بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات ـ بأجمعها ـ للّه وتسبيحها له سبحانه.
وبعبارةٍ أُخرى فإنّ القرآن الكريم يُخبرنا ـ وفي صراحةٍ كاملةٍ ـ أنّ جميع أجزاء العالم ـ بدءاً من الذرّة حتى أعظم مجرّة ـ تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى، هي:
1. السجود للّه تعالى.
2. حمده وتمجيده عزّ شأنه.
3. تسبيحه وتنزيهه سبحانه.
وكأنّ الكون بأسره: «كتلة واحدة» من الخضوع والخشوع، والشعور والإحساس والوعي.
أو كأنّ الكون ـ بجميع أجزائه وذرّاته ـ لسانٌ واحدٌ ينطق بحمد اللّه، ويلهج بثنائه، وقلبٌ واحدٌ ينبض بتمجيده، ويؤدّي السّجود له.
والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضحٌ.
أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.
وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخّص في أنّ الحمد تمجيدٌ للّه وثناءٌ عليه بالجميل الاختياريّ، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تُنزهّه عن أيّ نقصٍ وعيبٍ.
ذرّات الكون بأجمعها تسجد للّه
طرح القرآن الكريم قضية «سجود الكائنات بأسرها للّه» في صورٍ مختلفةٍ. ففي بعض الآيات، تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصّة إذ قال:(وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ والآصَالِ).
ففي هذه الآية أُشير إلى سجود الموجودات العاقلة خاصّة، بدلالة لفظة (مَن) في قوله (وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ) مع العلم بأنّ (مَن) تستعمل في العقلاء.
وبما أنّ الآية تُخبر عن سجود الموجودات العاقلة كلّها بلا استثناء، فلا يُمكن حملها على السجود التشريعيّ الصادر من المؤمنين لأجل امتثال أمر إلههم، لأنّه من الواضح عدم عموميّة هذا النّوع من السجود لكلّ من له عقلٌ وفكرٌ، فإنّ كثيراً من النّاس يتركون عبادة ربّهم والسّجود له، فعندئذٍ يجب تفسير الآية بالسّجود التكوينيّ الذي سنبيّن مفاده.
وقد أُشير إلى هذا النوع من السجود، أعني: سجود العقلاء، أيضاً في سورة النّحل إذ يقول: (وَللّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّموَاتِ و ما فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّة وَالْمَلاَئِكَةُ)؛والشاهد فيها هو سجود الملائكة. وفي سورة الحجّ إذ يقول:(أَلَمْ تَرَ أَنْ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ).
2- محلّ الاستشهاد هو قوله سبحانه: (وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّماواتِ) باعتبار لفظ «من»، وإن كانت لفظة «وظلالهم» دالّة على سجود الموجودات غير العاقلة أيضاً، لكن بهذا الاعتبار تدخل الآية في الطائفة الرابعة الآتية.
وفي طائفة أُخرى من الآيات تحدّث القرآن عن نطاقٍ أوسع للسجود، فتحدّث عن سجود كلّ الدواب، إذ يقول ـ كما في الآية المتقدّمة:(وَللّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّة).
ثمّ تحدّث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار، إذ قال: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان).
ثم تحدّث رابعاً عن سجودٍ أكثر شمولاً، إذ قال وهو يُخبر عن سجود ظلال الأجسام:(أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْء يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ).
وقد تقدّم في التعليقة السابقة دلالة قوله: (وَظِلالُهُمْ) على مفاد هذه الآية أيضاً.
وتحدّث خامساً عن سجود الشّمس والقمر والكواكب والجبال والشّجر والدواب، إذ يقول:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ).
فهذه النّصوص القرآنية تفيد بأنّ السجود ظاهرةً عامّةً، وحالةً تشمل كلّ أجزاء هذا الوجود دون أن تختصّ بشيءٍ معيّنٍ.
إنّ ما هو المهم ـ هنا ـ هو فهم حقيقة هذا السّجود، وكيف أنّ هذه الموجودات أجمع (عاقلها وغير عاقلها) تظهر الخضوع أمام اللّه وتسجد له سبحانه.
ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون؟
يؤدّي الإنسان عمل السجود ـ عادة ـ بالهوي إلى الأرض، ووضع الجبين أو الذقن على التراب، وإلى هذا يُشير القرآن الكريم، إذ يقول:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للاذْقَانِ سُجَّداً).
وهذه الهيئة ـ ما هي في الحقيقة ـ إلاّ الشّكل الظاهريّ للسجود، ولكن جوهرها وروحها هو « إظهار غاية التذلّل والخضوع أمام المعبود.
وهنا ينطرح هذا السؤال وهو:هل يلزم ـ في السجود ـ وجود هيئة خاصة بحيث لا يصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلك الصورة الخاصّة، أو أنّ ملاك السّجود هو مجرّد إظهار الخضوع، فإذا تحقّق ذلك، تحقّقت حقيقة السّجود وصحّ إطلاق لفظة السّجود على ذلك المورد دونما إشكال، حتى وإن لم يكن في البين تلك الهيئة الخاصّة، حتى أنّ إطلاق السجود على الهيئة الخاصّة ليس إلاّ باعتبار أنّ تلك الهيئة تحكي في نظر العرف عن غاية التواضع ومنتهى الخضوع، وباعتبار أنّها ـ في الحقيقة ـ طريقٌ إلى إظهار الصَغار والتذلّل أمام المعبود؟
الحقّ أنّ القرآن يختار في هذه المسألة الطريق الثاني، بمعنى أنّ السجود في نظر القرآن الكريم هو إظهار التذلّل والخضوع في أيّة صورةٍ تحقّق وفي أيّ شكلٍ وقع.
قال الراغب الأصفهانيّ في مفرداته: «السجود أصله التطامن والتذلّل، وجعل ذلك عبارة عن التذلّل للّه وعبادته، وهو عامٌّ في الإنسان والحيوان والجماد، وذلك ضربان : سجودٌ باختيار، وليس ذلك إلاّ للإنسان. وسجود تسخيرٍ، وهو للإنسان والحيوان والنبات، حتى فسّر قوله تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)، بقوله متذلّلين منقادين». وعلى ذلك فاحتمال أنّ السجدة مختصّةٌ بالهيئة المخصوصة، واستعمالها في
غيرها مجازٌ، بعيدٌ، كاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا نُدرك الخضوع والسجود من الموجودات غير الشاعرة، لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذي هو أبعد، لكونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفسها، لا أنّ الغير يُدرك ذلك منها من دون أن توجد حقيقة السجود في ذواتها.
على أنّ العرف والعقل هما أيضاً اختارا هذا الطريق (أي عدم الخصوصية) في أمر استعمال الألفاظ.
حقيقة سجود الكائنات
جميع الكائنات في هذا الوجود، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع للّه، وبنحوٍ خاصٍّ.
وإنّ أعلى مظاهر ذلك الخضوع، والتذلّل للّه هو كون العالم بأسره تحت أمره سبحانه وفي قبضته، وهو كونها ـ دون استثناء ـ مطيعة له تعالى، ومؤتمرة بأوامره، وخاضعة لمشيئته المطلقة.
وبتعبيرٍ آخر: إنّ علامة هذا الخضوع الكونيّ الشامل هو: سيادة الإرادة الواحدة على الكون برمّته واتّباع كلّ أجزاء هذا العالم لتلك الإرادة العليا الواحدة دون مقاومة، أو تمرّد، ودون طغيان أو تردّد.
وبناء على هذا لا يمكن تصوّر أيّ نوعٍ من «الإكراه والكراهية» في السجود بهذا المعنى، ونعني به: الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهيّة النافذة في مجال التكوين.
إذ «الإكراه» إنّما يتصور عندما يملك الشيء إرادة واختياراً من نفسه، ليتمكّن من معاندة المكره ومقاومته، ومخالفة أمره، في حين لا يملك أيّ واحدٍ من هذه الكائنات «وجوده» دون الاستناد إلى اللّه، فكيف يُمكن لها ـ والحال هذه ـ أن تُخالف مشيئة اللّه، ويصدق عليها أنَّها مكرهة في سجودها أمام العظمة الإلهيّة، وخضوعها أمام المشيئة الربّانية؟
السجود الطوعيّ والإكراهيّ
إذا كان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة اللّه ومشيئته، فلا معنى لتقسيمه إلى الطوعيّ والإجباريّ، مع أنّا نرى القرآن الكريم يُثبت للإنسان ولغيره من ذوي العقول نوعين من السجود، إذ يقول: (وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً).
سجودٌ عن طواعيةٍ ورغبةٍ.
وسجودٌ عن كراهيةٍ وإجبارٍ.
وفي هذه الصورة لابد أن نختار لهذين النوعين من السجود معنى آخر غيرما سلف، فنقول: إنّ المُراد بـ «السجود الطوعيّ» هو قبول تلك الحالات الملائمة للطبع البشريّ، أو لطبع أيّ موجودٍ آخر، كالنموّ، ودوران الدم، وضربان القلب، بينما يكون المقصود بـ «السجود الإجباريّ» هو قبول تلك الحالات المُنافية للطبع، كالموت والبلاء والمحنة، التي تقضي على الإنسان أو الحيوان قبل حلول أجله الطبيعيّ.
والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم استعمل هاتين اللفظتين: «طوعاً وكرهاً» في مورد سجود السماوات والأرض، ومن الطبيعي أنّ المقصود من ذلك هو ما قلناه كذلك.
فمُراد اللّه من خطابه للسماوات والأرض إذ يقول لهما: (ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) هو دعوة السماوات و الأرض إلى أن تقبل أي نوع من التغيّرات والتبدّلات والحالات سواء أكانت ملائمة لطبعها أم لا؟...
فهل ترى يجوز للإنسان ـ وهو يجد جميع الكائنات حتى ظلالها تسبِّح للّه وحده، أنْ يُشرك في سجوده، أو يمتنع من الخضوع أمامه تعالى، وله يسجد كلّ ما عداه؟!
وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصيلٍ أكثر عن تسبيحها وحمدها للّه وتمجيدها له سبحانه.
كيف يكون الحمد والتسبيح الكونيّان؟
كلّ الكائنات ـ في هذا الوجود ـ تُسبّح للّه، وتحمده، وتمجّده.
هذه ـ كما قُلنا ـ حقيقةٌ نطق بها الكتاب العزيز في أكثر من موضعٍ.
وقد مرّ أنّ الحمد يعني ثناء الموجودات على اللّه، لأجل أفعاله الجميلة وكمالاته الاختياريّة، وأنّ التسبيح يعني تنزيهه عن كلّ عيبٍ ونقيصةٍ، وبالتالي وصف اللّه بالتنزيه عن الصفات السلبيّة التي لا تليق بشأنه.
وحيث إنّ بعض الآيات ذكرت كلا اللفظين في مكانٍ واحدٍ، لذلك سنبحث عنهما في مقامٍ واحدٍ أيضاً دون تفريق.
وسنذكر كلّ الآيات الواردة في هذا الباب في ما يأتي.
1. ربّما عرض القرآن موضوع تسبيح الموجودات في نطاقٍ واسعٍ، واعتبره أمراً عامّاً، وحالةً شاملةً لكلّ الكائنات، بلا استثناءٍ، عندما يقول: (سَبَّحَ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ولفظة (ما) على العكس ممّا يتصوّره البعض، تستعمل في العاقل وغيره، والمقصود ـ هنا ـ في هذه الآية هو كلّ موجودٍ وكائنٍ في السّماوات والأرض.
وعلى هذا الغرار أيضاً كلّ ما جاء في المواضع التالية من القرآن:(سَبَّحَ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
(سَبَّحَ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(يُسَبِّحُ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِالْحَكِيمِ).
(يُسَبِّحُ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).
على أنّ أشد آيةٍ صراحةً في هذا الشأن هو قوله تعالى:(تُسَبِّحُ لَهُ السَّموَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تحمل في ذيلها دليل ما ادّعيناه وهو قوله:(ولكِنْ لا تَفْقَهوُنَ تَسْبِيحَهُمْ).
وهي عبارةٌ تكشف عن أنّ التسبيح العامّ أمرٌ واقعٌ وكائنٌ، ولكنّ البشر لا يفقه ذلك.
2. وربّما تحدّث القرآن عن تسبيح الملائكة بالصراحة تارةً، وبالكناية تارةً أُخرى، إذ يقول: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
وقد ورد الإخبار بتسبيح الملائكة في آياتٍ أُخرى غير هذه الآية أيضاً، وهي:(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون).
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ).
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ).
(فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْئَمُونَ).
(وَتَرَى المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
3 . وربّما ذكر القرآن ـ بعد الاخبار عن عموم التسبيح ـ تسبيح الطير إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمواتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).
إنّ الإمعان في هذه الآية يُفيد أنّ القرآن الكريم ينسب «العلم والوعي» إلى الفريق المسبِّح، ويُصرّح بأنّ كلّ واحدٍ من هذه الموجودات يعلم تسبيح نفسه، بمعنى أنّ ما يقع منها من تسبيحٍ يقع عن وعيٍ وشعورٍ بذلك، إذ يقول:(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)]أي كلّ واحدٍ من الموجودات العاقلة والطير.
وقد ورد تسبيح الطير في آياتٍ أُخرى، وهي:(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإشْرَاقِ*وَالْطَيْرَ مْحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ).
4. وفي آيات أُخرى صرّح القرآن الكريم بتسبيح الجبال في أوقاتٍ خاصّةٍ معيّنةٍ، إذ يقول:(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ).
وقد جاء تسبيح الجبال في آياتٍ غير هذه الآية أيضاً، وهي:(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ).
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) .
5. وتحدّث القرآن عن تسبيح الرعد، فقال: (وَيُسَبِّحُ الْرَّعْدُ بِحَمْدِه).
إذاً ما هو التسبيح؟
التسبيح لغة يعني التنزيه عن النقائص والمعايب؛ فعندما ينزّه شخص أحداً عن النقائص والمعايب يقال: سبّحه، وقدّسه.
إذن فينطوي التسبيح على معنى التقديس والتنزيه، وأيّ تفسير للتسبيح لا يكون حاكياً عن تنزيه اللّه، وتقديسه من النقائص والعيوب لا يُمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.
آية الله الشيخ جوادي آملي (بتصرّف)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات ـ بأجمعها ـ للّه وتسبيحها له سبحانه.
وبعبارةٍ أُخرى فإنّ القرآن الكريم يُخبرنا ـ وفي صراحةٍ كاملةٍ ـ أنّ جميع أجزاء العالم ـ بدءاً من الذرّة حتى أعظم مجرّة ـ تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى، هي:
1. السجود للّه تعالى.
2. حمده وتمجيده عزّ شأنه.
3. تسبيحه وتنزيهه سبحانه.
وكأنّ الكون بأسره: «كتلة واحدة» من الخضوع والخشوع، والشعور والإحساس والوعي.
أو كأنّ الكون ـ بجميع أجزائه وذرّاته ـ لسانٌ واحدٌ ينطق بحمد اللّه، ويلهج بثنائه، وقلبٌ واحدٌ ينبض بتمجيده، ويؤدّي السّجود له.
والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضحٌ.
أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.
وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخّص في أنّ الحمد تمجيدٌ للّه وثناءٌ عليه بالجميل الاختياريّ، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تُنزهّه عن أيّ نقصٍ وعيبٍ.
ذرّات الكون بأجمعها تسجد للّه
طرح القرآن الكريم قضية «سجود الكائنات بأسرها للّه» في صورٍ مختلفةٍ. ففي بعض الآيات، تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصّة إذ قال:(وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالغُدُوِّ والآصَالِ).
ففي هذه الآية أُشير إلى سجود الموجودات العاقلة خاصّة، بدلالة لفظة (مَن) في قوله (وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ) مع العلم بأنّ (مَن) تستعمل في العقلاء.
وبما أنّ الآية تُخبر عن سجود الموجودات العاقلة كلّها بلا استثناء، فلا يُمكن حملها على السجود التشريعيّ الصادر من المؤمنين لأجل امتثال أمر إلههم، لأنّه من الواضح عدم عموميّة هذا النّوع من السجود لكلّ من له عقلٌ وفكرٌ، فإنّ كثيراً من النّاس يتركون عبادة ربّهم والسّجود له، فعندئذٍ يجب تفسير الآية بالسّجود التكوينيّ الذي سنبيّن مفاده.
وقد أُشير إلى هذا النوع من السجود، أعني: سجود العقلاء، أيضاً في سورة النّحل إذ يقول: (وَللّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّموَاتِ و ما فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّة وَالْمَلاَئِكَةُ)؛والشاهد فيها هو سجود الملائكة. وفي سورة الحجّ إذ يقول:(أَلَمْ تَرَ أَنْ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ).
2- محلّ الاستشهاد هو قوله سبحانه: (وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّماواتِ) باعتبار لفظ «من»، وإن كانت لفظة «وظلالهم» دالّة على سجود الموجودات غير العاقلة أيضاً، لكن بهذا الاعتبار تدخل الآية في الطائفة الرابعة الآتية.
وفي طائفة أُخرى من الآيات تحدّث القرآن عن نطاقٍ أوسع للسجود، فتحدّث عن سجود كلّ الدواب، إذ يقول ـ كما في الآية المتقدّمة:(وَللّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّة).
ثمّ تحدّث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار، إذ قال: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان).
ثم تحدّث رابعاً عن سجودٍ أكثر شمولاً، إذ قال وهو يُخبر عن سجود ظلال الأجسام:(أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْء يَتَفَيَّؤُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً للّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ).
وقد تقدّم في التعليقة السابقة دلالة قوله: (وَظِلالُهُمْ) على مفاد هذه الآية أيضاً.
وتحدّث خامساً عن سجود الشّمس والقمر والكواكب والجبال والشّجر والدواب، إذ يقول:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ).
فهذه النّصوص القرآنية تفيد بأنّ السجود ظاهرةً عامّةً، وحالةً تشمل كلّ أجزاء هذا الوجود دون أن تختصّ بشيءٍ معيّنٍ.
إنّ ما هو المهم ـ هنا ـ هو فهم حقيقة هذا السّجود، وكيف أنّ هذه الموجودات أجمع (عاقلها وغير عاقلها) تظهر الخضوع أمام اللّه وتسجد له سبحانه.
ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون؟
يؤدّي الإنسان عمل السجود ـ عادة ـ بالهوي إلى الأرض، ووضع الجبين أو الذقن على التراب، وإلى هذا يُشير القرآن الكريم، إذ يقول:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للاذْقَانِ سُجَّداً).
وهذه الهيئة ـ ما هي في الحقيقة ـ إلاّ الشّكل الظاهريّ للسجود، ولكن جوهرها وروحها هو « إظهار غاية التذلّل والخضوع أمام المعبود.
وهنا ينطرح هذا السؤال وهو:هل يلزم ـ في السجود ـ وجود هيئة خاصة بحيث لا يصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلك الصورة الخاصّة، أو أنّ ملاك السّجود هو مجرّد إظهار الخضوع، فإذا تحقّق ذلك، تحقّقت حقيقة السّجود وصحّ إطلاق لفظة السّجود على ذلك المورد دونما إشكال، حتى وإن لم يكن في البين تلك الهيئة الخاصّة، حتى أنّ إطلاق السجود على الهيئة الخاصّة ليس إلاّ باعتبار أنّ تلك الهيئة تحكي في نظر العرف عن غاية التواضع ومنتهى الخضوع، وباعتبار أنّها ـ في الحقيقة ـ طريقٌ إلى إظهار الصَغار والتذلّل أمام المعبود؟
الحقّ أنّ القرآن يختار في هذه المسألة الطريق الثاني، بمعنى أنّ السجود في نظر القرآن الكريم هو إظهار التذلّل والخضوع في أيّة صورةٍ تحقّق وفي أيّ شكلٍ وقع.
قال الراغب الأصفهانيّ في مفرداته: «السجود أصله التطامن والتذلّل، وجعل ذلك عبارة عن التذلّل للّه وعبادته، وهو عامٌّ في الإنسان والحيوان والجماد، وذلك ضربان : سجودٌ باختيار، وليس ذلك إلاّ للإنسان. وسجود تسخيرٍ، وهو للإنسان والحيوان والنبات، حتى فسّر قوله تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)، بقوله متذلّلين منقادين». وعلى ذلك فاحتمال أنّ السجدة مختصّةٌ بالهيئة المخصوصة، واستعمالها في
غيرها مجازٌ، بعيدٌ، كاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا نُدرك الخضوع والسجود من الموجودات غير الشاعرة، لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذي هو أبعد، لكونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفسها، لا أنّ الغير يُدرك ذلك منها من دون أن توجد حقيقة السجود في ذواتها.
على أنّ العرف والعقل هما أيضاً اختارا هذا الطريق (أي عدم الخصوصية) في أمر استعمال الألفاظ.
حقيقة سجود الكائنات
جميع الكائنات في هذا الوجود، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع للّه، وبنحوٍ خاصٍّ.
وإنّ أعلى مظاهر ذلك الخضوع، والتذلّل للّه هو كون العالم بأسره تحت أمره سبحانه وفي قبضته، وهو كونها ـ دون استثناء ـ مطيعة له تعالى، ومؤتمرة بأوامره، وخاضعة لمشيئته المطلقة.
وبتعبيرٍ آخر: إنّ علامة هذا الخضوع الكونيّ الشامل هو: سيادة الإرادة الواحدة على الكون برمّته واتّباع كلّ أجزاء هذا العالم لتلك الإرادة العليا الواحدة دون مقاومة، أو تمرّد، ودون طغيان أو تردّد.
وبناء على هذا لا يمكن تصوّر أيّ نوعٍ من «الإكراه والكراهية» في السجود بهذا المعنى، ونعني به: الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهيّة النافذة في مجال التكوين.
إذ «الإكراه» إنّما يتصور عندما يملك الشيء إرادة واختياراً من نفسه، ليتمكّن من معاندة المكره ومقاومته، ومخالفة أمره، في حين لا يملك أيّ واحدٍ من هذه الكائنات «وجوده» دون الاستناد إلى اللّه، فكيف يُمكن لها ـ والحال هذه ـ أن تُخالف مشيئة اللّه، ويصدق عليها أنَّها مكرهة في سجودها أمام العظمة الإلهيّة، وخضوعها أمام المشيئة الربّانية؟
السجود الطوعيّ والإكراهيّ
إذا كان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة اللّه ومشيئته، فلا معنى لتقسيمه إلى الطوعيّ والإجباريّ، مع أنّا نرى القرآن الكريم يُثبت للإنسان ولغيره من ذوي العقول نوعين من السجود، إذ يقول: (وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً).
سجودٌ عن طواعيةٍ ورغبةٍ.
وسجودٌ عن كراهيةٍ وإجبارٍ.
وفي هذه الصورة لابد أن نختار لهذين النوعين من السجود معنى آخر غيرما سلف، فنقول: إنّ المُراد بـ «السجود الطوعيّ» هو قبول تلك الحالات الملائمة للطبع البشريّ، أو لطبع أيّ موجودٍ آخر، كالنموّ، ودوران الدم، وضربان القلب، بينما يكون المقصود بـ «السجود الإجباريّ» هو قبول تلك الحالات المُنافية للطبع، كالموت والبلاء والمحنة، التي تقضي على الإنسان أو الحيوان قبل حلول أجله الطبيعيّ.
والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم استعمل هاتين اللفظتين: «طوعاً وكرهاً» في مورد سجود السماوات والأرض، ومن الطبيعي أنّ المقصود من ذلك هو ما قلناه كذلك.
فمُراد اللّه من خطابه للسماوات والأرض إذ يقول لهما: (ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) هو دعوة السماوات و الأرض إلى أن تقبل أي نوع من التغيّرات والتبدّلات والحالات سواء أكانت ملائمة لطبعها أم لا؟...
فهل ترى يجوز للإنسان ـ وهو يجد جميع الكائنات حتى ظلالها تسبِّح للّه وحده، أنْ يُشرك في سجوده، أو يمتنع من الخضوع أمامه تعالى، وله يسجد كلّ ما عداه؟!
وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصيلٍ أكثر عن تسبيحها وحمدها للّه وتمجيدها له سبحانه.
كيف يكون الحمد والتسبيح الكونيّان؟
كلّ الكائنات ـ في هذا الوجود ـ تُسبّح للّه، وتحمده، وتمجّده.
هذه ـ كما قُلنا ـ حقيقةٌ نطق بها الكتاب العزيز في أكثر من موضعٍ.
وقد مرّ أنّ الحمد يعني ثناء الموجودات على اللّه، لأجل أفعاله الجميلة وكمالاته الاختياريّة، وأنّ التسبيح يعني تنزيهه عن كلّ عيبٍ ونقيصةٍ، وبالتالي وصف اللّه بالتنزيه عن الصفات السلبيّة التي لا تليق بشأنه.
وحيث إنّ بعض الآيات ذكرت كلا اللفظين في مكانٍ واحدٍ، لذلك سنبحث عنهما في مقامٍ واحدٍ أيضاً دون تفريق.
وسنذكر كلّ الآيات الواردة في هذا الباب في ما يأتي.
1. ربّما عرض القرآن موضوع تسبيح الموجودات في نطاقٍ واسعٍ، واعتبره أمراً عامّاً، وحالةً شاملةً لكلّ الكائنات، بلا استثناءٍ، عندما يقول: (سَبَّحَ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ولفظة (ما) على العكس ممّا يتصوّره البعض، تستعمل في العاقل وغيره، والمقصود ـ هنا ـ في هذه الآية هو كلّ موجودٍ وكائنٍ في السّماوات والأرض.
وعلى هذا الغرار أيضاً كلّ ما جاء في المواضع التالية من القرآن:(سَبَّحَ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
(سَبَّحَ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(يُسَبِّحُ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِالْحَكِيمِ).
(يُسَبِّحُ للّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).
على أنّ أشد آيةٍ صراحةً في هذا الشأن هو قوله تعالى:(تُسَبِّحُ لَهُ السَّموَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تحمل في ذيلها دليل ما ادّعيناه وهو قوله:(ولكِنْ لا تَفْقَهوُنَ تَسْبِيحَهُمْ).
وهي عبارةٌ تكشف عن أنّ التسبيح العامّ أمرٌ واقعٌ وكائنٌ، ولكنّ البشر لا يفقه ذلك.
2. وربّما تحدّث القرآن عن تسبيح الملائكة بالصراحة تارةً، وبالكناية تارةً أُخرى، إذ يقول: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
وقد ورد الإخبار بتسبيح الملائكة في آياتٍ أُخرى غير هذه الآية أيضاً، وهي:(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون).
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ).
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ).
(فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْئَمُونَ).
(وَتَرَى المَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
3 . وربّما ذكر القرآن ـ بعد الاخبار عن عموم التسبيح ـ تسبيح الطير إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمواتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).
إنّ الإمعان في هذه الآية يُفيد أنّ القرآن الكريم ينسب «العلم والوعي» إلى الفريق المسبِّح، ويُصرّح بأنّ كلّ واحدٍ من هذه الموجودات يعلم تسبيح نفسه، بمعنى أنّ ما يقع منها من تسبيحٍ يقع عن وعيٍ وشعورٍ بذلك، إذ يقول:(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)]أي كلّ واحدٍ من الموجودات العاقلة والطير.
وقد ورد تسبيح الطير في آياتٍ أُخرى، وهي:(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ. (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإشْرَاقِ*وَالْطَيْرَ مْحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ).
4. وفي آيات أُخرى صرّح القرآن الكريم بتسبيح الجبال في أوقاتٍ خاصّةٍ معيّنةٍ، إذ يقول:(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ).
وقد جاء تسبيح الجبال في آياتٍ غير هذه الآية أيضاً، وهي:(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ).
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) .
5. وتحدّث القرآن عن تسبيح الرعد، فقال: (وَيُسَبِّحُ الْرَّعْدُ بِحَمْدِه).
إذاً ما هو التسبيح؟
التسبيح لغة يعني التنزيه عن النقائص والمعايب؛ فعندما ينزّه شخص أحداً عن النقائص والمعايب يقال: سبّحه، وقدّسه.
إذن فينطوي التسبيح على معنى التقديس والتنزيه، وأيّ تفسير للتسبيح لا يكون حاكياً عن تنزيه اللّه، وتقديسه من النقائص والعيوب لا يُمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.
آية الله الشيخ جوادي آملي (بتصرّف)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين