ولقد جاء في الأثر إن أهل البيت عليهم السلام كانوا دائماً يحثوا أتباعهم على الإنتباه من الغفلة وكشف الحجب وطلب إعانة الله على ذلك:(اللهم نبهنا من نومة الغافلين) وكذلك (اللهم اكشف عن بصائرنا أغشية المرية والحجاب) مما يدل على أن أهل البيت كانوا يريدون من أتباعهم الوصول إلى مرحلة الإنتباه واليقظة ورفع الحجب الظلمانية والنورانية منها, لأنه كلٌ حسب مرحلته, فهناك من هو في نومة وسكر الشهوة والمشتهيات والرغبات وحجب المادة, ومن هو في نومة التعلق بالمقام المعنوي وحجب العلم, لأن العلم الحجاب الأكبر كما يعبر سيد العرفاء روح الله الخميني (رهـ) وسوف نتناول موضوع العلم وكيفية السير فيه وموانعه وحجبه في مكانه الخاص به,إن شاء الله.
فالتعلق بالدنيا و مادياتها سببٌ رئيس في جعل الإنسان يعيش حالة الغفلة والإنشداد نحو الميول الشهوانية وإشباع الرغبات النفسانية التي لا تنتهي أبداً, فكلما أشبع الإنسان رغبة من رغباته طالبته النفس بإشباع رغبة أخرى أكبر من الفائتة وهكذا حتى مماته مالم يستيقظ ويروض النفس على القناعة، يقول سيد العرفاء الإمام الخميني (رهـ) إن أكثر أهل الدنيا شقاءً هم الأثرياء كلما حصلوا على شيء طمعوا في شيءً أكبر..... ولو امتلك الإنسان مدينة من النساء وعلم أن هناك مدينة أخرى لطمع في امتلاك تلك المدينة).
اللهم نبهنا من نومة الغافلين وجعلنا من القانعين السعيدين.
وإليك بعض قصص الذين كانوا في عالم الغفلة,وكيف انتقلوا إلى عالم اليقظة.
صحوت من نومة الغفلة
يقول أحد السالكين:(قبل أن أعيش حالة الصحوة من نوم الغفلة.. ذهبت يوماً إلى أستاذي, فقرأ لي موضوعات من كتاب (في محضر الأستاذ).وهذه الموضوعات التي قالها الأستاذ لم يذكر أسمه في الكتاب كان لها في داخلي أثر الإيقاظ, ومن حينها بدأت التطلع إلى الكمالات والسير إلى الكمالات والسير إلى الله. استغرقني التفكير ليلة, بعد صلاتي المغرب والعشاء في مسائل كانت تلح عليّ: صحيح أننا نختلف عن أصحاب النظرة المادية للحياة - من فلاسفة ماديين وسواهم- الذين لا يؤمنون بما وراء الطبيعة.. لكننا ربما لا نختلف عنهم في هذا من الوجهة العملية.
نحن مثلاً لا نعرف من أين جئنا, ولا ندري على نحو كامل إلى أين سنصير.[2]
ليست لنا بالله من صلة مباشرة, فلا نحن نكلمه, ولا نحن نتلقى منه إجابة
الزيارات التي نزور بها الأئمة الأطهار عليهم السلام.. نؤديها في طرفة عين! ومهما سلمنا عليهم سلاماً.. لم نظفر بجواب السلام! بل إننا لا نتوقع جواباً!
نحن لا معرفة لنا بإمام الزمان عليه السلام الذي جعله الله تعالى في بدن ظاهر, لنتمكن من الكلام معه, ونأنس به, فهو حجة الله وواسطة ما بيننا وبين الله. بل إن عدة منا يكذبون حتى في قضية اللقاء به عليه السلام.
صارت الصلاة لنا عادة, فلا هي تقربنا إلى الله, ولا نحن نعلم ما معنى القرب من الله تبارك وتعالى.[3]
لا تعرج بنا صلاتنا, ولا نعرف معنى العروج والصعود إلى الأعلى.[4]
لا هي تنهانا عن الفحشاء والمنكر, ولا نحن ندرك معنى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.[5]
ما رأينا الملائكة, ولا عرفنا علة خلقهم.. مع أنهم خدم لمحبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.[6]
ما وجدنا أنساً بالجن, وما لنا من إيمان كامل بوجودهم.
سمعنا باسم الشيطان, ولكننا ما فكرنا أبداً أن كيف يقدر أن يخدع بني آدم في لحظة؟
وأهم من هذا كله.. أننا ما عرفنا أرواحنا, ولا استبانت لنا أسرار النوم والموت, وبعبارة واحدة: نحن قابعون وراء حجاب المادية, ولا علم لنا بشيء!
تلك الليلة.. أخذني فكر عميق في هذه المسائل: لم نحن كذلك؟!
كانت ليلة عسيرة بالقياس إليّ.. اشتمل عليّ فيها موج من الأفكار والتساؤلات المصيرية عدة دقائق. ولو كانت قد طالت لعصفت بي ولوجدتني أخرج إلى البرية صارخاً, ولبقيت في البؤس والخسران.
بيد أني عدت في وقتها إلى نفسي, وفكرت: أني أؤمن بالله, وقدمت لتلاميذي عشرات الأدلة على إثبات وجوده, وقد كنت بلغت درجة من العلم ,وإني لأحب الله, أحبه أكثر من أي أحد.
إنه طالما عاملني بصفته (الرحمن) كما عاملني بصفته (الرحيم), وأنا دائم التقلب في ألطافه ونعمائه.
وإذن.. فلم لا أطلب منه أن يكشف عن قلبي الحجب المعنوية؟
ألم يقل ( جل وعلا): ﴿أليس الله بكاف عبده﴾.[7]
أوليس هو القائل: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾.[8]
جلست بين يديه, وحبه غالب في قلبي, وإذ كنت جالساً مستقبلاً القبلة, مقبلاً عليه (تعالى شأنه). غفلت فجأة عن كل ما هو مادي, وتوجهت إليه وحده, فوجدتني بكل وجودي أمام الله, حتى ذهلت عن نفسي.
ما حضرني عندها من الأذكار التي أحفظها إلا اليونسية - أي: ﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾.[9]
ورحت أردد هذه العبارة, متدبراً في معناها, وربما كنت قد كررتها وأنا ساجد أكثر من مئة مرة.. حتى حقق إلهي الوفي, إلهي الحبيب, إلهي العزيز.. وعده الذي ذكره في آخر هذه الآية حيث قال: ( وكذلك ننجي المؤمنين).[10] - يعني: كما أنجينا يونس من الغم لما قال هذه العبارة.. فكذلك ننجي المؤمنين من الغم.
وهكذا وفى لي إلهي, فأنجاني - كما أنجى يونس- من جميع الحجب الظلمانية, ومن جميع العذابات, وفتح لي عين قلبي وأذني ولساني.. وشرح لي صدري. الحمد لله, وشكراً لله,( إلهي.. كيف أشكرك وشكري منك نعمة أخرى تقتضي شكرا).[11] عندها أحسست كأني مثل من أفاق من سبات عميق, وتنبه إلى ما فرط فيه, وما لحقه من خسر, فقررت من فوري أن أتدارك ما فات, لكني لا أدري كيف.
قال:
بعد هذه الجلسة غداً في وسعي أن أرى ربي الرحمن الرحيم بعين قلبي, فأكلمه وأناجيه, وأن أرتبط به, فأسمع كلامه, ومازلت كذلك في حالة وصال فلا أخلو من ألطافه غير المتناهية, ولم لا يكون كذلك؟
أولم يقل: ﴿وهو معكم﴾.[12] وقال: ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾[13] ؟
أوليس هو القائل: ﴿وهو على كل شيء قديرا﴾[14] ؟
وهو القائل: ﴿ألا إنه بكل شيء محيط﴾.[15]
والقائل: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها﴾.[16]
وإذن.. فلم يكون مع كل شيء, ثم لا يكون معي؟!
أيكون على كل شيء قديراً, ولا يكون قادراً على إسداء ما أسدى إليّ؟!
أيمكن أن يكلم كل نفس فيلهمها فجورها وتقواها.. ولا يكلمني ولا يلهمني شيئاً؟!
قال:
في ليلة من ليالي أول سن البلوغ - ولم أكن قد تعرفت على شيء من الحقائق والمعنويات وأسرار الخليقة – صليت صلاة الليل, طبق ما أوصاني به أحد العلماء الأجلاء, وفي السجدة الأخيرة.. غلبني النوم, فسمعت هاتفاً يتلو علي هذه السورة من القرآن:
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها﴾.[17]
وعند هذه الآية هببت من النوم.. وظللت أتسمع إلى الآية الأخيرة وهي تتلى في اليقظة عدة مرات:
(قد أفلح من زكاها)..
(قد أفلح من زكاها)..
(قد أفلح من زكاها)..
ثم أخذ الصوت يعلو ويرتفع, حتى كاد من فرط علوه وشدته أن يمزق طبلة أذني, فصرخت وقد تملكني الخوف.. ووقعت على الأرض في إغماء.
في حينها انكشف لي معنى هذه الرؤيا أن: لماذا لا تصغون - يا من أسلموا- إلى كلام الله.. خالقكم الذي آتاكم كل شيء, وما حدث أن كذب عليكم ولا كان في قوله من المبالغة شيء؟!
ألم تروا.. كيف يقسم بإلحاح وتوكيد أن يجعل الفلاح والسعادة من نصيب الذين يزكون أنفسهم؟!
ألا تكفيك كل هذه الأقسام و التوكيدات بكل ما هو مقدس لديه.. لأن تستفيق من نوم الغفلة وتستيقظ؟!
﴿والشمس﴾: (قسم برسول الله محمد بن عبد الله (ص)).[18]
﴿وضحاها﴾ - أي: ضحى الشمس: (قسم بنفس محمد (ص)).
﴿والقمر إذا تلاها﴾: (قسم بنفس علي (ع) في مقام كونه, كما يقول هو (ع), عبداً من عبيد محمد (ص)).[19]
﴿ والنهار إذا جلاها﴾: ( قسم بنفس الحسن والحسين (ع) في مقام إضاءتهما العالم بذريتهما الطيبة وكلامهم الحق).[20]
ثم القسم بالليل إذا يغشى, والقسم بالسماء, وبمن بنى هذه القبة العظيمة الرائعة, والقسم بالأرض وبمن مدها وبسطها, والقسم بالنفس الإنسانية, وبمن خلقها سوية معتدلة, وألهمها الفجور والتقوى ودلها عليهما.. إن من زكاها وطيبها لمفلح, وإن من دنسها ودساها لخائب خاسر.
ترى: ألا تكفي هذه السورة المباركة لتجعلك تهب من نوم الغافلين؟!
ألا يكفي هذا التأكيد بلفظة (قد) في آية سورة (الأعلى) حين قال الله عز وجل: (قد أفلح من تزكى).. ألا يكفي هذا التأكيد لتصحو من نومك الثقيل؟!
قال:
علمني أستاذي طريقة ( التجرد) أو )التجرد الروحي). وفي ليلةٍ شرعتُ في تنفيذ مقدمات التجرد, وأنا مستلق على الفراش.. أحسست - وما تزال عيناي مفتوحتين- بخفة في قدمي, وثقل فجأة رأسي وصدري ثقلاً عجيباً.
ثم شاهدت روحي تخرج من أقدامي وتنفصل عن البدن, أي ما يزال جسمي على الأرض, ولكن روحي التي كان لها شكل جسمي نفسه بدأت تخرج إلى حد الخاصرة, وبقي منها ما كان عند رأسي وصدري. ولما شاهدت هذا المشهد أصابني كثير من الخوف, فهززت بدني وقمت من مكاني واقفاً,وعادت روحي إلى البدن.
هذه الحادثة - أو قل: نصف التجرد- أبانت لي عن أمور, إذ رأيت الروح- على عكس حالة البدن- بخاراً شفافاً له إحساس, ويتنبه لكل شيء.
ثم أني عمدت إلى تكرار هذه التجربة متسلحاً بمزيد من الشجاعة, فأدركت قضايا أخرى عن الروح, كانت روحي- إذ عاينتها في حالة التجرد- بيضاء شديدة الشفافية.. في حين ما كان جسدي غير لحم وجلد وعظم ودم.. وفي رفقته الروح النباتية على نحو مؤقت, كان بدني على الفراش أسود ثقيلاً.. تماماً كحالة النوم.[21]
إن تجرد الروح في الواقع هو هذا النوم, لكنه يفترق عن النوم العادي.. في أن المرء يدرك - لدى التجرد- متى تبدأ الروح بالانفصال, وأن انفصالها وعودتها إلى البدن يكون طوع اختياره, وأنه لا ينسى بسرعة ما يراه في هذه الحالة وما يدركه.. كما لو كانت روحه في بدنه.
إن للروح من الخصائص ولديها من المعلومات شيئاً متميزاً.. ما كنت أعرف في ذلكم الوقت مصدرها, وهي تنطوي مع ذلك على صفات ورغبات هابطة.. علمت بقليل من التأمل, أنها قد لحقت بها من مخالطتها للبدن, ومن عيشها السابق في عالم ( الذر), ثم في عالم الدنيا, وإذا ما شاءت أن تحلّق بسهولة ويسر تلقاء الكمالات فإن عليها التخلي عن هذه الصفات الدانية المرذولة, بأن تتزكى وتتطهر وتصفو, وإلا فإن هذه الدنايا الهابطة ستجرها إلى الدنيا وتجذبها إلى ظلمات عالم المادة.
وقد كان هذا هو السبب الذي جعل روحي - في لحظة التجرد هذه- تعود إلى جسدي بعد قليل. إن الروح غير المزكاة سرعان ما رجعت إلى موضعها ولم تنفصل سوى لحظات.
قال:
بعد حادثة التجرد الروحي هذه.. كان ديدني أن أفرّغ نصف ساعة من وقتي قبل النوم أتحدث فيها مع الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) بمنتهى العفوية والبساطة, أسلم عليهم وأتكلم معهم, متودداً إليهم واحداً واحداً. في البداية أتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله, فأقوم واقفاً أمامه كما لو كنت في عصره أتقدم إليه بالاحترام و التعظيم.. ذلك أني أعلم أن روحه المقدسة و كذا أرواح الأئمة الطاهرين عليهم السلام تحيط بي علماً, أقول في خطابه (صلوات الله عليه وعلى آله): السلام عليكم. ثم أنحني (كمن يقبل يد النبي).. ثم أناجيه متودداً إليه, عارضاً حاجتي عليه.
وأصنع مثل هذا إزاء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وكذا الأئمة الهداة عليهم السلام واحداً بعد واحد.. حتى أصل إلى الوجود المقدس لروح عالم الإمكان الإمام بقية الله (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء). ثم إني أتوجه إليه (سلام الله عليه) بمزيد من التوقير والإجلال -لإيقاني أنه يحيى في هذه الدنيا بجسده الظاهري- فأراعي في مقابله الأدب الباطن والأدب الظاهر.
أي أني أقوم واقفاً إذا كنت في حالة جلوس, وإذا كنت واقفاً فإني أتقدم إليه بأدب جم, كأن أضع يدي على رأسي قائلاً: السلام عليكم.. فداك روحي وأبي وأمي ومالي وكل ما لدي. وكأن أرتمي أحياناً على الأرض, وأنا أتصور أني أقبل أقدام الإمام عليه السلام طالباً منه حاجاتي, ملتمساً من محضره المقدس ما يعنيني من الأمور, ثم إني لا أدع مناجاتي معه ما لم أفز بالجواب, ويلهم قلبي أن الإمام عليه السلام قد رد تحيتي وسلامي.
تلكم الليلة.. قمت بهذا العمل, وإذ أني كنت قد أدركت خلال تلكم الأيام أن روحي ملوثة بالرذائل البهيمية.. فقد تعذبت كثيراً, وبكيت كثيراً.. التمس من إمامي الحبيب - فداه روح العالم- أن يهديني لأزكي نفسي, ويعينني لتخليصها من لوثة الرذائل و الأسواء.
قلت له: مولاي.. إن الله تعالى قد قال - في القرآن- على ألسنتنا نحن العصاة:
﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي﴾.[22]
من أنا؟! ما أنا.. لكي أتمكن بنفسي.. بقدرتي أن أنقذ نفسي من الأدناس؟!
أقسم عليك بحق عصمة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وبعظمتها أن تأخذ بيدي للفلاح.
وإذ أنا كذلك.. وجدت -على حين غرة- أن كل شيء من حولي قد أُضيء وتنور, حتى في أعماق وجودي أحسست نوراً يسطع. رأيت كل شيء كما لو أن زجاجة يسطع من ورائها نور الشمس, نور لا يعشي البصر, نور لا يمكن قياسه بالأنوار المادية, نور سابغ قد كسا كل شيء, نور ما فيه من حرارة تصدم المرء, إنه – بكلمة- نور مقدس لا يخفى عليه علم ولا معرفة ولا أي شيء.
خاطبته قائلاً: أيها النور القدسي! من أنت.. وما أنت؟ أترى يمكن أن تصيرني شفافاً مثلك؟ وأن تطهرني من الأدناس والظلمات و الحجب والصفات الحيوانية المرذولة؟
وجاءني الجواب (لا يذهبن بأحد الظن أنه أجابني بإيجاد صوت في الهواء حتى بلغ أذني, ذلك أن الموجات الصوتية المنتقلة عبر الهواء هي من مظاهر العالم المادي, إنما حدثني بلسان القلب, وسمعته أنا أيضاً بإذن القلب).
قال:
إن الله خلقني في الدنيا لهدايتك وهداية أمثالك, أنا ملاذك, أنا عصمتك من البلايا وحافظك من الأدناس.[23]
وعليك قبل هذا أن تكون عارفاً بي, ثم عليك أن تعرف نفسك.. لكي تقدر أن تزكي نفسك بطريق صحيح سريع, ولن توفق إذا لم تتخذني معلمك, ولم تقطع المراحل كما أعينها لك.
إلى هنا ختم النور المقدس كلامه, والحقيقة أني قد بدأت عندها أفقد التركيز. وأنكى من هذا أني – بما أنطوي عليه من الأدناس- لم أكن قادراً على أن أمضي بعيداً في هذا الأفق المعنوي.. واختتم الموضوع.
وإنكم لتعلمون أني قد صحوت بعدئذ من نوم غفلتي.. فلم يقر لي لحظة قرار. كنت متواصل البكاء, تحدوني رغبة للخلاص من الدنس بأي نحو من الأنحاء. ولعلكم لو كنتم في مكاني, أو لو أصغيتم إلى ما قلت بمزيد من الاهتمام لدخلتم أيضاً في حالة من الحنين, ولذرفتم - كما فعلت- سخي الدموع.
ولم لا يكون كذلك؟! ألا تراكم تصدقون آيات القرآن المجيد وما يدل عليه العقل المعافى السليم؟!
أترى أن على الإنسان أن يظل دائماً حبيساً في داخل بئر الطبيعة والمادية والبهيمية؟!
أينبغي للإنسان أن يظل نائماً في سكرته حتى ينتهي نومه بالموت؟!
أليس الله تبارك وتعالى قد كون الإنسان وخلقه له, لمناجاته, وليرتبط به ويعود باطنياً إليه؟!
ألم يصرح قرآن الله عز وجل أنه قد خلقه للعبادة؟![24]
فلم إذن.. كل هذه الغفلة؟!
لماذا كل هذا الإعراض منا عن تزكية الروح وتصفية النفس؟!
عسى الله (جل ذكره) أن يمن علينا بلطفه, فنفيق من رقدة الغافلين.
قال: سلخت أياماً.. أبكي وأتقلى: لا أدري أي سبيل أسلك, وأي شيء أصنع. حتى كانت ليلة رفعت فيها طرفاً من فرش غرفتي, ووضعت وجهي على تراب الأرض, أنوح وأبكي.. ملتمساً العفو عن ذنوبي وآثامي, مكرراً عبارات الاستغفار. بكيت حتى نقعت الأرض تحت وجهي بفيض الدموع.
أحسست عندها أني إنسان مطروح في صحراء, مغلول بالسلاسل والقيود, لا أستطيع القيام, ولم أدر كيف تذكرت فجأة عبارة من دعاء كميل, يقول فيها مولاي: (وقعدت بي أغلالي).
عندها اشتد بي الحزن والأسى.. فما كان مني إلا أن أطلقت صرخة ( يا صاحب الزمان) – رددتها مرات, ومرات لحظات معدودة.. فأحسست بعدها أن ذلكم الوجود القدسي إلى جواري. ما بالي كنت أعمى عنه, فلم ألحظه إلا الآن؟!
وقـــــلت: حـــبيبي سأبلـــغ يومــاً جمـــــال وصــالك.. ياملــــــهم
فــقال: انــــظرن جيداً؛ فلعلــــــــ ــك (واصل) مـن حيث لا تعلم!
وأقرب مـــني حبيبـــــــي إلــــي والأعجــــب أنـــــي عنه بعـــيد!
وأخيراً...
(أنت نفسك حجاب نفسك.. فانتفض يا حافظ).[25]
قلت: يا سيدي.. يا مولاي.. يا من كل العالمين فداء للتراب الذي يطؤه نعلاك. ما ضر لو أسعفتني؟! خلصني - في الأقل- من هذه السلاسل والقيود؛ فإني لا أستطيع, والحالة هذه, أن أخطو ولا أدنى خطوة تلقاء المعنويات والكمالات.
وفي لحظة تفطنت إلى أنه قد أصدر إلي أمراً بأن أدعو بدعاء: (يا من تحل به عقد المكاره).[26]
أما أنا.. فقد اعتدلت جالساً من لحظتي, وشرعت أناجي الله (تعالى) بهذا الدعاء. والتزمت أن أردد في وقت زوال الشمس (وقت الظهيرة) الإسم
(القدوس)[27] مئة وسبعين مرة.. حتى أفلحت في التحرر من عذاب القيود والأغلال.
ورد عن الإمام الرضا (ع)أنه قال: (من ذكر ( القدوس) مئة وسبعين مرة كل يوم, عند الزوال.. صفا قلبه, وكان في حفظ من شر النفس ووسوسة الشيطان). عن كتاب بحر الغرائب.
الشك المقدس والصحو من عالم الغفلة
يقول أحد السالكين:
سلخت خمسة وعشرين عاماً من عمري.. غافلاً, رغم أني قد أنفقت سنوات في الدراسة, أعيش لحظتي منغلقاً عليها, ولا يعنيني أمر الغد.. تماماً كما تفعل الأنعام, وكانت غفلتي إلى حد أن لو تحدث متحدث عن وجود القيامة والحساب والجنة والنار لما كلفت نفسي عناء أن أحتمل صدق ما يقول؛ إذا لم أكن أرى غير ما يمثل أمام عيني.
وقد جرت المقادير يوماً أن ألتقي – في مناسبة ما- بأحد العلماء العارفين. إذ تحدث في وقتها حديثاً مسهباً عن حقيقة الإنسانية, وعن الكمالات الروحية, والدنيا و الآخر. ولقد ألقى حديثه في قلبي بذرة التردد والشك: أتراه ممكناً أن يكون لكلامه حقيقة واقعية؟! ونمت البذرة في داخلي وبدأت تمد لها جذوراً, ما كان أسعد ما فعل هذا الشك في حياتي! إن كل ما لدي الآن من المعرفة الصائبة والحياة الإنسانية إنما هو مدين للحظة الشك تلك, ومن حينها أصبحت أعتقد أن الشك والتردد – في مثل هذه الحالة- مبعث السعادة والهناءة في الحياة. إن هذه الحالة تشبه إلى حد كبير حالة المريض الذي ينبهه ما يحسه من ألم إلى وجود مرض يبادر إلى علاجه قبل أن يستفحل ويقضي عليه. أو تشبه حالة الجائع الذي إذا لم يجد لذعة الجوع فإنه لا ينبعث إلى تناول الطعام, فيستولي عليه الضعف ويستبد به الهزال.. حتى يأتي على صحته وعلى حياته. وهكذا الشك والتردد في أمر ما: إذا لم تبذر بذرته في باطن الإنسان فإنه لن يندفع للبحث والدرس والتحقيق.
لقد كان أمري في هذا الشك القيم المقدس أمر المريض الذي تضطره آلامه إلى التفكير بالمعالجة.. فمضيت تلقاء البحث عن الحق والحقيقة, حتى بلغت – والفضل لله- ينبوع اليقين ووصلت إلى نور الهداية, وقد وجدت أن هذا من منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام؛ إذ يواجهون من استولت عليه الغفلة حتى أنكر وجود الله والمقدسات كافة.. بأن يزرعوا الشك فيما يعتقد, لتبدأ من بعد غرس الشك مرحلة التفكر والبحث لديه, ثم يأخذوا (صلوات الله عليهم) بيديه ليوصلوه من حالة الشك إلى مقام اليقين والاعتقاد الحق بوجود الله تعالى وسائر الحقائق والمعنويات.
وعلى أي حال.. فقد أحالني هذا الشك الذي نما في صدري إلى أن أقضي ليالي طويلة مسهداً لا يقر لي قرار.. أفكر في الحقائق والكمالات وفي الحياة الإنسانية السليمة المعافاة, حتى فزت بعدئذ باليقين, وبدأت أحس بالهدوء النفسي والسكينة الروحية.
وقد أصبت هذه السكينة وهذا اليقين على أثر مداومتي أياماً على تلاوة القرآن, ومطالعة بعض الكتب الاعتقادية النافعة, إذ قرأت في هذه الكتب: ليس العالم حلماً ولا خيالاً, ولم ينبع من تلقاء نفسه بعد أن كان عدماً, فالعقل يأبى قبول هذين الاحتمالين.. فلا بد إذن من وجود (أزلية), أي أن العالم هو هكذا منذ الأزل, أو أنه قد أوجده موجد صفته الأزلية, ولا يرتاب أحد في أن العالم غير أزلي؛ لأنه سيؤول إلى الزوال, أو أنه يتحرك – في الأقل- نحو الانحدار. وهذا يقضي إلى الاعتقاد بأن العالم (حادث).. كان بعد أن لم يكن. وإن ثمة وجوداً- من غير جنس هذا العالم الحادث – هو الذي خلق العالم وأوجده, وهذا الوجود الخالق الموجد.. هو الله.
ثم رحت أنظر في أقدار الكائنات الحية في هذا العالم: النبات منها والحيوان.. فاستبان لي أن لو ترك كل منها ينمو ويتكاثر بطلاقة تامة وبدون هيمنة عليه أو توجيه له.. لامتلأت به الكرة الأرضية على سعتها, ولباتت حياة الكائنات فيها ضرباً من المستحيل. لكن قوة قادرة غالبة من المهيمنة عليها الآخذة بناصيتها, لئلا يتجاوز شيء من الحيوان والحشرات والشجر والنباتات حده, ويتطاول على قدره, فلو أن بيوض الأسماك في أنهار الأرض وبحارها ومحيطاتها يفقس كلها, وينتج أسماكاً بهذه الأعداد الهائلة – بدون أن يصاب شيء من البيوض بالتلف- لما بقي في مياه الدنيا مكان تحيى فيه سائر كائنات البحر. ولو كانت بيوض أحد أنواع الحشرات بأجمعها مصونة من العطب, فتولد كلها حشرات تامة.. لضاقت الأرض بالإنسان ولما أمكنه العيش.
ترى.. أي قدرة هذه التي تهيمن على الكائنات وتنظم أقدارها؟ أي قوة هذه التي تعلم مقدار ما يحتاج إليه العالم من هذا الكائن أو ذاك بحيث ظل يحتفظ بعدده المقدر له آلافاً من السنين, بدون أن يكثر أو يقل؟ ترى.. ما أسم هذه القدرة العظيمة المهيمنة؟ وإذا لم تسم هذه القدرة القديرة بـ (الله).. فأي أسم أجمل من هذا يمكن أن تسمى به؟
ومهما يكن.. فإن هذه المعاني والأفكار كان لها الفضل في إخراجي من غفلتي. ومن هذا المنطلق أجدني مدفوعاً لأوصي كل أصحاب الغفلة أن يتفكروا في آثار خلق الله, وأن يروا آياته (جل جلاله) في كل شيء – إذا شاءوا أن يفيقوا من نوم الغفلة إلى الصحوة على الحق ووعي المعنويات.
[1] القرآن الكريم, سورة ق/الآية: 22.
[2] رحم الله امرءاً عرف قدره, وعلم من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟
[3] ( الصلاة قربان كل تقي) بحار الأنوار 99:10.
[4] ( الصلاة معراج المؤمن) عين الحياة: 201.
[5] ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) سورة العنكبوت, الآية: 45.
[6] قال الرضا عليه السلام: ( إن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا) (عيون أخبار الرضا عليه السلام الباب 26/ الحديث 22).
[7] سورة الزمر, الآية: 36.
[8] سورة الطلاق, الآية:3.
[9] سورة الأنبياء, الآية: 87.
[10] سورة الأنبياء, الآية : 88.
[11] إن الله (تبارك وتعالى) أوحى إلى داود : أشكرني حق شكري. قال: يا رب.. كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟! (جامع السعادات3: 242).
[12] سورة الحديد, الآية: 4.
[13] سورة ق, الآية:16.
[14] سورة المائدة, الآية: 120.
[15] سورة فصلت, الآية: 54.
[16] سورة الشمس, الآيتان: 7-8.
[17] سورة الشمس, الآيات: 1-9.
[18] عن أبي محمد عن أبي عبد الله (ع), قال: سألته عن قول الله (عز وجل): ( والشمس وضحاها). قال: (الشمس رسول الله (ص).. به أوضح الله(عز وجل) للناس دينهم).
تفسير البرهان 4: 467/ الحديث رقم (1).
[19] عن أبي محمد, عن أبي عبد الله (ع), قال: سألته عن قول الله (عز وجل): ( والقمر إذا تلاها). قال: (ذاك أمير المؤمنين (ع)). تفسير البرهان 4: 467/ الحديث رقم (1) أيضاً.
[20] عن أبي بصير, في قول الله (عز وجل): ( والنهار إذا جلاها): الحسن والحسين (ع) ينظر تفسير البرهان 4: 467/ الحديث (2).
[21] تشير أحاديث وردت في كتب معتبرة إلى جسمانية الروح, منها قول الإمام الصادق (ع): (الروح لا توصف بثقل ولا خفة, وهي جسم رقيق ألبس قالباً كثيفاً) بحار الأنوار 7:61.
[22] سورة يوسف/53.
[23] ورد في (دعاء الندبة): (أين السبب المتصل بين الأرض والسماء؟...خلقته لنا عصمة وملاذا).
[24] (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) سورة الذاريات, /56.
[25] هذا شطر من بيت للشاعر العارف حافظ الشيرازي (رحمة الله عليه).- (المترجم).
[26] هذا الدعاء العظيم هو الدعاء الثامن من أدعية الصحيفة السجادية المقدسة, وورد أيضاً في كتاب مفاتيح الجنان. وقد أعرضنا هنا عن إيراد نص هذه المناجاة الشريفة؛ لكثرة النسخ المتداولة من الصحيفة ومن مفاتيح الجنان.
[27] قال الشيخ إبراهيم الكفعمي العاملي (كتاب المصباح 318) في شرح ( القدوس) من الأسماء الحسنى: هو الطاهر من العيوب, المنزه عن الأضداد والأنداد والتقديس والتطهير. ومنه قوله (تعالى) عن الملائكة: (ونقدس لك) – أي ننسبك إلى الطهارة.
وسمي (بيت المقدس) بذلك؛ لأنه المكان الذي يتطهر (فيه) من الذنوب. وقيل للجنة: (حظيرة القدس)؛ لأنها موضع الطهارة من الأدناس والآفات التي تكون في الدنيا. – ( المترجم).