اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
سيرٌ إلى الله في طريق ترويض وتهذيب النفس
لقد شبه علماء الأخلاق والعرفان النفس بأنها كالخيل الغير مروضة, كما أسلفنا في دراسة سابقة,[1] وعلى الخيال أن يروض هذه الخيل كي تكون تحت سيطرته وأوامره, وإلاّ فلن تمكنه من ركوبها والاستفادة منها لأنها بطبيعتها الحيوانية تريد أن تهيم على وجهها, تذهب إلى حيثما تريد وتفعل ما تشاء دون قيد أو رقيب.
في الوهلة الأولى يجد الخيال صعوبة في أمر الترويض وعناداً من قبل الخيل ولكن بالتحلي بالصبر والتأني والتدرج في عملية ترويضها, يرى بعد فترة أنَّ نتائج جهده قد أثمر وأصبحت الخيل طوع أوامره يسيرها كيفما يشاء وأنّى شاء.
هكذا النفس تماماً كالخيل الغير مروضة لا تحب التقيد والنظام والجهد ميالة إلى اللعب واللهو ومملوأة بالغفلة والسهو تحب الراحة والدعة والرغبات والشهوات وكلما أعطيتها طلبت المزيد هكذا ذأبها و مآلها, فعلى السالك أن يعرف ما هي الأدوات والآليات التي يروض بها نفسه وجعلها طوع أوامره.
لقد ذكر العرفاء بعض الأمور (المعينات) التي تعين السالك على ترويض نفسه وتهذيبها ولكن بشرط المداومة والاستمرارية (قليل مدام عليه خير من كثير منقطع) وإلاّ لن يتمكن من النفس وسوف تعود إلى حالتها الأولى هي التي تتصرف وفق ما تشتهي.
ومن تلك الأمور التي ينبغي السالك العمل بها هي (المشارطة والمراقبة والمحاسبة) ولقد ذُكرت كثيراً في كتب الأخلاق والعرفان ولكن ليس من يقرأ ويعلم كمن يعلم ويعمل ولا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون ولو بالقليل فإن لكلٍ سيراً و وصولاً, فكلُ واحدٌ منا يعلم بأن هذه الأمور هي من الأمور الحسنة والتي تعين المرء على الانضباط وترويض النفس على فعل الطاعات وترك المعصيات ولكن ترى الكثير من الناس يواظب عليها برهة من الزمن ثم يترك ويريد النتائج الحسنة والثمار اليانعة, من المستحيل ذلك, فما لم تحصل لك ملكة المداومة على تلك الأمور الأخلاقية والروحانية لن تجني شيءً يذكر.
يقول أستاذنا الشيخ جعفر المبارك حفظه الله: إنَّ الحياة قائمة على التكرار في كل شيء, فما لم تكرر الأكل والشرب فسوف تموت, وما لم تكرر المعلومات التي تريد حفظها فلن تبقى في حافظتك, أنت ترى عندما تستمع إلى محاضرة مثلاً ثم تمر عليك سنة لا تتذكرها والسبب إنك لم تكررها أي لم تناقش ما جاء فيها مع صديق مثلاً, ولم تكتب مواضيعها على ورقة وتنظر إليها من فترة وأخرى حتى تبقى المعلومة حية طرية في فكرك.
هكذا البناء الروحي والأخلاقي مالم تكرر وتداوم على سقاية وتغذية هذه الشجرة المباركة فسوف تموت ولن تؤتي أكلها كل حين.
وعليه ينبغي عليك إن كنت من السالكين أو من محبي السير و السلوك أن تشارط نفسك في بداية يومك أي منذ الصباح الباكر ,بعد صلاة الصبح أو بعد تعقيباتها, أن لا تقارف ذنباً في هذا اليوم أبداً, فقط في هذا اليوم الذي أنت فيه ولا تشارط نفسك على أن لا تفعل ذنباً لأسبوع أو شهر مثلاً فإن ذلك فيه ثقلاً على النفس والشيطان الخبيث سوف يسولُ لك أن ذلك كثير, ولكن مشارطتك لنفسك ليوم واحد شيء يسير, و سيوسوس لك الشيطان أيضاً لأنه لن يدعك لأنه يجري مجرى الدم في عروقك وكذلك نفسك التي بين جنبيك.
فسوف يحاولان تثبيطك وإقناعك بأن يوماً هو كثير أيضاً ولكن لا تدعهما ينتصران عليك في هذا الجهاد الذي هو أكبر وأفضل الجهاد, فالعن الشيطان بلسانك وقلبك وأطرده هو جنوده من مملكة نفسك واستعن برحمة الله على نفسك الأمارة بالسوء. (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ )يوسف53
وأسأل الله التوفيق برحمته للدوام في المسير فالابتداء برحمة الله شيء مهم جداً في بداية السير والسلوك إلى الله ولهذا ترى سيد العرفاء وإمام السالكين وأميرهم علياُّ عليه السلام يركّز في أدعيته على هذا الأمر حيث يقول: (إن لم تبتدئني الرحمة بحسن التوفيق من السالك بي إليك في واضح الطريق) وكذلك يفتتح دعاء كميل بالرحمة أولاً (اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء) فاسأل الله برحمته أن يمدك بتوفيقاته للوصول إليه والقرب منه والفناء فيه, وقل لوساوس الشيطان وأوامر النفس أن يوماً واحداً ليس بكثير على الله أن لا أعصيه فيه وهو المنعم عليّ طوال حياتي ومازال يغدق عليّ بنعم (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) بل حتى هذه الجوارح والجوانح التي أتعبد بها فهي منه أفلا أستحي منه في أن أعصيه بها وهو المنعم عليّ بها في أبهى صورة وجمال وصحة وعافية أو ليس قادراً على أن يسلبها مني أو يعطلها وهو القادر على كل شيء, فتفكر واعزم وتوكل عليه.
ويضيف أحد أساتذتنا في علم العرفان على المشارطة الآنفة الذكر,شيئاً مهماً جداً لم أرهُ في كثير من كتب العرفانيين في هذا المجال إلا وهو مشارطة النفس إذا أخلّت بالمشارطة المذكورة أن يكون لها عقاب لردع النفس ومعاقبتها على عدم الوفاء بالمشارطة, وكل حسب قابليته واستعداده وتحمله, فمثلاً تقول في المشارطة :
أشارط نفسي و أتعهد أمام الله سبحانه وتعالى على أن لا أفعل ذنباً هذا اليوم أبداً وإذا فعلت ذنباً سوف أصوم ثلاثة أيام مثلاً أو لا أخرج من البيت كذا يوماً أو لا أشرب الماء البارد ليومين أو أربعة مثلاً, فأنت الذي تشخص ما هو العقاب المناسب الذي يمكن للنفس أن تروضها به وحاول أن تختار الأشياء التي تأنس النفس بها وتميل إليها وتشتهيها وتحرمها منه عقاباً لها على عدم وفائها بالمشارطة.
وعامل (العقاب) مهم جداً ومجرب لترويض النفس, ليس فقط في ارتكاب الذنب بل بعض الأشخاص ارتقى إلى معاقبتها حتى في التقصير في العبادة مثلاً أو خدمة الناس أو ما شابه ذلك.
(إن الإنسان مهما حاسب نفسه لم تسلم عن مقارفة المعاصي والتقصير في حق الله, لذا لا ينبغي على الإنسان أن يهملها, فإنه إن أهملها سهل عليها مقارفة المعاصي وأنست بها وعسر عليها فطامها, حتى صار ذلك سبباً لهلاكها, بل ينبغي أن يعاقبها إذا خالفت حدود الله وخرجت عن ما شرط عليه نفسه.
فإذا أكل لقمة فيها شبهة عن شهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع, وإذا نظر إلى الحرام ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر إلى المشتهيات من الحلال, وهكذا يعاقب كل عضو من أعضاء بدنه بمنعه عن شهواته, فهذه هي عادة سالكي طريق الآخرة.
روي أن رجلاً انطلق ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء وكان يقول لنفسه ذوقي إن عذاب جهنم أشد حراً, وبينما هو كذلك إذ أبصر النبي صلى الله عليه وآله في ظل شجرة فأتاه وقال له: غلبتني نفسي يا رسول الله! فقال له:
(لم يكن لك بد من الذي صنعته, أما لقد فتحت لك أبواب السماء, وباهى الله عز وجل بك الملائكة, ثم قال لأصحابه: تزودوا من أخيكم, فجعل الرجل يقول له: يا فلان ادع لي, يا فلان ادع لي, فقال له النبي صلى الله عليه وآله: عمهم, فقال الرجل: اللهم اجعل التقوى زادهم, واجمع على الهدى أمرهم, فجعل النبي يقول: اللهم سدده, فقال الرجل: اللهم اجعل الجنة مآبهم).[2]
والعجب من الإنسان كيف يعاقب عبده وولده وأهله على ما يصدر منهم من سوء الخلق والتقصير خوفاً من أنه لو تجاوز عنهم لخرج أمرهم من يده وبغوا عليه, وفي المقابل يهمل نفسه وهي أعظم عداوة له وضراوة, وأشد طغياناً من طغيان أهله, فإن غايتهم أن يشوشوا عليه معيشة الدنيا, ولو عقل لعلم أن العيش عيش الآخرة, وأن نعيم الجنة هو النعيم المقيم الذي لا آخر له, وأن النفس الأمارة هي التي تنغص على الإنسان عيش الآخرة, لذا فهي أولى بالمعاقبة.)[3]
المراقبة:
وبعد ذلك يأتي دور المراقبة وهي أن تراقب نفسك هل هي ملتزمة في شرطها في كل حركة وسكنة, في البيت مع الأهل والأولاد مع الناس خارج البيت أمام التلفاز في الخلوات و....و..... في جميع أمور حياتك في هذا اليوم, تصور أنك عامل وسيدك على رأسك يراقبك يحصي عليك كل تصرفاتك في عملك فماذا عساك فاعلاً, هل سوف تتقاعس عن العمل أو أن لا تعمل بجد واجتهاد, وأنت تعلم إنك لو فعلت ذلك لن يعطيك سيدك أجرتك أو سوف يخصم عليك أو يطردك,عقلاً وقطعاً لن تفعل ذلك حتى لا تخسر أجرتك أو عملك وثقة سيدك فيك, فراقب نفسك مراقبة السيد لعبده وجعل مراقبة الله لك نصب عينيك وعمق الشعور بذلك في كل آن وحين, (وإذا حصل -لاسمح الله- حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله, فاعلم أن ذلك من عمل الشيطان وجنده, فهم يريدونك أن تتراجع عما اشترطته على نفسك, فالعنهم واستعذ بالله من شرهم, واخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك, وقل للشيطان: إني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم - وهو يوم واحد- بأي عمل يخالف أمر الله تعالى, وهو ولي نعمتي طوال عمري, فقد أنعم وتلطف عليَّ بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى, ولو أني بقيت في خدمته إلى الأبد لما أديت حق واحدة منها, وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا, وآمل -إن شاء الله- أن ينتصر جنود الرحمن على جنود الشيطان في مملكة نفسك وتطهر من دنس وجودهم فيها,المراقبة لا تتعارض مع أي من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة, فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة).[4]
المحاسبة:
لقد أولوا أهل البيت أهمية كبرى لأمر المحاسبة لما لهذا الأمر شأن فاعل في استقامة الفرد ومراجعة ما قد سلف منه والتخفيف عليه في الحساب, (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا) بل اعتبر (أهل البيت) من لم يحاسب نفسه ليس من شيعتهم (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً استزاد الله تعالى وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه), وتكون المحاسبة عادةً قبل النوم بعد أن يؤدي آداب النوم المستحبة قدر الطاقة والاستطاعة يشرع في محاسبة نفسه بأن يستعرض في مخيلته كل ما قام به من بدء يومه إلى وقت وضعه الذي هو فيه (قبل النوم) فإذا عرضت له حسنة فعلها شكر الله وسأله التوفيق في المزيد، وسوف يشعر حينها بلذة روحية ويأنس بها وسوف يعمل على المزيد لتحصيل اللذات الإلهية, وإذا لا سمح الله ارتكب معصية أو زلة من الزلات استغفر الله وطلب التوبة منه بأن لا يعود فيها أبداً ويعمل بكل صدق وأمانة على معاقبة نفسه على ما ارتكبت حتى لا تعود وتتهاون بالمعاصي.
وهناك من يرى في بداية المحاسبة بأن يدون الشخص كل حسنة فعلها وكل خطيئة ارتكبها ونوع العقاب المناسب لها في كل مرة حتى يتعود على ذلك ويصبح الأمر سهل ويسير ومن المسلمات التي يعمل بها يومياً كالأكل والشرب مثلاً بدون تكلفاً بعد ذلك يستغني عن التدوين على الورقة ويكون قلبه هو الورقة التي يدون عليها, وهذا العمل لا بأس به لمن يستهويه أمر التدوين.
وبالمداومة على هذه الأمور الثلاثة فترة من الزمن تصبح لا محالة ملكة راسخة في النفس بدون تكلف ومشقة, إنما الشيطان وجنوده هم الذين يصورون لك بأن العمل شاق ومتعب فلا تصغي لهم وأعرض عن وساوسهم وخالفهم فيه, وداوم وواصل عملك يصلك الله إلى غايتك ويوفقك وييسر أمورك ويفتح عليك أبواب توفيقه وتنال بمشيئته سعادة الدارين.
[1] مملكة الغرائز عرفاناً ومنهاجاً,للمؤلف.
[2] رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس. ورواه الصدوق أيضاً.
[3] العلامة الكبير الفيض الكاشاني/ الرجوع إلى الله,ص ص 34-35.
[4] الإمام الخميني, الأربعون حديث/ ص26.