السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وجدنا من الأهمية بمكان وبعد أن كثُر التساؤل حول دعاء قاموس ( السيفي الصغير ) في معانيه وفضائله أن نضع بين أيديكم الكريمة شرحاً موجزاً للدعاء حتى نقف معاً على محاسن كلم أهل البيت ( عليهم السلام ) وجميل بلاغتهم ، ولسبر أغوار الدعاء و تبياناً لمعانيه ولطائفه ، وزيادةً في التأمل والتفكر ولرفع الإلتباس والغموض . وقد أرفقنا بعض مآثر أهل البيت ( عليهم السلام ) من أدعيتهم عقب بعض المقاطع من دعاء قاموس لإستيضاح التشابه الوارد في لغة الدعاء عند أهل البيت ( عليهم السلام ) .
قال الشيخ عباس القمي في (( مفاتيح الجنان )) حول دعاء قاموس : ذَكَره الشّيخ الاجلّ ثقة الاسلام النّوري عطّر الله مرقده في الصّحيفة الثّانية العلويّة *، وقال: انّ لهذا الدّعاء في كلمات أرباب الطّلسمات والتسخيرات شرح غريب وقد ذكروا له آثاراً عجيبة، وَلَم أروِ ما ذكرُوه لعدم اعتمادي عليه ولكن اُورد أصل الدّعاء تسامحاً في أدلّة السّنن وتاسّياً، بالعلمآء الاعلام ، وهو هذا الدّعاء :
(( بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ اَدْخِلْني في لُجَّةِ بَحْرِ اَحَدِيَّتِكَ ، وَطَمْطامِ يَمِّ وَحْدانِيَّتِكَ ، وَقَوِّنى بِقُوَّةِ سَطْوَةِ سُلْطانِ فَرْدانِيَّتِكَ ، حَتّى اَخْرُجَ اِلى فَضاءِ سَعَةِ رَحْمَتِكَ ، وَفي وَجْهي لَمَعاتُ بَرْقِ الْقُرْبِ مِنْ آثارِ حِمايَتِكَ ، مَهيباً بِهَيْبَتِكَ عَزيزاً بِعِنايَتِكَ مُتَجَلِّلاً مُكَرَّماً بِتَعْليمِكَ وَتَزْكِيَتِكَ ، واَلْبِسْنى خِلَعَ الْعِزَّةِ وَالْقَبُولِ وَسَهِّلْ لى مَناهِجَ الْوُصْلَةِ والْوُصُولِ ، وَتَوِّجْني بِتاجِ الْكَرامَةِ وَالْوَقارِ ، وَاَلِّفْ بَيْني وَبَيْنَ اَحِبّائِكَ فى دارِ الدُّنْيا وَدارِ الْقَرارِ، وارْزُقْنى مِنْ نُورِ اسْمِكَ هَيْبَةً وَسَطْوَةً تَنْقادُ لِيَ الْقُلُوبُ وَالاَْرْواحُ ، وَتَخْضَعُ لَدَيَّ النُّفُوسُ وَالاْشْباحُ، يا مَنْ ذَلَّتْ لَهُ رِقابُ الْجَبابِرَةِ وَخَضَعَتْ لَدَيْهِ اَعْناقُ الاْكاسِرَةِ لا مَلْجَاَ وَلا مَنْجى مِنْكَ إلاّ اِلَيْكَ، وَلا اِعانَةَ إلاّ بِكَ وَلاَ اِتّكاءَ إلاّ عَلَيْكَ، ادْفَعْ عَنّي كَيْدَ الْحاسِدينَ وَظُلُماتِ شَرِّ المُعانِدينَ وأرْحَمْني تَحْتَ سُرادِقاتِ عَرْشِكَ يا اَكْرَمَ الاَْكْرَمينَ اَيِّدْ ظاهِري في تَحْصيلِ مَراضيكَ وَنَوِّرْ قَلْبي وَسِرّي بالاِْطِّلاعِ عَلى مَناهِجِ مَساعيكَ ، اِلهي كَيْفَ اَصْدُرُ عَنْ بابِكَ بِخَيْبَة مِنْكَ وَقَدْ وَرَدْتُهُ عَلى ثِقَة بِكَ، وَكَيْفَ تُؤْيِسُني مِنْ عَطائِكَ وَقَدْ اَمَرْتَنى بِدُعائِكَ وَها اَنَا مُقْبِلٌ عَلَيْكَ مُلْتَجِيٌ اِلَيْكَ باعِدْ بَيْني وَبيْنَ اَعْدائي، كَما باعَدْتَ بَيْنَ اَعْدائي اِخْتَطِفْ اَبْصارَهُمْ عَنّي بِنُورِ قُدْسِكَ وَجَلالِ مَجْدِكَ اِنَّكَ اَنْتَ اللهُ المُعْطي جَلائِلَ النِّعَمِ الْمُكَرَّمَةِ لِمَنْ ناجاكَ بِلَطائِفِ رَحْمَتِكَ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ يا ذَا الْجَلالِ وَالاِْكْرامِ، وَصَّلى اللهُ عَلى سَيِّدِنا وَنَبِيِّنا مُحَمَّد وَآلِهِ اَجْمَعينَ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ )) .*
(( الصحيفة العلوية الثانية . للشيخ النوري الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي بن ميرزا علي محمد الطبرستاني المتوفى 1320 و هي مشتملة على 103 دعاء )) .
- شرح الدعاء : -
==========
(( بسم الله الرحمن الرحيم ))
تعتبر البسملة في دعاء قاموس جزء لا يتجزأ من كلمات الدعاء وأسراره فلا يكتمل الدعاء بطاقاته وآثاره الروحية دون البسملة ، بل أن تركها هو القصور بذاته بتمام وكمال الآثار الروحية لدعاء السيفي الصغير ، كما أن آثار البدء بالبسملة في الدعاء تدفع كل تداخلات قد ترد أثناء قراءته وتحول دون تحقق آثاره الروحية .
(( رَبِّ اَدْخِلْني في لُجَّةِ بَحْرِ اَحَدِيَّتِكَ ))
- بدء الدعاء بـ ( ربَّ ) يحمل معنى الإيمان المطلق بالملك والتدبير والربوبية لله وحده عز وجل لا شريك له ، وأن الطلب لا يُستجاب والمسألة لا تُقضى إلا عند رب العزة والجلال . ولُجَّةُ البَحْر: أي لا يُدْرَكُ قَعْرُه . ولُجُّ البحرِ: عُرْضُه؛ قال: ولُجُّ البحرِ الماءُ الكثير الذي لا يُرَى طرَفاه ، وذكر ابن الأَثير في هذه الترجمة : وفي الحديث : من ركب البحر إِذا التَجَّ فقد بَرِئَتْ منه الذِّمَّةُ أَي تَلاطَمَتْ أَمْواجُه . (( أو كظلمات في بحر لجيّ )) (النور:40 ) والبحر اللجّي هو البحر المتردّد أمواجه منسوب إلى لجّة البحر وهي تردّد أمواجه ( تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي ت 1401 هـ ) ، و (( الأحد )) لا مثيل له فلا يشركه فيها غيره , ولهذا لاينعت به غير اللّه تعالى (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )), فلا يقال :رجل أحد و لا درهم أحد , ونحو ذلك .
[ وجاء في حقيقة سورة التوحيد لبيانها وجوه كثيرة لا يدخل حصرها تحت علمنا وإنما نتكلم عليها بما يحضرنا حال الخط مما نعرف مما أذن ببيانه فنقول قد قام الإجماع ودلت النصوص بأن بسم الله الرحمن الرحيم آية منها فتدخل في المسئول عنها حيث علم بالنص أن هذه السورة تسمى نسبة الرب كما رواه في التوحيد عن الصادق عليه السلام : (( أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا أنسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت قل هو الله أحد )) . ] ( من كتاب رسالة في حقيقة سورة التوحيد ) .
(( وَطَمْطامِ يَمِّ وَحْدانِيَّتِكَ ))
و ((الطَّمْطامُ )) : أي وَسَطُ البَحْرِ. وأن كلمة "بحر" في كل من العربية والعبرية تعني (( يم )) . والوحدانية صفة من صفات الله عز وجل ، والواحد وهو المنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله ، وهو الواحد في ذاته لا يتجزأ أو لا يتناهى . سأل أبو هاشم الجعفري الإِمام الجواد ( عليه السلام ) قال : ما معنى الواحد ؟ فأجابه ( عليه السلام ) : ( الذي اجتَمَعَت الأَلْسُن عليه بالتوحيد ، كما قال الله عزَّ وجلَّ (ولَئِنِ سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيقُولُنَّ اللهُ ) لقمان : 25 .
والفرق بين الواحد والأحد هو (( وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد غير أن الأحد إنما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإن كل واحد له ثانياً وثالثاً إما خارجاً وإما ذهناً بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيراً، وأما الأحد فكل ما فرض له ثانياً كان هو هو لم يزد عليه شيء )) تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق ، كما جاء في شرح الأسماء الحسنى للملا هادي (( اَللّهُمَّ اِنّي اَسئَلُكَ بِإسمِكَ يا اَحَدُ، يا واحِدُ)) "الأحديّة": البساطة وانتفاء الجزء عنه و "الواحديّة" الفرديّة وعدم الشريك له .
وجاء تفسير { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } خطاب من مقام الأحديّة ولذلك أتى باسمه الخالص من شوب الصّفات اوّلاً وهو لفظ هو بخلاف قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ، و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ، وامثال هذين.(( تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)) ، وعليه فإن الفرق بين الأثنين وفي أبسط صورها أن الواحد أي لا شريك له ، و يمكن القول أن الأحد عقيدة والوحدانية أقرب للجانب العملي ، وتوحيده من قبل الموحدين عملاً .
والمعنى في هذا المقطع (( رَبِّ اَدْخِلْني في لُجَّةِ بَحْرِ اَحَدِيَّتِكَ وَطَمْطامِ يَمِّ وَحْدانِيَّتِكَ )) طلب المؤمن من ربه أن يدخله بأغوار حقيقة معرفته والتصديق به حتى التوحيد الخالص الذي يوصله لليقين الكامل . والإيمان بأن الله هو المؤثر الوحيد أي الإيمان بأن كل قدرة وإرادة هي صادرة عن الواحد الأحد . جاء في دعاء يستشير (( وأشهد بأنك أنت الله الواحد الأحد المتفرد الصمد الفرد وإليك المصير )) ، والوصول لهذا المقام لا يتأتي دون ولاية الأئمة وخلفاء أمير المؤمنين عليه السلام بالحق وولده من الزهراء البتول ( عليهم السلام ) فمن أراد الله بدأ بكم ومن وحده قبل عنكم ( الزيارة الجامعة ) . وسيتم شرح العلاقة بين التوحيد والإمامة في مقام آخر .
(( وَقَوِّنى بِقُوَّةِ سَطْوَةِ سُلْطانِ فَرْدانِيَّتِكَ ))
( السطوة ) من السَّطْوُ: القهر بالبطش . والسَّطْوة المرَّة الواحدة، والجمع السَّطَوات. ( لسان العرب ) . السين واللام والطاء أصلٌ واحدٌ، وهو القوّة والقهر. من ذلك السَّلاطة، من التسلط وهو القَهْر، ولذلك سمِّي السُّلْطان سلطاناً.(مقاييس اللغة) والسُّلْطانُ الوالي، وهو فُعْلان، يذكر ويؤنث، والجمع السَّلاطِينُ. والسُّلْطان والسُّلُطانُ: قُدْرةُ الملِك، يذكر ويؤنث . وقال ابن السكيت: السلطان مؤنثة، يقال: قَضَتْ به عليه السُّلْطانُ، وقد آمَنَتْه السُّلْطان. قال الأَزهري: وربما ذُكِّر السلطان لأَن لفظه مذكر، قال اللّه تعالى: بسُلْطان مُبين. وقال الليث: السُّلْطانُ قُدْرةُ المَلِك وقُدرةُ مَن جُعل ذلك له وإِن لم يكن مَلِكاً، كقولك قد جعلت له سُلطاناً على أَخذ حقِّي من فلان، والنون في السلطان زائدة لأَن أَصل بنائه السلِيطُ. وقال أَبو بكر: في السلطان قولان : أَحدهما أَن يكون سمي سلطاناً لتَسْلِيطِه، والآخر أَن يكون سمي سلطاناً لأَنه حجة من حُجَج اللّه . (لسان العرب)
والفردانية من أسم الفرد لفرد سبحانه المتفرد بالربوبية والأمر دون خلقه ، ومعنى ثان أنه موجود وحده لا موجود معه . والمعنى هو طلب القوة من أصلها وهي الفردانية التي ظهر عنها القهر والسلطة المتصفة بالسطوة .
رُويَّ عن الإمام علي ( عليه السلام ) في خطبة له عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة : (( وَإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ إِلَّا مَا حَفِظَ اللَّهُ مِنْهَا وَإِنَّ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِكُمْ فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مُلَوَّمَةٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ بِهَا وَاللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَا يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً حَتَّى يَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِكُمْ )) .
قال الشّيخ في المصباح : روى المُعلّى بن خنيس عن الصادق (عليه السلام) انّه قال : قُل في رجب : (( يا مَنْ تَوَحَّدَ باِلْمُلكِ فَلا نِدَّ لَهُ في مَلَكُوتِ سُلْطانِهِ، وَتفَرَّدَ بِالاْلاء وَالْكِبرِياءِ فَلا ضِدَّ لَهُ في جَبَرُوتِ شَانِهِ، يا مَنْ حارَتْ في كِبْرِياءِ هَيْبَتِهِ دَقائِقُ لَطائِفِ الاَْوْهامِ .. )) .
(( حَتّى اَخْرُجَ اِلى فَضاءِ سَعَةِ رَحْمَتِكَ ))
حَتَّى: فَعْلَى، وهي حرف ، تكون جارَّةً بمنزلة إلى انتهاء والغاية . فإنْ أدخلتَها على الفعل المستقبل نصبتَة بإضمار أَنْ، تقول: سِرْتُ إلى الكوفة حتَّى أدخلَها، بمعنى إلى أَنُْ أدخلها . (الصّحّاح في اللغة) ، وعليه تأتي بمعنى ألهي أدخلني في حقيقة التوحيد إلى أن أخرج لفضاء رحمتك الواسعة .
و رُويَّ عن الإمام زين العبادين (عليه السلام): «لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال : شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله (صلى الله عليه و آله)، وسعة رحمة الله » ( البحار ج 78 ص 159 ) .
والخروج إلى سعة رحمة الله عز وجل الواسعة يستوجب شرط الدخول في إفراد الله عز وجل بالوحدانية المطلقة الخالصة واليقين المحض ، فكما كان الدعاء (( رَبِّ اَدْخِلْني في لُجَّةِ بَحْرِ اَحَدِيَّتِكَ )) فسينتهي إلى الخروج إلى سعة رحمة الله جل جلاله التي لا تنتهي . فتنعّم المؤمن بسعة رحمة الله عز وجل تنفي الحدودية وأن كل ما كتب عليه رحمة مصدرها الرحمن الرحيم وحصول هذه النعم هي الغاية التي أنتهى لها المؤمن من الإخلاص واليقين ، ونشير هنا لمواطن رحمة الله عز وجل ومنها دين الإسلام والنبوة والإمامة والولاية والقرآن الكريم والجنة والمطر والنعمة والرزق والنصر والعافية والمودة والإيمان ...ألخ ، ومع كل هذه الخصوصية لطالب الدعاء من المؤمنين بإخراجه لفضاء سعة رحمته نجد أن خلق الله ينعمون بهذه الرحمة ورعاية الله فحاكميته تقوم على أساس الرّحمة والرّحمانية وهذا المبدأ يشكّل المحور الأساس لنظام رعاية العالم . (( كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإِنسان وحيداً في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات ، فلا يرسل إِليه قائداً ومرشداً يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه ، وعليه فإِن حكمته ورحمته توجبان إِرسال الرسل وإِنزال الكتب السماوية )) . ( تفسير الأمثل : ج4 ) .