ســـورة الــقـمـر
قال تعالى : (خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر) ((256)) .
تـعد هذه الصورة التشبيهية واحدة من التشبيهات المذهلة في القرآن الكريم , اننا نعرف بأن التشبيه هـو مـا يـتـركب من ظاهرتين تنتج عنهما ظاهرة ثالثة , أو لنقل : هو احداث علاقة بين شيئين لا علاقة بينهما في دنيا الواقع , بيد أن هذه العلاقة لا تأخذ قاعدة خاصة بقدر ما تخضع للسياق الذي يـفرض رصدا لاوجه التشابه بين الظاهرتين , فقد يرصد وجه واحد من أوجه الشبه , بحيث يحقق الاثـارة الـفـنـية , و قد يرصد وجهان أو ثلاثة , أو حتى يمكن في حالات خاصة أن ترصد جميع الاوجه لدرجة التقارب أوالتماثل بين الظاهرتين , كما في قوله تعالى بالنسبة الى قضية مواراة أحد ابـنـي آدم , حـيث رصد الشبه بين مواراته و موارة الغراب للطائر على درجة من التماثل , حيث ان كـلـيـهـمـا مـن ذوي الارواح , و كليهما مقتول , و كليهما يوارى تحت التراب ... الخ . و المهم هو :
أن بعض التشبيهات يكتفى فيها رصد واحد من السمات , و بعضها أكثر, و بعضها غالبية السمات . هنا, في النص الذي نحن في صدده نواجه النمط الثالث من الرصد, حيث يمكن الذهاب الى أن هناك ما يقارب عشرة أوجه من الشبه بين الشخوص المنبعثين من قبورهم الى عرصة القيامة و بين الجراد المنتشر, و هذا ما يحقق مزيدا من الامتاع الفني حينما يرى المتلقي هذه الاوجه المتكثرة من الشبه بينهما, مضافا بطبيعة الحال و هذا هو الاهم الـى عـملية الرصد ذاتها بما تنطوي عليها من الاثارة .
و هذا ما يتطلب شيئا من التوضيح .فنقول : ان الموقف الاخروي كما هو بين من خلال النصوص القرآنية أو الحديثية التي تصفه بأشد ألوان الهول يـتطلب حينا صورة حسية مباشرة مثل الايات التي استهلت بها سورة الحج مثلا
(ان زلزلة الساعة ...الخ ) ((257)) و حينا آخر يتطلب صورة تركيبية كالتي نحن في صددها.
ان الظاهرة هنا ترتبط بقيام الساعة و خروج الناس من قبورهم على أثر نفخة الصور, و حينئذ فان الـهـول الـذي سـيـرافق مثل هذا القيام و الخروج من حيث المظهر الخارجي للعملية , أي خروج الاعداد الهائلة من البشرية , و هي أعداد لا يمكننا أن نرقمها احصائيا, لكثرتها المتمثلة في البشر جميعا منذ أن خلقوا و حتى قيام الساعة الذي نجهل وقته , مثل هذا المظهر لخروج البشرية جميعا مـن الـقـبور ليس من السهل أن نستحضر في أذهاننا مدى هوله , من حيث عملية الخروج في وقت واحد, و تجمعهم بعد ذلك في مكان واحد, و ما يرافق كلا من عمليتي الخروج و التجمع من الزحام , أو الطريقة التي ينتظمون خلالها أو...الخ . كل أولئك ليس من السهل استحضاره في الذهن بقدر ما يمكن أن نجدها عبر صورة مألوفة هي مظهر الجراد المنتشر, فكلنا, أو غالبيتنا, شاهد الاكداس مـن الجراد المتطايرهنا و هناك , والمتراكم هنا و هناك , مما لا يحصى عدده , و الطريقة التي تتم خـلالـهـاعـمـلـيـات الـتطاير و التراكم و الهبوط الى الارض .
فهناك عنصر الشبه بين عمليتي الانـبـعـاث بـيـن القبور و انتشار الجراد, من حيث المكان , و هوالارض , حيث تعدده هنا وهناك , ومـن حيث تطايره بعد ذلك , و من حيث الارتطام بين بعضه البعض , و من حيث عشوائيته أوضبابية تطايره ورحلته , و من حيث تراكمه بعد ذلك على الارض .
و أولـئك جـمـيـعا بما يواكبه من الاحاسيس التي من الممكن أن نتخيلها متواكبة مع عمليات البدء بالرحلة , و التطاير و الارتطام و الهبوط, تقرب لنا بوضوح مدى التماثل بين العمليتين خروج البشر و رحـلـتـه نـحو عرصات القيامة و بين الجراد المنتشر, مع ملاحظة أن المراءى نفسه مثير كل الاثـارة , بـما ينطوي عليه من اثارة الهول و الاضطراب والذهول من جانب , و بما يحققه من الاثارة الفنية من جانب آخر, من حيث رصدنا لدقائق الحادثة و خطوطها التفصيلية بالنحو الذي تقدم الحديث عنه .
قال تعالى : (انا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعـر)((258))
وقـال تـعـالـى : (انـا أرسـلـنـا عليهـم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) ((259)) .
أمامنا تشبيهان أو صورتان , احداهما وردت في رسم العقاب لمجتمع عاد,والاخرى لمجتمع ثمود.
الصورة الاولى ورد فيها التشبيه بأداة (كأن ), و الاخرى بأداة (الكاف ). الاولى رسمت مصائرهم مـن خـلال تـشبيهها بعجز النخل المنقعر, والاخرى بهشيم المحتظر, الاولى : وسيلتها الريح , و الاخرى وسيلتها الصيحة .
هـذه المقارنات بين المجتمعين , والعقابين و وسيلتهما و اءدوات الرسم فيهما, تظل ضرورية نظرا لانـطـوائهـا عـلى سمات فنية لها اثارتها الكبيرة , كما سنرى بالنسبة لادوات التشبيه . و أدوات التشبيه الثلاثة المباشرة (الكاف ) (كأن ) (مثل ) تنطوى كل واحدة منها على وظـيـفـة فنية , من حيث درجة التشابه التي تمثلها هذه الاداة . فالاداة تمثل تجسد النسبة العالية من التشابه بين الطرفيين , و الاداة الكاف تمثل الدرجة المتوسطة , و الاداة كأن تمثل الدرجة الاقل من التشابه بين طرفي الصورة .
والـمـلاحـظ فـي الـصـورتين اللتين نحن في صددهما, أن الاولى قد استخدم فيها الاداة كأن , و الاخـرى استخدمت فيها الكاف , مما يعني أن درجة التشابه بين طرفي الصورة في الاولى أقل منها في الثانية , و هذا ما يمكن توضيحه على هذا النحو. لقد شبهت الصورة الاولى مصائر القوم بأعجاز نـخـل منقعر, بينا شبهت في الثانية بهشيم المحتظر, أي أن التشابه بين مصائر القوم و بين أعجاز الـنـخل المنقعر في الصورة الاولى تظل متماثلة من حيث علاقة نمط العقاب بالمصائر, فالريح التي أرسلت عليهم لم تمحقهم بدرجة عالية جسديا بقدر ما جعلت رؤوسهم تنقطع عن أبدانهم , و هذا ما أوضحته الصورة نفسها حينما قالت ((تنزع الناس كاءنهم أعجاز نخل منقعر)) بمعنى أنها تقتلعهم و تـرمـي بـهم على رؤوسهم فتدق رقابهم كما ورد في التفسير, بينا نجد الصورة الثانية ترسمهم مهشمين جسديا بحيث أصبحوا كحطام الشجر, و ليس كأصوله , و الفارق واضح بين الصورتين .
و الـمـهم هو درجة التشابه و صلتها بالاداة حيث تتضح النسبة المألوفة أو المتوسطة التشابه من خلال الصورة البشرية و الشجرية الاولى , حيث أن رصد العلاقة بينهما لاتصل الى درجة التماثل بقدر ما اقتطع النص زاوية مثيرة من التشابه , هي فصل جزء من الشجرة عن أصلها, و هذا ما عنيناه فـي مقدمة هذ القراءة عندما قلنا : ان المهم ليس هورصدأءوجه التشابه من الظاهرتين من زواياهما جميعا, بل الرصد لما هو مطلوب من الوجه الذي يلح النص عليه و يستهدفه , و هذا الرصد قد يكون واحدا من وجوه التشابه واثنين أو أكثر, حسب ما يتطلب الموقف .
و هـنـا قـد تـطلب الموقف رصد عملية الفصل بين رؤوس القوم و اءجسادهم , فاتجهت الصورة الى أعجاز النخل المنقعر, أما بالنسبة الى الصورة الاخرى فقد تطلب الرصد أن يكون لاكثر من وجه مـن وجوه التشابه بين مصائر القوم والهشيم المحتظر, بسبب أن الصيحة غير الريح , فالريح مهما كـانـت عـقيمة لا تهشم الشيء بل تذروه . مثلا, بعكس الصيحة , و ((صيحة جبرئيل (ع )), حيث تجسد عملية تحطيم للظاهرة , و لذلك وردت الصورة متوكئة على أداة الكاف , و التي تمثل الدرجة الـمألوفة في التشابه , و ليس الدرجة الاقل كالصورة الاولى و أداتها ((كأن )), فجعلتهم كحطام الشجر و ليس كأصوله , و الفرق واضح بين الشجر المحتفظ بأصوله و الشجر المحطم اصولا, و هـذا واحـد مـن الـمـلامح الفنية المدهشة لهاتين الصورتين اللتين تتحدثان عن مجتميعن منحرفين تـعـرض أحدهما لعقاب (الريح ) , و الاخر لعقاب الصيحة , فجاء التشبيهان لمصائرهما متماثلين من جـانـب من حيث ابادتهما, و متمايزين من جانب آخر من حيث المظهر الخارجي للابادة , حيث فصلت الاجـسـام عـن الـرؤوس في الصورة الاولى , و هشمت الاجسام في الصورة الاخرى , تبعا لنمطي العقاب و انعكاس ذلك على الاداة التشبيهية بالنحو الذي أوضحناه .
256- القمر / 7 .
257- الحج / 1 .
258- القمر / 20
259- القمر / 31 .
مجمع البحوث الإسلامية