرُّك الإنسان نحو هذا المحبوب ذي الجمال و المعشوق صاحب الجلال، و الذي هو الهدف النهائيّ و المقصد الرئيسيّ، بالكدح .
و معنى ذلك أنّه يتوجّب علی الإنسان ـ و هو أشرف المخلوقات استعداداً ـ أن يُوصِلَ ذاته و نفسه إلی الفَناء التامّ بالفعل .
قوّة العشق الحقيقيّ هي وحدها التي تفتح سبيل الوصول إلى الله
إنّ الطريق الأقوم و السبيل الأرشد هو طريق الأنبياء و المنتجبين من بين أهل العالم. و هو طريق جدّ خطير و دقيق، إنّه العشق للّه الحيّ ذي الجلال و الواحد القهّار. و ما أخطره و ما أعظمه، و وفي الوقت نفسه ما أكثر ما يحمل من معاني الشوق و الحبّ والوله، حتّى غدا خلاصة أعمال الكائنات و رجح علی عبادة الثقلينِ.
إنّها قوّة الحبّ هي التي تزيل الموانع و تدكّ الحصون و تعين علی اجتياز العقبات و السير في غمرة الظُّلمة، و تعبر بالمرء بحار الحسرة و صحاري الحيرة، و عوالم التيه و الضلال، و لولاه ما استطاعت جميع قوى ما سوى الله أن تخطو بالإنسان شبراً إلی الأمام. إنّ حبّ الله هو حلاّل المشاكل و مفتاح سرّ النجاح.
اي رُخت چون خلد و لعلت سلسبيل
سلسبيلت كرده جان و دل سبيل
سبز پوشان خطت بر گرد لب
همچو مورانند گرد سلسبيل
ناوك چشم تو در هر گوشهأي
همچو من افتاده دارد صد قتيل
يا رب اين آتش كه بر جان من است
سرد كن زانسان كه كردي بر خليل
من نمى يابم مجال اي دوستان
گرچه دارد او جمالي بس جميل
پاى ما لنگ است و منزل بس دراز
دست ما كوتاه و خرما بر نخيل
شاه عالم را بقا و عزّ و ناز
باد و هر چيزى كه باشد زين قبيل
حافظ از سرپنجة عشق نگار
همچو مور افتاده شد در پاى پيل
يقول:
« يا مَن وجهه كجَنّة الخُلد و شفتاه (تنبعان) ماءً سلسبيلاً، لقد أباحَ لك سلسبيلك العَذب أرواح العاشقين و قلوبهم ..
إنّ الشَّعْرَ الأخضر اللون الذي يعلو شفتك العُليا كأنّه نَملٌ مُصطَفٌّ أمام عين السلسبيل (الذي هو فَمُك) ..
إنّ سهام عينيك قد أطاحت بالمئات من القتلى من أمثالي في كلّ زاوية و ركن..
إلهي! أطفِئ النار المستعرة في داخلي و اجعلها برداً و سلاماً كما جعلتها كذلك علی (إبراهيم) خليلك..
إنّه لا سبيل و لا إذن لي (للوصول إلی جمال حبيبي و حسنه)، بالرغم من أنّ جماله و حُسنه لا يضاهيهما شيء ..
إنّ رِجلايَ عَرجاوان و المقام جَدّ بعيد، و يَدايَ قصيرتان في حين أنّ البَلَحَ عالٍ (لا يمكن الوصول إليه) ..
فليَعِشْ سلطان العالَم و ليَدُمْ بقاؤه و عزّه و دلاله، و كلّ ما يَمتُّ له بصلة أو يختصّ به..
لقد صار حافظ كنملة موطوءة بأقدام الفيل، و ذلك لجبروت العشق و قدرته عليه و هيمنته على قواه»
عشق قدوة العاشقين: سيّد الشهداء عليه السلام
روى العلاّمة المجلسيّ رحمه الله عن كتاب >الخرائج و الجرائح» للقطب الراونديّ رحمه الله عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام عن أبيه عليه السلام أنّه قال:
مَرَّ عَلِيّ عليه السلام بِكَرْبَلاَءَ فَقَالَ: لَمَّا مَرَّ بِهِ أصْحَابُهُ وَ قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ يَبْكِي وَ يَقُولُ: هَذَا مُنَاخُ رِكَابِهِمْ، وَ هَذَا ملْقَى رِحَالِهِمْ، هَا هُنَا مُرَاقُ دِمَائِهِمْ؛ طُوبَي لَكِ مِنْ تُرْبَةٍ عَلَيْهَا تُرَاقُ دِمَاءُ الأحِبَّةِ !
وَ قَالَ البَاقِرُ عليه السلام: خَرَجَ عَلِيّ يَسِيرُ بِالنَّاسِ، حتّى إذَا كَانَ بِكَرْبَلاَءَ عَلَی مِيلَيْنِ أوْ مِيلٍ، تَقَدَّمَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حتّى طَافَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: المِقْدَفَانِ. فَقَالَ: قُتِلَ فِيهَا مِائَتَا نَبِيّ وَ مِائَتَا سِبْطٍ كُلُّهُمْ شُهَدَاءُ.
وَ مَنَاخُ رِكَابٍ وَ مَصَارِعُ عُشَّاقٍ شُهَدَاءَ. لاَ يَسْبِقُهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ؛ وَ لاَ يَلْحَقُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ.
رواية ابن عبّاس عن أمير المؤمنين في كربلاء عند الحركة باتّجاه صفّين
روى العالم الكبير و المحقّق العظيم المرحوم الحاجّ الشيخ جعفر الشوشتريّ عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنّه قال:
كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام عند ما خرج إلی صفّين، فلمّا وصل إلی نينوى علی شطّ الفرات، ناداني بأعلى صوته و قال: يَا بْنَ عَبَّاسٍ! أتَعْرِفُ هَذَا المَوْضِعَ ؟!
أجبته: كلا يا أمير المؤمنين، لا أعرفه.
قال عليه السلام : لَوْ عَرَفْتَهُ كَمَعْرِفَتِي، لَمْ تَكُنْ تَجُوزُهُ حتّى تَبْكِيَ كَبُكَائِي !
يقول ابن عبّاس: فبكى عليه السلام حتّى اخضلَّتْ لحيته الشريفة و جرت دموعه علی صدره. و بكينا نحن أيضاً معه، و كان يقول:
أوَّهْ ! أوَّهْ ! مَا لِي وَ لآلِ أبِي سُفْيَانَ ؟! مَا لِي وَ لآلِ حَرْبٍ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَ أوْلِيَاءِ الكُفْرِ ؟! يَا أبَا عبد الله ! فَقَدْ لَقِيَ أبُوكَ مِثْلَ الَّذِي تَلْقَى مِنْهُمْ !
ثمّ طلب ماءً ليتوضّأ، و صلّى قدراً، و لمّا فرغ من صلاته، أخذته غفوة لساعة فلمّا أفاق نادى: يا بن عبّاس! فأجبته: لبيك.
قال عليه السلام: ألاَ اُحَدِّثُكَ بِمَا رَأيْتُ فِي مَنَامِي آنِفاً عِنْدَ رَقْدَتِي ؟! فقلت: قد رقدت عيناك، أبشر يا أمير المؤمنين، إنّها رؤيا خير!
فقال عليه السلام: كَأنِّي بِرِجَالٍ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ ؛ وَ مَعَهُمْ أعْلاَمٌ بِيضٌ، وَ قَدْ تَقَلَّدُوا سُيُوفَهُمْ وَ هِيَ بِيضٌ تَلْمَعُ، وَ قَدْ خَطُّوا حَوْلَ هَذِهِ الأرْضِ خَطَّةً.
ثُمَّ رَأيْتُ كَأنَّ هَذَا النَّخِيلَ قَدْ ضَرَبَتْ بِأغْصَانِهَا الأرْضَ، تَضْطَرِبُ بِدَمٍ عَبِيطٍ. وَ كَأنِّي بِالحُسَيْنِ سَخْلَتِي وَ فَرْخِي وَ مُضْغَتِي وَ مُخِّي، قَدْ غَرَقَ فِيهِ يَسْتَغِيثُ فِيهِ فَلاَ يُغَاثُ.
وَ كَأنَّ الرِّجَالَ البِيضَ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ يُنَادُونَهُ وَ يَقُولُونَ: صَبْراً آلَ الرَّسُولِ! فَإنَّكُمْ تُقْتَلُونَ عَلَى أيْدِي شِرَارِ النَّاسِ وَ هَذِهِ الجَنَّةُ يَا أبَا عبد الله إلَيْك مُشْتَاقَةٌ. ثُمَّ يَعُزُّونَنِي وَ يَقُولُونَ: يَا أبَا الحَسَنِ! أبْشِرْ فَقَدْ أقَرَّ اللهُ بِهِ عَيْنَكَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ!
ثُمَّ انْتَبَهْتُ هَكَذَا ! وَ الَّذِي نَفْسُ عَلِيّ بِيَدِهِ، لَقَدْ حَدَّثَنِي الصَّادِقُ المُصَدَّقُ: أبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فِي خُرُوجِي إلَی أهْلِ البَغْيِ عَلَيْنَا !
وَ هَذِهِ أرْضُ كَرْبٍ وَ بَلاَ، يُدْفَنُ فِيهَا الحُسَيْنُ عليه السلام وَ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ وُلْدِي وَ وُلْدِ فَاطِمَةَ. وَ إنَّهَا لَفِي السَّمَاوَاتِ مَعْرُوفَةٌ تُذْكَرُ أرْضُ كَرْبٍ وَ بَلاَ كَمَا تُذْكَرُ بُقْعَةُ الحَرَمَيْنِ وَ بُقْعَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ إلی آخره.
وأيضاً يروي آية الله الشوشتريّ أعلى الله مقامه أنّه لمّا سار الحسين عليه السلام إلى [من] المدينة أتته أفواج مسلمي الجنّ، و كان الحسين عليه السلام هو الراثي والمستمع الجنّ.
و تفصيل الرواية أنّه لمّا أتته أفواج مسلمي الجنّ قالوا: يَا سَيّدَنَا ! نَحْنُ شِيعَتُكَ وَ أنْصَارُكَ، فَمُرْنَا بِأمْرِكَ وَ مَا تَشَاءُ ! وَ لَوْ أمَرْتَنَا بِقَتْلِ كُلِّ عَدُوٍّ لَكَ وَ أنْتَ بِمَكَانِكَ، لَكَفَيْنَاكَ ذَلِكَ !
فَجَزَاهُمُ الحُسَيْنُ عليه السلام خَيْراً وَ قَالَ لَهُمْ: أوَ مَا قَرَأتُمْ كِتَابَ اللهِ المُنْزَلَ عَلَی جَدِّي رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: {أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيّدَةٍ} ؟
و يقول الله سبحانه: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ إلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
وَ إذَا أقَمْتُ بِمَكَانِي فَبِمَاذَا يُبْتَلَى هَذَا الخَلْقُ المَتْعُوسُ وَ بِمَاذَا يُخْتَبَرُونَ ؟! وَ مَنْ ذَا يَكُونُ سَاكِنَ حُفْرَتِي بِكَرْبَلاَ ؟ وَ قَدِ اخْتَارَهَا اللهُ يَوْمَ دَحَى الأرْضَ وَ جَعَلَهُ مَعْقِلاً لِشِيعَتِنَا، وَ يَكُونُ لَهُمْ أمَاناً فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ !
وَ لَكِنْ تَحْضُرُونَ يَوْمَ السَّبْتِ وَ هُوَ يَوْمُ عَاشُورَا الَّذِي فِي آخِرِهِ اُقْتَلُ، وَ لاَ يَبْقَى بَعْدِي مَطْلُوبٌ مِنْ أهْلِي ! وَتُسْبَى أخَوَاتِي وَأهْلُ بَيْتِي، وَيُسَارُ بِرَأسِي إلَی يَزِيدَ لَعَنَهُ اللهُ !
فقالت جماعة الجنّ: يا حبيب الله و ابن حبيب الله، لو لم تكن طاعتك مفروضة و لم تجز مخالفتك، لجعلنا أعداءك هباءً منثوراً قبل أن تصل أيديهم إليك.
فقال الإمام الحسين صلوات الله عليه لهم:
نحن وَ اللهِ أقْدَرُ عَلَيْهِمْ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَ يَحْيَى مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ}.