اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
عشق الكمال
عشق الكمال و الوصول إليه موضوع من المواضيع التي يطرحها ويهتم بها علم العرفان الإسلامي النظري و العملي(السير و السلوك) وهو أمرٌ فطري من الله سبحانه وتعالى ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)الروم30
فكل واحدٍ منا يعيش حالة عرفانية فطرية و إن لم يدرس علم العرفان و لم يسمع به وذلك عبرعشق الكمال والوصول إليه.
وعليه يكون عشق الكمال و الوصول إليه مطلباً فطرياً في الإنسان, فكل إنسان وبحسب اتجاهه وتخصصه وعمله ودراسته وهدفه في الحياة لا يريد إلا الكمال فيما ينشده ويصبو إليه, ولهذا جميعنا نحاول ونسعى بأن نصل إلى مستوى (الإنسان الكامل) في كل شيء, وهو أمرٌ فطري فينا نحس ونشعر به وإن لم نتلفظ به أو نسمع به.
(ومصطلح "الإنسان الكامل" لم يكن له وجود في الآداب الإسلامية حتى القرن السابع الهجري ولكنه اليوم مستعمل حتى في أوروبا. وأول من استعمل هذا التعبير في عالم الإسلام هو العارف المعروف "محي الدين بن العربي الأندلسي الطائي".
ومحي الدين هذا هو أبو العرفان والتصوف الإسلامي, أي أنَّ جميع هؤلاء المتصوفة والعرفانيين الذين نعرفهم في جميع الملل الإسلامية, بما فيهم الإيرانيين الذين ظهر منهم ذوو الشأن في القرن السابع فما فوق وفي أوائل القرن السابع, هم جميعاً من تلامذة مدرسة محي الدين. مولوي نفسه أحد تلامذة مدرسة محي الدين في مسائل العرفان والتصوف. ومحي الدين بن العربي يتصل نسبه إلى حاتم الطائي, ظهر في الأندلس, ولكنه رحل إلى كثيرٍ من الأقطار العربية والإسلامية,و توفي في الشام,وقبره ما يزال هناك.
أحد تلامذته يدعى صدر الدين غونوي, برز بعد أستاذه وكان من أشهر رجال العرفان, أما التصوف الإسلامي الذي بدأ كعلم غامض جداً, فهو من عمل محي الدين, وعليه شروح صدر الدين غونوي. وكان مولوي مُعاصراً لصدر الدين الذي كان إمام جماعة في أحد المساجد, فكان مولوي يقتدي به في الصلاة, فانتقلت أفكار محي الدين إلى مولوي عن طريق صدر الدين. أما ما تسمعونه بخلاف هذا حول هذا الموضوع فلا صحة له. إن للتصوف الإسلامي جذوراً غير هذه الترهات التي أخذ ينشرها بعضهم هذه الأيام في الصحف والمجلات.
من المسائل التي طرحها هذا الرجل هي مسألة الإنسان الكامل, ولكنه, بالطبع طرحها من حيث المنظور العرفاني.
إلا أنه استعمل لفظة الإنسان الكامل وشرحها من وجهة النظر العرفانية الخاصة,غير أن الآخرين أيضاً فسروا الإنسان الكامل بحسب وجهات نظرهم)[1] .
وعليه يظل الإنسان يعشق الكمال ويطلبه, لأنه عشق فطري, فطره فيه ذلك الكمال المطلق "الله سبحانه" الذي لا يصدر عنه إلا الكمال.
( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الروم/30.
إذاً فكل واحد منا يتوق إلى أن يبلغ الكمال في العلم والجسم و في الصفات الجميلة وفي الحصول على الاحتياجات الدنيوية وفي كل شيء صغر أو كبر, لأن مطلب الكمال مطلب فطري في الإنسان ولا أحد يحب النقص ولا الكمال الناقص, لأن الكمال الناقص محكوم بالعدم والفطرة تنفر من العدم, وحتى الذين يتصفون بالصفات الذميمة وأصبحت هذه الصفات راسخة في نفوسهم واصلين بقناعة بأنها الكمال بالنسبة لهم إنما هم في خطأ والذي أوقعهم في هذا الخطأ الحجب النورانية والظلمانية ومتى ما حاول الإنسان جاهداً في رفع هذه الحجب عن طريق تهذيب النفس (الأخلاق العملية) هُدي السبيل الصحيح (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69.
ولا يكفي أن يستمع أو يقرأ المرء المفاهيم الأخلاقية ويستحسنها فيظن أنه قد حصل عليها، إنما ملاك الحصول على الأخلاق الفاضلة بدوام الممارسة لها حتى تصبح بمرور الزمن ملكة راسخة وصفة ثابتة في النفس, يزدان بها الإنسان, فمتى ما بدأ الإنسان المسير بعزم وإرادة وإخلاص وحدد الغاية النبيلة (الكمال المطلق) وهو الله سبحانه وتعالى و الذي يريد الوصول إليه يصل بعون منه وتوفيقه, حيث لكل سير وصول (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ) الانشقاق:6, (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى)النجم/42
الفطرة السليمة منبع الكمال
لقد فطر الله الناس على حب الكمال وتوق الوصول إليه وكره النقص و النفور منه، هذا متى ما كانت الفطرة سليمة و صافية من القاذورات و الأدران و الحجب التي يصنعها الإنسان لفطرته (وحجاب الفطرة أو احتجابها يبدأ من خلال عدم الاستجابة الصحيحة أو اللازمة لنداءاتها، إن الفطرة تقول لك هذا العمل خبيث وهذا الشيء قبيح، فإذا فعلته أو تناولته ستخدش فطرتك و تكدرها، وإذا تماديت في مثل هذه الأعمال وابتعدت شيئاً فشيئاً عن الأمور الكمالية و الجمالية سيصل بك الأمر إلى مرحلة تفقد فيها صفاء فطرتك، وربما إلى الأبد)[2] وهذا هو سر توجه بعض الناس إلى النقص و القبائح و تركهم للكمالات المعنوية الجمالية، فعندما يحجب الإنسان فطرته السليمة و يكدر صفاءها و نقاءها لن تتمكن من إرسال الإشارات الإرشادية في أعماق نفسه نحو الوعي بوجود الكمالات المعنوية و التوجه إليها على عكس إذا ما كانت الفطرة سليمة و صافية (فالفطرة الصافية المودعة في أعماق كل إنسان عبارة عن ذلك التوجه الدائم والانجذاب المستمر نحو الكمال المطلق اللامتناهي، ودورها إرسال الإشارات بشكلٍ مستمر إلى وعي الإنسان بوجود الكمال هنا و هناك، كما إنها لا تتوقف عن طلب المطلق من كل كمال و جمال، وإن أي عشق أو توجه إلى أي كمال في هذا العالم منشأه هو هذه الفطرة)[3] .
الكمال المطلق و مطلق الكمال
إن أي إنسان يتوجه نحو السير و السلوك (العرفان العملي) تراه دائماً يكون في حالة تعالٍ و ترقٍ مستمر في مدارج الكمال ، وتشكل هذه الحالة أساساً رئيسياً للوصول إلى الكمال المطلق، فكلما وصل إلى مرحلة أو إلى مقامٍ من المقامات الكمالية المعنوية تاق إلى المرتبة التي تعلوها وهكذا، حتى يصل إلى الكمال المطلق و مطلق الكمال،وهذا هو مطلب ومنى العاشقين.
ويتجلى دور الفطرة الطاهرة في هذا المعنى السامي في عدم الوقوف إلى حدٍ تكامليٍّ معينٍ لأن الوقوف هلاك و التراجع هلاك كما يعبر العرفاء، وذلك في خصوص قضية السير و السلوك نحو الكمال المطلق و مطلق الكمال، و لا تزال هذه الفطرة تلح و تصر على أن ما بلغته من كمال ليس كافياً وليس هو المطلوب، و إنما المطلوب هو الوصول إلى الكمال المطلق في مطلق الكمالات الجلاليَّة والجمالية المعنوية.
وهذا هو السر الفطري الخفي في سعي الإنسان بما هو إنسان- الذي يسعى في تحقيق إنسانيته- نحو الكمال المطلق و مطلق الكمال.
العشق الحقيقي
كل إنسان بمختلف اهتماماته مهما يصل إلى مراده وأمنياته التي يعشقها تراه بعد فترة وجيزة يحس بملل وبرود اتجاه ذلك الشيء الذي كان يعشقه بحرارة ويتمنى الوصول إليه, وما هذا إلا دليل ناصع على أن العشق الحقيقي ليس في المقامات المعنوية والملذات المادية الدنيوية, وإنما العشق الحقيقي هو عشق الكمال المطلق (الله سبحانه وتعالى) وفي هذا الصدد يقول الشهيد السعيد مفكر الثورة الإسلامية الخمينية الشيخ مرتضى المطهري رضوان الله عليه: (الإنسان, مهما ينال من مقام, ومهما يصل إليه من كمال, ومهما يبلغ من مكانة, فهو ما يزال يحس بأنه لم يصل إلى معشوقه,يقولون بأن الإنسان يبحث دائماً عن شيء لا يملكه, وأنه مادام يفتقد ذلك الشيء فإنه يطلبه, وعندما يناله يصاب بالملل والعزوف عن ذلك الشيء, فلماذا؟ إنه من غير المنطقي أن يكون كائناً ذا ميل طبيعي للتلذذ بشيء, ولكنه يعزف عنه, بعد أن يصل إليه ويناله, فيبعده عنه.
حكي أحدهم فقال : كنت أزور أحد المتاحف خارج البلاد, ورأيت من بين المعروضات تمثالاً لامرأة جميلة جداً وهي مضجعة على سرير, وكان هناك تمثال آخر لشاب جميل على ذلك السرير, وقد أدار وجهه عن تمثال المرأة, وإحدى قدميه على السرير والأخرى على الأرض بهيئة من يريد الفرار من ذلك المكان. يقول الراوي: عندما رأيت هذا لم أدرك قصد النحات من ذلك, فسألت ممن له خبرة بذلك في المتحف, فقال : هذا تجسيد لفكرة أفلاطون القائلة بأن الإنسان عندما يمتلك شيئاً يتلهف عليه أول الأمر ويرى فيه جاذبية لا تقاوم فيولع به ويعشقه, ولكن بعد فترة وبعد أن يصل إلى ما يريد, يموت الحب, فالوصال مقبرة الحب وبداية الملل والعزوف, بل وحتى النفور والفرار, وهذا أمر طبيعي, إلا أن من يتعمق أكثر يجد المسألة محلولة, إن الإنسان يمتاز بكونه لا يمكن أن يكون عاشقاً للمحدود, وللزائل الفاني الذي يتحيز في حيّز, لأنه يعشق الكمال المطلق ولا يعشق شيئاً سواه. أي إن الإنسان يعشق ذات الله, حتى الذي ينكر وجود الله, وحتى الذي يكفر به ويشتمه. إن الذين يكفرون بالله ويشتمونه ولا يعترفون بالدين, لا يعلمون أنهم في أعماق فطرتهم يعشقون الكمال المطلق, إنما هم قد أخطأوا الطريق إليه, أضاعوا المعشوق, وكما قال محي الدين بن العربي: (ما أحب أحدٌ غير خالقه) ليس في الدنيا كلها من أحب غير الله, إلا أن الله مخبوء تحت هذه الأسماء. يظن مجنون أنه يعشق ليلاه, لأنه غافل عما في أعماق فطرته ووجدانه. ولذلك فإن الرسل والأنبياء لم يعلموا الناس اسم الله وعبادته, لأنهما موجودان أصلاً في فطرة الإنسان ولكنهم جاءوا ليحولوا بين الناس والانحراف على الطريق المستقيم ويدلوهم عليه, وليكشفوا لهم أنهم قد أخطأوا المعشوق, وأنهم إنما يعشقون الكمال المطلق,ويرشدوهم إلى الطريق الموصل إلى الكمال المطلق)[4] .
الميول إلى الكمالات المعنوية : إن الميول إلى الكمالات المعنوية لها جذور ووجود في أعماق نفس الإنسان ولها دور فعال في توجيه الإنسان الوجهة الصحيحة إن هو (الإنسان) استمع إليها ولم يصد عنها,حيث ترشده تلك الميول المعنوية إلى الرجوع بعد البعد الذي سببه الانصباب والتكالب على الدنيا وملذاتها وما أحدثته المذاهب المادية والتقنية الحديثة باستخدامها الاستخدام الخاطئ الضار على النفس والمجتمع وما ينتج عنها من إفلاس أخلاقي وخواء معنوي, هنا يأتي دور الفطرة (الميول إلى الكمالات المعنوية) لترشده وتنبهه من نومة الغفلة, وسكر الطبيعة نحو يقظة باتجاه الله سبحانه والركون إلى حصنه الحصين الآمن والسعي نحو فعل الخيرات والتزود من أنواع الكمالات المعنوية الطاهرة النقية الناقلة بالإنسان إلى عالم آخر ملؤه السعادة والصفاء والنقاء.
(ومن أوائل علماء الغرب الذين تحدثوا عن الميول المعنوية للإنسان هو العالم (ويليام جيمز) حيث صرف ما يقارب 40سنة من عمره. عاكفاً على دراسة (النفس) ومعرفة النفس الدينية في حقل التجربة والاختبار فحصاً وتحليلاً على أرضية الظواهر النفسية الدينية, فهو (وليام جيمز) قد تعمق في قراءة النفس الإنسانية من منظار الدين ولم تكن دراسته التحليلية على سبيل الاستدلال والقياس بل بنحو التجربة والنتيجة التي وصل إليها بعد جهد دام 40عاماً حيث يقول: كما توجد في الإنسان سلسلة من الميول نحو الطبيعة والمادة والتي تشكل رابطاً تربطه وتشده نحو الطبيعة, كذلك توجد في طياته ميول أخرى, وهي لا تتفق والحسابات المادية, بل هي تضاد ارتباط الإنسان بالطبيعة والمادة, وهذا يدل على وجود عالمٍ آخر, وهذه الميول والأحاسيس المعنوية تربطنا وتشدنا نحوه.
الإلهامات المعنوية والإلهية, البحث عن الله, السعي للخير والميل نحو المعنويات, أمورٌ لها وجود فعال لدى كافة أفراد البشر, وهي ترشد الإنسان إلى عالم آخر. وفي قبال هذا,الخواء المعنوي والإفلاس الأخلاقي الذي أحدثته المذاهب المادية, وتسبب عنه مشاكل كثيرة لبشرٍ هم في غنىً عنها)[5]
الكمال مطلب إلهي
الله سبحانه وتعالى كمالٌ مطلق ولا يصدر عنه إلا الكمال ولا يقبل من الأعمال إلا ما كمل منها فبقدر ما يشتمل العمل على نسبة من الكمال يقبل منه ذلك الجزء, فالصلاة مثلاً لا يقبل منها إلا ما كمل من توجه وحضور قلب وهو(الكمال الروحي) والعمل بالنية و الواجبات والأركان على الوجه الصحيح هو (الكمال الشرعي) , ولهذا جاء في تفسير قوله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف:8. (ففي الأعمال مقياس واحد توزن به, فللصلاة مثلاً ميزان توزن به وهي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة, وللزكاة والإنفاق نظير ذلك, وللكلام والقول حق القول الذي لا يشتمل على باطل, وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى في أمر التقوى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران: 102.
فالأقرب بالنظر إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله: (والوزن يومئذٍ الحق) أن الوزن الذي يوزن به الأعمال يومئذ إنما هو الحق (حسب موقعه في مدارج الكمال) فبقدر اشتمال العمل على الحق(في مدارج الكمال) يكون اعتباره وقيمته, والحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها, فا لله سبحانه وتعالى يزن الأعمال يومئذٍ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه وثقله)[6] .
وعليه يكون معنى الحق في الآية تمام العمل وكماله والذي يثقل الميزان يوم الحساب هو ثقل الكمال,على عكس العمل الذي يكون خاوياً من المعنى والكمال المعنوي فهو خفيف في الميزان لا ثقل له.
أسأل الله لنا ولكم أن يجعل خواتيم أعمالنا أعلاها في مدارج الكمال.
وأن يوفقنا جميعاً في السير و السلوك إليه و بلوغ أعلى المراتب الكمالية المعنوية،فإنَّ لكل سير وصول.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين
وصل اللهم على محمد وآله الطاهرين
المصادر
[1] مرتضى مطهري,الإنسان الكامل,ص11.
[2] عباس نور الدين،سفرٌ إلى الملكوت،ص72
[3] المصدر السابق ،ص72
[4] مرتضى مطهري,الإنسان الكامل, ص61.
[5] مرتضى مطهري,فلسفة الأخلاق,ص128.
[6] محمد حسين الطباطبائي,تفسير الميزان,ص11.