اللهم صل على محمد وآل محمد بعدد دقات قلب الزهراء
السلام على بديعة الوصف والمنظرالسلام على من نرتجيها ليوم الفزع الأكبر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأولية بالذات وبالغير :
إنَّ الأولية بالذات تختص بالله سبحانه فـ آ(هو الأول والآخرآ) وفيوضاته غير محدودة إذ آ(وَكلّ مَنّه قديمآ) وهو آ(دائم الفضلآ) لا أوّل لها ولا آخر، لكنه أول بالعرض لا بالذات، فانَّ بدايته ترتبط بـ آ(هو الأولآ) ونهايته بـ آ(هوالآخرآ) وذلك خلافاً لذات الله تعالي التي لا أول ولا آخر لها، وانما هو سبحانه بالذات، الأول والآخر.
الكعبة أول معبد :
إنَّ الآية الكريمة تدل علي أنَّ الكعبة هي أول معبد بني علي سطح الارض. أما كون دلالة الآية علي أنَّ الكعبة كانت أول بيت بني للسكن، فهو أمر مستبعد، ومثل هذا الاستنباط محفوف بالمشكلات، خصوصاً وأنَّ الأولية مقيّده بكون الكعبة بنيت آ(مسجداًآ).
بيد أنَّ ذلك لا يمنع من القول : إنَّ مكة هي أول أرض تكوّنت من سطح اليابسة، بعد أن انزاح عنها الماء . أما إن تُفيد الآية أنّ الكعبة كانت أول بيت; فالأمر ينطوي علي اشكال كما أشرنا.
إلاّ أنَّهُ علينا أن نذكر أنَّ الآية مثلما لا تثبت ; فهي لا تنفي أيضاً، ومَرَدُّ ذلك أنَّ الجملة الوصفية أو المقيّدة لا مفهوم لها ـ بالمعني الاصولي ـ وما لا مفهوم له لا اطلاق له أيضاً. والذي نقصدهُ بأنَّ الجملة لا مفهوم لها، أنَّ الجملة الوصفية واللقبية ليسَ بمقدورهما أن يقيِّدا الدليل اذا كانَ مطلقاً، لا انَّه بمقدورنا أن نقتنص الإطلاق منهما. وبه يتضح الفرق بين قولنا : إنّ الجملة لا مفهوم لها، وبين كون الدليل مطلقاً.
فالجملة الوصفية أو اللقبية لا مفهوم لها بمعني لا تثبت، ولا تُفيد الاطلاق، وانما يكون لها مفهوم في مقام التحديد وَ حسب، فلذلك اذا دلَّ دليل من الخارج ـ من خارج الآية ـ أنَّ الكعبة هي أول بيت بني علي سطح الأرض، علي أساس آ(دحو الأرضآ) فإنَّ الآية لا تخالف ما يدل عليه مثل هذا الدليل. وإنما يصعب استظهار مثل هذا المعني من الآية نفسها.
بناء الكعبة :
إنَّ المقصود من آ( البيت آ) هو خصوص الكعبة، حيث يقول تعالي في سورة المائدة : (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس )12
آ(قياماًآ) هي مفعول ثان للفعل آ(جعلآ) . انَّ الله جعل الكعبة أو البيت الحرام يتصف بكونه عنصر قيام لجميع الناس .
وستتضح العلاقة بين هذه الصفة، وبين ما رأيناه في الآية مورد البحث، من أنَّ البيت ينطوي علي سرّ البركة والهداية للناس كافة.
وما ينبغي أن نشير اليه أنَّ البيت كانَ موجوداً قبل ابراهيم عليه السلام ، إلاّ أنَّ عوامل كثيرة أثَّرت عليه من قبيل الطوفان، فلم يبق علي هيئته الاولي. وحين قام ابراهيم عليه السلام بتشييد البيت ورفع قواعده، أصبحنا منذ تلك اللحظة أمام معالم واضحة لتاريخ البيت ومساره علي مرَّ العصور.
واحدة من هذه المعالم، يحدثنا عنها ما يحكيه سبحانه علي لسان إبراهيم، في سورة ابراهيم، حيث يقول عليه السلام : (ربنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم ) فحين ترك الخليل زوجته هاجر وولده اسماعيل(عليهما السلام)، في هذه الأرض القفرة وَهمَّ بوادعهما، سألته هاجر : آ(إلي من تدعني..!.؟آ) فأجاب : إلي ربّ هذه البنية.
لذلك يقول ابراهيم عليه السلام : (ربنا إني أسكنت . . .) ثم بيَّن ما يقصده بما يحكيه القرآن علي لسانه : (ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون) لأنك أنت آ(مقلب القلوبآ). ولقد قال ابراهيم (أفئدةً من الناس) وإلاّ لو كان الخليل عليه السلام قد قال كما يذكر الطبري في تفسير الآية : (أفئدة الناس) لحج جميع الناس سواء منهم اليهودي والنصراني وأصحاب الملل الأخري.
لم تكن مكة أرضاً مواتاً يمكن استصلاحها لتعمر بالنبات والزرف وإنما كانت أرضاً جبلية صخرية تفتقر إلي الماء. لذلك عبَّرت الآية في دعاء الخليل(عليه السلام) عن وادي مكة بانَّهُ (غير ذي زرع) وَلم تعبّر عنه بأنَّهُ آ( لم يزرع آ) اذ لو كانت الأرض صالحة للزراعة، بيد أنها مهملة بانصراف الجهد الانساني عنها، لقيل عنها آ( لم تزرع آ) من باب آ( عدم الملَكة آ) أما أنّها غير صالحة للزراعة والأعمار أصلاً فقد عبر عنها بأنهار آ( غير ذي زرع آ).
إلاّ أنَّ الخليل عليه السلام العارف بقدرات الله غير المتناهية، قال معَ ذلك : (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) وقد أوكل الأمر اليه سبحانه في أن يفعل ما يشاء.
لقد تضمن هذا المقطع من الدعاء بيان المقاصد التالية :
1 ـ انَّ القصد الأساس هو أن يقيموا الصلاة (ربنا ليقيموا الصلاة) وإن كان ثمة مقاصد أخري في السياق.
2 ـ طلب(عليه السلام) أن يعطف قلوب وعقول شطر من الناس إليهم.
3 ـ ثم أراد من ربّه أن يشملهم من الثمرات رزقاً (لعلّهم يشكرون).
لقد تكرَّرت مضامين هذا الدعاء الابراهيمي في سورة البقرة، حيث قال(عليه السلام)فيما يحكيه القرآن علي لسانه : (ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ) فانبثقت بعد فترة عين زمزم ببركة هذا الدعاء وباستغاثة هاجر(عليها السلام) وبصرخات اسماعيل(عليه السلام)وبكائه، وهو طفل صغير.
ولما انبثق الماء حلت الطيور حوله، وأخذت القوافل تحط رحالها عنده، فتحولت مكة إلي آ( بلدآ) وأجيبت الدعوة.
حينما جاء ابراهيم الخليل عليه السلام ورأي الوادي قد تحوَّل إلي بلد، أعادَ عليه السلام دعاءه مع تغيير السياق : (واذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً ) فقد دخلت هنا (الالف واللام) علي كلمة (بلد )بينما بقي طلب (الأمن )ثابتاً لكلا الحالتين.
لقد حقق سبحانه لابراهيم دعوته وحلَّ الأمن في مكة، حتي تميَّزت عما حولها من البلاد، اذ يقول تعالي : (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)17.
إنَّ استعمال (يتخطّف )ينطوي علي دلالة عميقة في رسوخ الأمن، فالخطفة تعني انقضاض الصقر علي فريسته في حال غفلتها، ومكة في أمان من ذلك.
لقد استجيبت دعوة ابراهيم و أضحي الحرم آمناً، حتي علي صعيد الحكم الفقهي، ذلك أنَّ (ومن دخله كان آمناً)
انَّ جملة (عند بيتك المحرّم) تدل دلالة واضحة علي أنَّ للبيت وجوداً قبل ابراهيم عليه السلام ، وإنما غاية ما هناك أنه تعرض لحوادث طبيعية وغير طبيعية، جعلت البيت عرضة للهدام والخراب . حصل ذلك قبل ابراهيم وبعده أيضاً، حيث تهدمت الكعبة اثر السيول، وفي عصر الاسلام قام الحَجاج برميها بالمنجنيق من علي جبل أبي قبيس.
لذا فانّ الصخور السوداء التي تعلو جدران الكعبة الآن، هي ليست نفس الصخور التي كانت عليها قبل عدة قرون.
والذي يظهر أنَّ الكعبة كانت في صدر البعثة النبوية، لا يتجاوز ارتفاعها ضعف طول الانسان المتوسط . نستفيد ذلك من واقعة ارتقاء الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام علي كتفي رسول الله صلي الله عليه وآله ، حيث رمي الأصنام وقذف بها نحو الأرض أثناء فتح مكة.
أما الجانب المعنوي في هذه الواقعة فله حسابه الآخر، حيث عبَّر الامام علي عليه السلام : انَّهُ حين كان علي كتف رسول الله صلي الله عليه وآله لو رام أن ينال الثُريا لنالها.
ما نستفيده من هذا العرض أنَّ الكعبة كانت عرضة للهدام والتخريب أكثر من مرَّة .وفي هذا السياق جاء الخطاب إلي ابراهيم الخليل : (واذ بوَّأنا لابراهيم مكان البيت) حيث تكفل سبحانه بيان المكان ووضع التصميم الهندسي والمعماري للكعبة، ثم كان علي ابراهيم أن يضطلع بمهمة التنفيذ والبناء، حيث جاء في تتمة الخطاب الالهي : (ألاّ تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والرّكّع السّجود )
دمتم بحب ورعاية الزهراء