اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حين كان السيّد الشهيد حيّاً كنت أسمع ـ وهو كان يسمع ـ اتّهاماً بأ نّه إنسان عاطفي أكثر من اللازم، خاصّةً وإنّ ظواهر الاُمور كانت تدلّ على ذلك، ولكن لا أحد يعرف سرّ وأساس عاطفة السيّد الشهيد، إلاّ اُولئك الذين عاشوا معه، وواكبوه في السرّاء والضرّاء.
ومن خلال تماسّي المباشر بالسيّد الشهيد طيلة سنين طويلة أدركت أنّ الجانب العاطفي في حياة السيّد الشهيد جانب ظاهر وبارز، ولكن لنا أن نسأل:ما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا الجانب من حياة السيّد الشهيد؟ هل هو مجرّد دافع غريزي فطري أو هو قائم على أساس دافع إلهيّ، وتكون العاطفة عاطفةً من أجل الله سبحانه وتعالى، ومن أجل هذا الدين العظيم الذي ضحّى من أجله؟
لدينا أرقام تثبت أنّ الصحيح هو الثاني. وهنا أودّ أن اُشير إلى بعض النماذج:
حينما صدر حكم الإعدام على الشهداء الخمسة: المرحوم الشيخ عارف البصري وصحبه، دخلت ذات يوم في حدود الساعة الثالثة بعد الظهرإلى مكتب السيّد الشهيد، فوجدته في المكتبة يبكي بكاءً شديداً، فقلت له: سيّدي ومولاي، إن كنت أنت تصنع هكذا، إذن فماذا يجب أن أصنع أنا؟ حينئذ كفكف دموعه، وقال لي: يا ابني واللهِ لو أنّ البعثيّين خيّروني بين إعدام خمسة من أولادي وبين إعدام هؤلاء، لإخترت إعدام أولادي، وضحيّت بهم، لأنّ الإسلام اليوم يحتاجهم (يعني: الشيخ عارف وصحبه).
هذه العاطفة ليست عاطفة غريزيّة من سنخ العواطف المتعارفة، هذه عاطفة كعاطفة أمير المؤمنين، فهو يقتل المئات في ساحات الوغى ثُمَّ في الوقت نفسه يجلس إلى جانب طفل يتيم يمسح رأسه ويبكي.
الموقف الثاني الذي مازال في نفسي: حينما وصل إلينا خبر إعدام السيّد الشهيد قاسم شبّر والسيّد قاسم المبرقع، وحينما سمع السيّد الشهيد خلال فترة الاحتجاز بإعدام هؤلاء الشهداء الأبرار مع العشرات من خيرة أبناء العراق قبض السيّد الشهيد على شيبته الكريمة، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: إلهي بحقّ أجدادي الطاهرين ألحقني بهم.
الشيء الذي أعجزُ عن نقله ـ أيّها الإخوة ـ حالة السيّد ووضعه حينما قبض لحيته الكريمة، والدموع تجري من عينيه، وهو ينادي ربّه بقلب صاف: إلهي، بحقّ أجدادي الطاهرين ألحقني بهم. وكانت الدعوة مستجابة، فلم تمضِ أشهر قليلة إلاّ وقد استشهد.
موقف آخر في يوم من الأيّام ـ في فترة الاحتجازـ وفي حدود الساعة الثانية والنصف بعد الظهركنت نائماً في مكتبته، إذ انتبهتُ من النوم على صوت سماحته، وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فظننتُ أنّ حدثاً جديداً قد حدث، فقلت له: سيّدنا خيراً إن شاء الله؟ فقال:
كنت أنظر إلى هؤلاء الأمن ـ الذين كانوا يطوّقون منزل السيّد الشهيد ويحتجزونه ـ فرأيتهم عطاشى، والعرق يتصبّب من جباههم، فتألّمت عليهم، ووددت لو كان بوسعنا سقيهم. فقلت: سيّدي، هؤلاء المجرمون حجزونا، وروّعوا عائلتكم وأطفالكم، فقال: ابني صحيح هذا الذي تقول، ولكنّ هؤلاء ـ أيضاً ـ يجب أن نرقّ عليهم، لأنّ هؤلاء إنّما انحرفوا إمّا لأنّ ظروفهم لم تكن مساعدة، أو لأ نّهم لم يحصلوا على تربية صالحة، ولم يعيشوا في بيئة سليمة، ولو خُلّوا وطبعهم، أو وجدوا البيئة المناسبة والصالحة، لكانوا من المؤمنين والمتديّنين.
بهذه الروح الكريمة ينظر السيّد الشهيد إلى أعدائه، فهو سليل جدّه الحسين الذي جاد بما لديه من ماء على الجيش الذي قتله فيما بعد. وهكذا فعل السيّد الشهيد، إذ سقاهم بواسطة خادمه (الحاجّ عبّاس) ماءً بارداً شربوه، وهم يحتجزونه.
وكأنّ حالة الصفاء الموجودة لدى السيّد والمتركّزة في أعماقه أثّرت ـ في فترة الاحتجاز لا شعوريّاً ـ بهؤلاء الذين يحتجزونه من حيث لايعلمون، إذ إنّ بعضهم أُعدموا بسبب مواقف شجاعة وجريئة أقدموا عليها من أجل السيّد الشهيد.
لقد علمت بخبر إعدام بعضهم، وكنت أعرف أسماءهم، إذ كنت أسمع ما يجري بينهم من خلال النافذة، وبعض الوسائل الاُخرى، فتعرّفت بجلّهم، وعندئذ أخبرت السيّد بأنّ فلاناً أعدموه، وفلاناً أعدموه، فذكّرني بالقِصّة السابقة، وقال: يجب أن تحمل في قلبك الرحمة لكلّ مسلم، فهذه هي رسالتنا.
ومن المواقف التي ما زالت تؤثّر في نفسي، ولن أنساها: هو أنّه بعد مضىّ مدّة من الحجز قامت السلطة العميلة بقطع الماء والكهرباء والتلفون، ومنعت دخول وخروج أىّ إنسان إلى بيت السيّد حتّى خادمه، وكانت هناك كمّيّة من المواد الغذائيّة موجودة في دار السيّد، وهي كمّيّة قليلة نفدت خلال مدّة قصيرة، ولم يبقَ عندنا إلاّ صندوق من الخبز اليابس التالف، فبدأت عائلة السيّد ترتّب هذا الخبز اليابس كطعام شعبيّ (يعرفه العراقيّون بالمثرودة)، وبقينا مدّةً على هذا الحال، وفي يوم من الأيّام كنت بخدمة السيّد الشهيد ظهراً نتغدّى في ساحة البرّانيّ، لاحظ السيّد الشهيد في وجهي التأثّر والتألّم، إذ كان يعزّ علىّ أن أرى هذا الرجل العظيم على هذه الحال! فقال لي: والله إنّ ألذّ طعام ذقته في حياتي هو هذا، قلت: كيف؟! قال: لأنّه في سبيل الله ومن أجل الله.
كان السيّد أمل العراقيّين جميعاً. وكان أحد أهمّ الدوافع التي جعلت السيّد يصرّ على اختيار الاستشهاد ـ رغم الإمكانات التي كانت متاحة لإنقاذه من مخالب السلطةـ أ نّه كان يعتقد أنّ العراقيّين سيثأرون لدمه، ولن يقبلوا بأقلّ من إسقاط الحكم التكريتيّ العميل وإقامة حكومة إسلاميّة، وقد كنت أسمع السيّد الشهيد يكرّر قوله: «إن لم يُرَقْ دمي أستبعد أن يسقط هذا الحكم». وكان أمله في كلّ واحد منّا أن نكون بمستوى آمال السيّد وبمستوى كلمته «بأبي أنتم».
هل لبّينا هذه الدعوة؟
وهل حقّقنا للسيّد ما كان يرجوه من دمه؟ وهل نحن حقّاً بمستوى أن يخاطبنا المرجع المظلوم بقوله: «بأبي أنتم»؟
موقف آخر:
وصلت إلينا في يوم من أيّام الحجز رسالة من بعض النجفيّين غير المعروفين بالتديّن، كان فيها عشرة أو خمسة عشر ديناراً، والرسالة مكتوبة بلغة شعبيّة وبسيطة، فيها ألوان التهجّم على السلطة، وفيها الولاء والمحبّة للسيّد الشهيد، ثُمَّ تقول الرسالة ما معناه: «سيّدنا، نحن لا نصلّي ولا نصوم، لكنّا نراك مظلوماً، وهؤلاء البعثيّين ظلموك، وقد جمعنا هذا المال البسيط نرجو منك قبوله، لأنّك محجوز، وتحتاج إلى المال، ونحن ـ إن شاء الله ـ نأتي غداً في الساعة الثالثة بعد الظهر لنقتل هؤلاء المجرمين ـ الأمن ـ الذين يحتجزونك».
بعض هؤلاء الأشخاص الموقّعين على الرسالة كنت أعرفهم معرفة إجماليّة، فلمّا سألني السيّد عنهم أخبرته بوضعهم، فشككنا أن تكون هذه محاولة من السلطة للتعرّف إن كان هناك صلة للسيّد بالخارج أو لا، ولكن كان المحكّ ما في الرسالة من وعد لقتل أفراد الأمن غداً بعد الظهر.
وقبل الموعد بربع ساعة تقريباً صعدت مع السيّد إلى الغرفة المطلّ شبّاكها على الزقاق الذي تتواجد فيه قوّات الأمن، وبقينا ننتظر الوقت المحدّد رأينا ثلاثة أشخاص ملثّمين اقتحموا هذه المجموعة، وثلاثة آخرين اقتحموا المجموعة الاُخرى من الجانب الآخر، وبدأوا معركة فريدة، سقط فيها عدد من أفراد الأمن جرحى، ولعلّ بعضهم قد مات فيما بعد، ثُمَّ لاذوا بالفرار، ولم يتمكّنوا من القبض عليهم.
السيّد الشهيد استأنس لمّا رأى ذلك، وقال: «الإسلام يحنّ حتّى إلى هؤلاء». وكان يعتقد أنّ دمه الزكيّ لو أُريق فإنّه سوف يحرّك حتّى هذه الطبقة من الناس فضلاً عن الواعين والمؤمنين.
موقف آخر:
كان بعض المؤمنين يرسلون إلى السيّد في فترة الاحتجاز بعض المبالغ، فكان يرفض استلامها على رغم حاجته إليها، فقلت له في مرّة من المرّات: سيّدنا، لماذا ترفض المال ونحن في الحجز، وهذا الحجز قد يطول؟ فقال لي: «إنّ والدي السيّد حيدر (وكان والده من علماء مدينة الكاظميّة) في الليلة التي توفّي فيها ما ترك لنا ما نقتات به، فبقيت تلك الليلة مع والدتي، وأخي المرحوم السيّد إسماعيل، وأختي آمنة من دون طعام العشاء، إذ لم يكن عندنا ما نشتري به شيئاً نأكله، وأنا الآن ليس بيني وبين أن ألقى ربّي إلاّ أن يأتي هؤلاء الظَّلَمة ويقتلوني، وأنتقل إلى جوار أجدادي الطاهرين، فلمن أدّخر المال؟
منقول
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين