اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم عجل لوليك الفرج
فصل: في السعي للحصول على العزم
أيها العزيز ... أجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقق فيك العزم ( على ترك المحرمات ) فأنت إنسان صوري، بلا لب، ولن تحشر في ذلك العالم ( عالم الآخرة ) على هيئة إنسان، لأن ذلك العالم هو محل كشف الباطن وظهور السريرة، وأن التجرؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً، العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف. يقول الأستاذ المعظم دام ظله:"إنَّ أكثر ما يسبب على فقد الإنسان العزم والإرادة هو الاستماع للغناء".
إذاً، تجنب يا أخي المعاصي، وأعزم على الهجرة إلى الحق تعالى، وأجعل ظاهرك ظاهراً إنسانياً، وأدخل في سلك أرباب الشرائع، وأطلب من الله تعالى في الخلوات العون على بلوغ هذا الهدف وأستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حتى يوفقك الله على ذلك، ويعصمك من المزالق التي تعترضك، لأن هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتم بإنقاذ نفسه، بل ربما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين. نعوذ بالله منها.
فصل: في المشارطة والمراقبة والمحاسبة
ومن الأمور الضرورية للمجاهد:"المشارطة والمراقبة والمحاسبة". فالمشارط هو الذي يشارط نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أي عمل يخالف أوامر الله، ويتخذ قرارا بذلك ويعزم عليه. وواضح أن ترك ما يالف أوامر الله، ليوم واحد، أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكل سهولة أن يلتزم به. فاعزم وشارط وجرب، وأنظر كيف أن الأمر سهل يسير.
ومن الممكن أن يصور لك إبليس اللعين وجنده أن الأمر صعب وعسير. فادرك أن هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنة قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدق هذا الأمر.
وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى"المراقبة"، وكيفيتها هي أن تنتبه طوال مدة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت. وإذا حصل ـ لا سمح الله ـ حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أن ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمًّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرهم، واخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان:"إني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم ـ وهو يوم واحد ـ بأ ي عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو ولي نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليًّ بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أني بقيت في خدمته إلى الأبد لما أديت حق واحدة منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا"، وآمل ـ إن شاء الله ـ أن ينصرف الشيطان، ويبتعد عنك، وينتصر جنود الرحمن.
والمراقبة لا تتعارض مع أي من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة.
وأما "المحاسبة" فهي أن تحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن ولي نعمتك في هذه المعاملة الجزئية؟ إذا كنت قد وفيت حقاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسر لك سبحانه التقدم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحول إلى ملكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلا ويسيراً للغاية، وستحسُّ عندها باللذة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وفي هذا العالم بالذات، في حين أن هذا العالم ليس هو عالم الجزاء لكن الجزاء الإلهي يؤثر ويجعلك مستمتعاً وملتذاً ـ بطاعتك لله وابتعادك عن المعصية ـ .
وأعلم أن الله لم يكلفك ما يشق عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك عليه، لكن الشيطان وجنده يصورون لك الأمر وكأنه شاق وصعب.
وإذا حدث ـ لا سمح الله ـ في أثناء المحاسبة تهاوناً وفتوراً تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله وأطلب العفو منه، وأعزم على الوفاء بكل شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانية.
فصل: في التذكر
ومن الأمور التي تُعين الإنسان ـ وبصورة كاملة ـ في مجاهدته للنفس والشيطان، والتي ينبغي للإنسان السالك المجاهد الانتبـاه إليـها جيداً هو"التذكر".
والذكرى في هذا المقام، هي عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطف بها على الإنسان.
وأعلم أن احترام المنعم وتعظيمه، هو من الأمور الفطرية التي جبل الإنسان عليها والتي تحكم الفطرة بضرورتها، وإذا تأمل أي شخص في كتاب ذاته، لوجده مسطوراً فيه أنه يجب تعظيم من أنعم نعمةً على الإنسان. وواضح أنه كلما كانت النعمة أكبر وكان المنعم أقل غرضاً، كان تعظيمه أوجب وأكثر، حسب ما تحكم به الفطرة. فهناك مثلاً فرق واضح في الاحترام والتقدير بين شخص يعطيك "حصاناً" تلاحقه عيناه ويرمى من ورائه شيئاً، وبين الذي يهبك مزرعة كاملة ولا يمنَّ عليك. أو مثلاً، إذا أنقذك طبيب من العمى، فستقدره وتحترمه بصورة فطرية، وإذا أنقذك من الموت كان تقديرك واحترامك له أكثر.
لاحظ الان أن النعم الظاهرة والباطنة التي تفضل بها علينا مالك الملوك جلَّ شأنه لو أجتمع الجن والإنس لكي يعطونا واحدة منها لما استطاعوا. وهذه حقيقة نحن غافلون عنها، فمثلاً هذا الهواء الذي ننتفع به ليلاً ونهاراً، وحياتنا وحياة جميع الموجودات مرهونة به، بحيث لو فُقد مدة ربع ساعة لما بقى هناك حيوان على قيد الحياة، هذا الهواء كم هو نعمة عظيمة، يعجز الجن والإنس جميعا عن منحنا مثيلا لها لو أرادوا أن يمنحونا ذلك؟ وعلى هذا فقس وتذكر قليلا كافة النعم الإلهية مثل سلامة البدن والقوى الظاهرية من قبيل البصر والسمع والتذوق واللمس، والقوى الباطنية مثل التخيّل والواهمة والعقل وغير ذلك حيث يكون لكل واحدة من هذه النعم منافع خاصة لا حد لها. وجميع هذه النعم وهبنا إياها مالك الملوك دون أن نطلب منه أو يمنَّ علينا ولم يكتف بهذه النعم بل أرسل الأنبياء والرسل والكتب وأوضح لنا طريق ا لسعادة والشفاء والجنة والنار، ووهبنا كلّ ما نحتاجه في الدنيا والآخرة، دون أن يكون فقيرا ومحتاجا إلى طاعتنا وعبادتنا. فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية وطاعتنا وعبادتنا، وطاعتنا ومعصيتنا بالنسبة له على حد سواء، بل من أجل خيرنا ومنفعتنا نحن يأمر وينهي. وبعد تذكر هذه النعم والكثير الكثير من النعم الأخرى التي يعجز حقا جميع الشر عن إحصاء الكليات منها، فكيف بعدّها واحداً واحداً؟ بعد ذلك يُطرح السؤال التالي: ألا تحكم فطرتك بوجوب تعظيم منعم كهذا وما هو حكم العقل تجـاه خيانة ولي نعمة كهذا ؟!.
ومن الأمور الأخرى التي تقرّها الفطرة، احترام الشخص الكبير العظيم، ويرجع كل هذا الاحترام والتقدير الذي يبديه الناس تجاه أهل الدنيا والجاه والثروة والسلاطين والأعيان، يرجع إلى أنهم يرون أولئك كبارا وعظماء، وأيّ عظمة تصل إلى مستوى عظمة مالك الملوك الذي خلق هذه الدنيا الحقيرة الوضيعة والتي تعتبر من أصغر العوالم وأضيق النشئات، رغم كل ذلك لم يتوصل عقل أي موجود إلى إدراك كنهها وسرّها حتى الآن، بل ولم يطلع كبار المكتشفين في العالم بعد، على أسرار منظومتنا الشمسية هذه، وهي أصغر المنظومات ولا تعد شيئا، قياسا بباقي الشموس. أفلا يجب احترام وتعظيم هذا العظيم الذي خلق هذه العوالم وآلاف الآلاف من العوالم الغيبية بإيمائه؟!.
ويجب أيضا بالفطرة، احترام من يكون حاضرا، ولهذا ترى بأن الإنسان إذا تحدث لا سمح الله عن شخص بسوء في غيبته، ثم حضر في أثناء الحديث ذلك الشخص، أختار المتحدث حسب فطرته الصمت، وأبدى له الاحترام. ومن المعلوم أن الله تبارك وتعالى حاضر في كل مكان وتحت إشرافه تعالى تدار جميع ممالك الوجود، بل إن كلّ نفس تكون في حضرة الربوبية، وكل علم يوجد ضمن محضره سبحانه وتعالى.
فتذكري يا نفسي الخبيثة أي ظلم فظيع، وأي ذنب عظيم تقترفين إذا عصيت مثل هذا العظيم في حضرته المقدسة وبواسطة القوى التي هي نعمه الممنوحة لك؟ ألا ينبغي أن تذوبي من الخجل وتغوري في الأرض لو كان لديك ذرة من الحياة؟.
إذاً: فيا أيها العزيز؛ كن ذاكرا لعظمة ربك، وتذكر نعمه وألطافه، وتذكر أنك في حضرته ـ وهو شاهد عليك ـ فدع التمرد عليه، وفي هذه المعركة الكبرى تغلب على جنود الشيطان، وأجعل من مملكتك مملكه رحمانية وحقانية، وأحلل فيها عسكر الحق تعالى محل جنود الشيطان، كي يوفقك الله تبارك وتعالى في مقام مجاهدة أخرى، وفي ميدان معركة أكبر تنتظرنا وهي الجهاد مع النفس في العالم الباطن، وفي المقام الثاني للنفس، وهذا ما سنشير إليه لاحقا إن شاء الله. وأكرر التذكير بأنه في جميع الأحوال لا تعلق على نفسك الآمال لأنه لا ينهض أحد يعمل غير الله تعالى. فاطلب من الحق تعالى نفسه بتضرع وخشوع، كي يعينك في هذه المجاهة لعلك تنتصر. إنه ولي التوفيق.
المقام الثاني
وفيه عدة فصول أيضا
فصل: صراع جنود الرحمن مع جنود الشيطان الباطنية النفسية
اعلم أن للنفس الإنسانية مملكة ومقاما آخر، وهي مملكتها الباطنية ونشأتها الملكوتية، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهم مما في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والغلبة والانتصار فيها أشد وأهم، بل وأن كل ما في مملكة الظاهر قد تنزَّل من هناك وتظهر في عالم المُلك. وإذا تغلب أي من الجند الرحماني أو الشيطاني في تلك المملكة، يتغلب أيضا في هذه المملكة. وجهاد النفس في هذا المقام مهم للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات.
ويجب على الإنسان الالتفات كثيرا إلى نفسه في هذا الجهاد. فمن الممكن لا سمح الله أن تسفر هزيمة الجنود الرحمانية في تلك المملكة وتركها خالية للغاصبين والمحتلين من جنود الشيطان، عن الهلاك الدائم للإنسان بالصورة التي يستحيل معها تلافي الخسارة ولا تشمله شفاعة الشافعين، وينظر إليه أرحم الراحمين أيضا بعين الغضب والسخط ـ نعوذ بالله من ذلك ـ بل ويصبح شفعاؤه خصماءه، وويل لمن كان شفيعه خصمه.
ويعلم الله أي عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي هذا الغضب الإلهي. وتعقب معاداة أولياء الله حيث تكون كل نيران جهنم وكل الزقوم والأفاعي والعقارب لا شيء أمام هزيمة جنود الرحمان من قِبَلِ جنود الشيطان التي تترتب عليها عقوبات تفوق جميع نيران جهنم والزقوم والأفاعي. والعياذ بالله من أن يصب على رؤوسنا نحن الضعفاء والمساكين ذلك العذاب الذي يخبر عنه الحكماء والعرفاء وأهل الرياضة والسلوك، فإنّ جميع أشكال العذاب التي تتصورونها، يسيرة وسهلة في مقابلة، وجميع النيران التي سمعتم بها، جنة ورحمة في قباله وبالنسبة إلى ذلك العذاب.
إن وصف النار والجنة الوارد في كتاب الله وأحاديث الأنبياء والأولياء، يتعلق غالبا بنار الأعمال وجنتها اللتين أعدتا للأعمال الصالحة والسيئة. وهناك إشارة خفية أيضا إلى جنة الأخلاق ونارها، وأهميتهما أكبر، وأحيانا يشار أيضا إلى جنة اللقاء ونار الفراق، وهذه أهم من الجميع، ولكنها إشارات محجوبة عنا، ولها أهلها، وأنا وأنت لسنا من أهلها، ولكن من الأجدر بنا أن لا نكون منكرين لها. وليكن لدينا إيمان بكل ما قاله الله تعالى وأولياؤه. إذ يكون في هذا الإيمان الإجمالي نفع لنا. ومن الممكن أن يكون الإنكار في غير محله، ولما رفض في غير موقعه الصادرين عن غير علم وفهم، أضرارٌ كبيرة جدا علينا. وهذه الدنيا ليست هي بعالم الالتفات لتلك الأضرار. فمثلا عند سماعك الحكيم الفلاني أو العارف الفلاني أو المرتاض الفلاني، يقول شيئا لا يتل اءم وذوقك الخاص، فلا تحكم عليه فورا بالبطلان والوهم، فقد يكون لذلك القول أصل في الكتاب والسنّة ولكن عقلك لم يطلع عليه بعد.
فما الفرق بين أن يفتي فقيه بفتوى في باب الديات وأنتم لم تعرفوها، ثم من دون مراجعه دليله تردونه، وبين أن يقول شخص سالك إلى الله أو عارف بالله، قولا بتعلق بالمعارف الإلهية أو بأحوال الجنة والنار، وأنتم ودون مراجعة لدليله لا تردونه فحسب، بل وتهينونه أو تتجرءون عليه؟ فمن الممكن لذلك الشخص وهو من أهل ذلك الوادي وصاحب ذلك الفن أن يكون له دليل من كتاب الله، أو من أحاديث الأئمة ولكنك لم تطلع عليه بعد، ففي هذه الحالة تكون قد رددت على الله ورسوله دون مبرر مقبول. ومعلوم أن الاحتجاج بأسلوب"أن ذلك لا يتلاءم مع ذوقي"أو"لم يصل إليه علمي"أو"سمعت خلاف ذلك من الخطباء"، فإن هذا كله لا يشكل عذرا مقبولا. وعلى أي حال لنرجع إلي صلب الموضوع.
فم قالوه بشأن جنة الأخلاق والملكات، وجهنم الأخلاق والدركات، مصيبة لا يطبق العقل حتى سماعها.
إذاً فيا أيها العزيز؛ فكِّر، وأبحث عن العلاج، وأعثر على سبيل نجاتك ووسيلة خلاصك، وأستعن بالله أرحم الراحمين، واطلب من الذات المقدس، في الليالي المظلمة، بتضرع وخضوع أن يعينك في هذا الجهاد المقدس مع النفس، لكي تتغلب إن شاء الله، وتجعل مملكة وجودك رحمانية، و تطرد منها جنود الشيطان، وتسلّم الدار إلى صاحبها حتى يفيض الله عليك السعادة والبهجة والرحمة التي يهون جانبها كلّ ما سمعت عن وصف الجنة والحور والقصور وتلك هي السلطة الإلِّهية العامة التي أخبر عنها أولياء الله من هذه الأمة الحنيفة، مما لم يطرق سمع أحد ولم يخطر على قلب بشر.
يتبع...
شبكة أهل البيت(ع) للاخلاق الاسلامية