اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم عجل لوليك الفرج
عن أبي عبدالله ( الإمام جعفر الصادق عليه السلام ) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث سريّة، فلمَّا رجعوا، قال: مَرْحَباً بِقَومٍ قَضُوا الجهادَ الأصْغر وَبَقِي عَلَيهِمْ الجِهادُ الأكْبر، فقِيل: يَا رَسُولَ الله وَمَا الجهَادُ الأكْبر؟ قال: جِهادُ النفس" .
اعلم أن الإنسان كائن عجيب، له نشأتان وعالمان: نشأة ظاهرية ملكية دنيوية هي بدنه، ونشأة باطنية غيبية ملكوتية تكون من عالم آخر، إن لروح الإنسان التي هي من عالم الغيب والملك وت مقامات ودرجات قسَّموها بصورة عامة إلى سبعة أقسام حيناً، وإلى أربعة أقسام حيناً ثانياً، وإلى ثلاثة أقسام حيناً ثالثاً، وإلى قسمين حيناً رابعاً. ولكل من المقامات والدرجات جنود رحمانية وعقلانية تجذب النفس نحو الملكوت الأعلى وتدعوها السعادة. وجنود شيطانية وجهلانية تجذب النفس نحو الملكوت السفلي وتدعوها للشقاء. وهناك دائماً جدال ونزاع بين هذين المعسكرين، والإنسان هو ساحة حربهما، فإذا تغلبت جنود الرحمن كان الإنسان من أهل السعادة والرحمة و انخرط في سلك الملائكة وحُشِرَ في زمرة الأنبياء والأولياء والصالحين.
وأما إذا تغلب جند الشيطان ومعسكر الجهل، كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب ( غضوب لله سبحانه )، وحُشِرَ في زمرة الشياطين والكفار والمحرومين.
المقام الأول
وفيه عدة فصول
فصل: إشارة إلى المقام الأول للنفس
اعلم أن مقام النفس الأول ومنزلها الأدنى والأسفل، هو منزل الملك والظاهر وعالمهما. وفي هذا المقام تتألق الأشعة والأنوار الغيبية في هذا الجسد المادي والهيكل الظاهري، وتمنحه الحياة العرضية، وتجهز فيه الجيوش، فتكون ساحة معركة النفس وجهادها نفس هذا الجسد، وجنودها هي قواها الظاهرية التي وجدت في الأقاليم الملكية السبعة وهي:"الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل". وتكون جميع هذه القوى المتوزعة في تلك الأقاليم السبعة، تحت تصرف النفس في مقام الوهم، فالوهم سلطان جميع القوى الظاهرية والباطنية للنفس، فإذا تحكم الوهم على تلك القوى سواء بذاته ـ مسقلاً ـ وبتدخل الشيطان، جعلها ـ أي تلك القوى ـ جنوداً للشيطان، بذلك يجعل هذه المملكة تحت سلطان الشيطان، وتنه زم عندها جنود الرحمن والعقل، وتتوارى وتخرج من نشأة الملك وعالم الإنسان وتهاجر عنه، وتصبح هذه المملكة خاصة بالشيطان. وأما إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيدة بنظام العقل والشرع، فقد أصبحت هذه المملكة مملكة روحانية وعقلانية، ولم يجد الشيطان وجنوده محط قد لهم فيها.
إذاً، يكون جهاد النفس في هذا المقام، عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية، وجعلها مؤتمرة بأمر الخالق، وعن تطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.
فصل: في التفكر
اعلم أن أول شرط مجاهدة النفس والسير بإتجاه الحق تعالى، هو"التفكر"، وقد وضعه بعض علماء الأخلاق في بدايات الدرجة الخامسة، وهذا ـ التصنيف ـ صحيح في محله أيضا.
التفكر في هذا المقام هو أن يفكر الإنسان بعض الوقت في أن مولاه الذي خلقه في هذه الدنيا، ووفّر له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً وقويسالمة ذات منافع تحيِّر ألباب الجميع، والذي رعاه وهيَّأ له كل هذه السعة وأسباب النعمة والرحمة من جهة وأرسل جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كلّ هذه الكتب"الرسالات"، وأرشد ودعا إلى الهدى من جهة أخرى ... هذا المولى ماذا يستحق منا؟ وما هو واجبنا تجاه مالك الملوك هذا؟!. هل أن وجود جميع هذه النعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية وإشباع الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات أو أن هناك هدفاً وغاية أخرى؟.
هل أن للأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء كل أمة الذين يدعون الناس إلى حكم العقل والشرع ويحذرونهم من الشهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا البالية، عداءً ضد الناس أم أنهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!.
إن الإنسان إذا فكَّر لحظة واحدة، عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأن الغاية من هذا الخلق أسمى و أعظم، وأن هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحدَّ ذاتها، وأن على الإنسان العاقل أن يفكر بنفسه، وأن يترحم على حاله ونفسه المسكينة، ويخاطبها قائلاً: أيتها النفس الشقية التي قضيت سني عمرك الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، وأستحي من مالك الملوك، وسيرى قليلاً في طريق الهدف الأساسي المؤدي إلى حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيام قليلة فانية، التي لا تتحصل حتى مع الصعوبات المضنية الشاقة. فكّري قليلا في أحوال أهل الدنيا، من السابقين واللاحقين وتأملي متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر وأكثر بالنسبة إلى هنائهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأي شخص.
أن الذي يكون في صورة الإنسان ولكنه من جنود الشيطان وأعوانه، والذي يدعوك إلي الشهوات، ويقول: يجب ضمان الحياة المادية، تأمل قليلاً في حال نفس ذك الإنسان واستنطقه، و أنظر هل هو راضٍ عن ظروفه، أم أنه مبتلٍ ويريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!.
وعلى أي حال، فادع ربك بعجز وتضرع أن يعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه تعالى، والمأمول أن يهديك هذا التفكير المنبعث عن نية مجاهدة الشيطان والنفس الأمارة إلى طريق آخر ويوفقك للرقي إلى منزلة أخرى من منازل المجاهدة.
فصل: في العزم
وهناك مقام آخر يواجه الإنسان المجاهد بعد التفكر، وهو مقام العزم .
يقول أحد مشايخنا أطال الله عمره:"إنَّ العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وأن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه".
والعزم الذي يتناسب وهذا المقام، هو أن يوطن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتخذ قراراً بذلك، ويتدارك ما فاته في أيام حياته، وبالتالي يسعى على أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل حسب الظاهر بأن هذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعي هو الذي ينظم سلوكه وفق ما يتطلبه الشرع، يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، يقتدي بالنبي العظيم صلّى الله عليه وآله وسلم ويتأسى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمر ممكن، لأن جعل الظاهر مثل هذا القائد أمر مقدور لأيّ فرد من عباد الله.
وأعلم ... أن طي أي طريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلاّ بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف له العلوم الباطنية وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه لا بد من الاستمرار في التأدب بالآداب اشرعية الظاهرية أيضاً.
ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: ( إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر )، أو ( لا حاجة إلى الآداب الظاهرية بعد الوصول إلى العلم الباطن). وأن هذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية. ولعلّي أتوفق لبيان بعض هذا الأمر في هذه الأوراق إن شاء الله تعالى.
يتبع ....
شبكة أهل البيت(ع) للاخلاق الاسلامية