اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بحثاً عن النور -1-
بحثاً عن النور
ومن ذلك اليوم لم يعفني صاحبي من أسئلته واستفهاماته عن مكانة الإمام المهدي (عليه السلام) عند الله تعالى ، وعن معيشته وعمله.. وكأن ذلك صار شغله الشاغل، وصار الجلوس عند جدار البقيع لمدة طويلة محبباً إليه !
كان يجلس طويلاً متفكراً أو يقرأ القرآن.. أو يذكر الله تعالى..
رأيته يوماً جالساً هناك.. فجلست إليه وقلت له: حدثني يا مرتضى عن عالمك ، بماذا تفكر؟
- بل أنت حدثني عن تنزل الملائكة في ليلة القدر وما هو البرنامج الذي يأتون به الى صاحب الأمر روحي فداه ؟
- وما علمي بذلك يا مرتضى.. الذي أعرفه من ذلك قوله تعالى:{ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ }
وقد ورد في الرواية أن عمر بن الخطاب سأل النبى (صلى الله عليه وآله) لماذا يرقُّ قلبه عندما يقرأ هذه السورة أكثر مما يرق لغيرها ؟ فأعاد النبي قرائتها حتى وصل الى قوله تعالى: { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } ثم قال لعمر: وهل بقي بعد هذا شئ ، قال: كلا !
هذا الحديث يدل على تنوع الأوامر والأمور النازلة في ليلة القدر على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو على قلب حجة الله في أرضه (عليه السلام)، وقد وردت روايات عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تؤكد هذا المعنى وتذكر بعض التفاصيل.
- إنها مسألة كبيرة ، وقد وصلت الى أن ترك التفكير فيها أولى ، أليس كذلك ؟
- التفكير يوصلنا الى معرفة أشياء كثيرة ، ولكن ما ينزل في ليلة القدر لايمكن معرفته بالتفكير فيه ، ولا نحن مكلفون بذلك.. إنما يجب علينا أن نؤمن بقوله تعالى: { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } على عمومه وإجماله .
قال مرتضى: فكرت في هؤلاء الثلاثين الذين يلتقي بهم صاحب الأمر (روحي فداه) ، فوصلت الى أنه قد يعطي كل واحد منهم قسماً من برنامج السنة ويأمره بتنفيذه ، أليس كذلك ؟
- هذا محتمل ، كما يحتمل أن تنزل طريقة تنفيذ البرنامج معه ، فلا يمكننا أن نعرف بالتفكير طريقة عمل الإمام المهدي (أرواحنا فداه).
- كذلك فكرت في قصة الخضر في القرآن فرأيت أن محور أعماله هو مساعدة المؤمنين وخدمتهم في أمور معيشتهم مثل أصحاب السفينة الذين خلص سفينتهم من المصادرة ، والغلامين اللذين حفظ لهما كنزهما ، أو دفع الضرر والضلال عنهم مثل والدي الغلام الشرير .
كما فهمت من قصة الخضر (عليه السلام) أنه شخص متجول وليس مقيماً في مكان واحد ! فقد ركب في السفينة وقصد قرية واحدة أو عدة قرى ، وكان له في كل مكان هدف وعمل، وعلى هذا يمكن أن نقول بأن أعمال صاحب الأمر وجماعته روحي فداهم تدور حول خدمة المؤمنين مادياً ومعنوياً ، وأنهم متحركون لا يقيمون في مكان واحد .
- نعم هو كذلك ، وقد ورد في كنز الغلامين أنه كان لوحاً من ذهب مكتوب عليه العلم والحكمة ، فتكون خدمه الخضر لهما خدمة في أمر معيشتهما وفي هدايتهما معاً .
- إذن مامعنى الرواية التي تقول إنهم يقيمون في المدينة المنورة ؟!
- المدينة مقر إقامتهم ، ولا يمنع ذلك من تحركهم وتجولهم .
وتركت صاحبي جالساً عند جدار البقيع ، يتأمل ويتمتم بذكر الله تعالى..
جاءني مرتضى يوماً الى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) وقال باهتمام: أرجوك أن تأتي معي بعد ظهر اليوم الى المسجد ، فقد صادفت رجلاً ورأيت منه أمراً عجيباً ، ودعوته لزيارتنا فلم يقبل وقال لى: إذا أردت أن تراني أنت وصاحبك فلان وسماك باسمك ، فأنا بعد الظهر في الساعة الفلانية في الموضع الفلاني من المسجد.. أرجوك يا سيدي أن تذهب معي الى ملاقاته .
- وما ذا رأيت منه ؟
- كنت جالساً عند جدار البقيع فوقف عليَّ وقال: يا مرتضى لا تتعب نفسك بالتفكير فيما لم تكلف به ، ولا تتعب نفسك في البحث عن أولياء الله تعالى ، فإن كان مقسوماً لك أن ترى منهم أحداً فإنك ستراه .
قلت له: أشكرك أيها الأخ ، ولكن من أين عرفت إسمي ؟
قال: أخبرني به شخص في المسجد وأمرني أن أقول لك: لا صوم للمسافر في المدينة أكثر من ثلاثة أيام ، وليس من العبادة مافعلته من ترك الطعام والشراب
قلت لمرتضى: وهل كنت تركت الطعام والشراب ؟
قال: نعم ، كنت صمت ثلاثة أيام ، ثم أمسكت يومين عن الطعام والشراب إلا يسيراً جداً .
- ثم ماذا رأيت من الرجل ؟
أخبرني بأمور مرت عليَّ في حياتي وبعضها لا يعلمها إلا الله تعالى ، وأخبرني عن بعض ما سيحدث لي ، وعن مقدار ما بقي من عمري ! أنا مطمئن بأنه صادق ، وقد سألته هل يمكنني أن أخبر أحداً بحديثه معي فسمى لي شخصين أنت أحدهما !
بقيت أفكر في أمر مرتضى مع هذا الرجل.. وقلت في نفسي: أرجو أن لايكون مرتضى من الذين يؤثر عليهم شدة الخيال والرغبة في وقوع الشئ الى درجة أنهم يتصورون أن ما يتخيلونه قد وقع وتحقق ! إن مرتضى سليم البدن والحواس ، وذهنه سليم أيضاً بعيد عن الإغراق والتخيل، بل يبدو أنه بطئ التصديق بالكرامات والغيبيات كأمثاله من المثقفين الموظفين . لكن مجرد احتمال أن يكون الأمر صحيحاً أمر مهم، وسوف أمتحن الرجل برسالة أبعثها معه الى صاحب الأمر (روحي فداه)
وذهبت مع مرتضى في موعدنا ، وقصد المكان المحدد في المسجد فتفحص الوجوه حتى رآه ففرح بذلك وقال: هذا هو ، مشيراً الى رجل يقرأ القرآن كأنه من أهل اليمن ، وأسرع إليه وتبعته فجلس أمامه على ركبيته وسلم عليه ، فنظر إلينا الرجل وقال: وعليك السلام يا مرتضى ، وعلى صاحبك فلان ، وسماني
وأشار لنا بالجلوس فجلسنا الى جانبه فقال له مرتضى:
- هل تأذن لنا بالسؤال ؟
قال اليماني: تفضل يا مرتضى سل عما يعنيك ودع مالا يعنيك .
قال مرتضى: هل يمكنك أن تخدمني خدمة وأكون لك مديناً كل حياتي ؟
- ما هي ؟
- أن تأخذني الى لقاء سيدي ومولاي صاحب الأمر (روحي فداه)
فانتفض الرجل قائلاً: إنك يا مرتضى تطمع في أمر عظيم ، وتسألني مالا أملكه . لا تذهب بك المذاهب فتظن أن لي مقاماً عند صاحب الأمر (روحي فداه) ، فإنما أنا رجل عادي أحضر في بعض مجالس المؤمنين، وقد كلفني أحدهم أن أذهب اليك عند جدار البقيع وأن أبلغك مابلغتك ، وذكر لي اسم صاحبك هذا
قال له مرتضى: يعني أنت لم تتشرف برؤيته (روحي فداه) ؟
فانحدرت دموع اليماني وتحشرج صوته ، وقال:
يا مرتضى ، ليس كل من تشرف برؤيته صار من أصحابه وصار بإمكانه أن يأخذ الآخرين الى ملاقاته ! لا تهونوا من مقامه (روحي فداه) ، ولا تتصوروا أن أصحابه من أمثالي إن أصحابه أولياء الله الكبار أهل الإيمان واليقين والبصيرة ، الذين أخلصوا دينهم وعملهم لله تعالى فأخلصهم لعبادته وخدمة حجته ، وأنا لا أبلغ أن أكون منهم ، إنما أنا رجل عادي أجلس مع أصدقاء كلهم أعلم مني وأتقى ، وربما كلفني أحدهم بإبلاغ رسالة أو عمل ، فأقوم بما أمرت به .
قال له مرتضى: يعني تنصحني أن لا أحاول التشرف بلقائه (روحي فداه) ؟
قال اليماني: لا أنصحك بهذا ، لكن أنصح نفسي وأنصحك بأن نكون من أصحاب اليقين والطاعة .
قال مرتضى: أرجوك أن تحدثني عن مولاي وعن أصحابه .
فقال: نعم ، إن الله عزوجل لا يترك أرضه بدون حجة على عباده ، وإن حجة الله في أرضه مقام عظيم ، وإن سيدي ومولاي (روحي فداه) خاتم الحجج وخاتم الأوصياء ، أقرب أهل الأرض الى الله عز وجل وأعلمهم به وأطوعهم له ، وأشبه الناس بجده خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) في خلقه وخلقه ومنطقه ، لاينطق عن الهوى ولا يعمل إلا بالهدى ، ولا يختار لصحبته ومعونته على أمره إلا بتسديد ربه ، فأصحابه أهل اليقين والتقوى والبصيرة في الدين والدنيا ، كل واحد منهم ميسر لما خلق له ومشغول بما أمر به ، يعي ما يأمره به مولاه ويفهم إشارته ، ويدرك هدفه ، ويفديه بروحه ، لا يبتغون بعلمهم ومقامهم شيئاً من حطام الدنيا ولا مقامها، إلا رضا سيدهم عنهم ورضا ربهم برضاه . أولئك أمناء الله على سره ، ومنفذوا إرادته في عباده ، وثمرات بني آدم في كل عصر .
قال مرتضى: ما هي أحسن صفة تعجبك فيهم ؟
قال اليماني: أكثر ماينفعك من صفاتهم: توكلهم على الله تعالى ويقينهم بأمره ، فتراهم لا يشغلون أنفسهم بما لم يكلفوا به ويحصرون همهم فيما أمروا به أو نهوا عنه .
قال مرتضى: الآن فهمت معنى كلامك لي عند البقيع: أترك عنك لزوم ما لا يلزم ، وماكان من عمل الله تعالى فدع عنك همه ، وما كان من عمل الناس فدع لربك حسابه ، واحصر همك فيما جعله الله عليك !
قال مرتضى: أسألك يا سيدي بحق مولاي ومولاك إلا دعوت لي الله تعالى أن يعينني على نفسى وطلبت لي من مولاي الدعاء ؟
قال اليماني: أفعل إن شاء الله
ونهض الرجل مودعاً وغادر المكان ، وبقيت أنا ومرتضى كأنما تسمرنا في مكاننا ، ينظر أحدنا في وجه صاحبه ، ثم نطرق مع أنفسنا ، أو تنحدر من عيوننا الدموع !
قلت لصاحبي: قم يا مرتضى لنجلس في مكانك المحبب عند جدار البقيع ونتحدث فيما جرى
قال: ألا نلحق بالرجل ، فلعلنا نجده
قلت: لا تجده ، ولا أظننا نراه بعد اليوم
قم ياصاحبي ، فهذا كثير علينا...
سماحة الشيح علي الكوراني
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين