قد ينقدح أو ترتسم في ذهن القارئ العزيز علامة استفهام عن أهمية هذه الرواية عن باقي الروايات و لماذا تناولها الكاتب بالبحث والتنقيب و الشرح ؟
ونقول :تتجلى أهمية هذه الرواية العظيمة في كونها
أولاً :صادرة من ابن رسول الله صلى الله عليه وآله الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام .
ثانياً : كونها تحمل في طياتها الكثير من المطالب العرفانية التي لا غنى للإنسان المريد سلوك طريق الله عنها،فضلاً عن طالب العلم .
ثالثاً : تعتبر هذه الرواية زاداً للسالكين طريق الله ،لأن الطريق طويل ويعد سفراً إلى الله، وهذا السفر يحتاج إلى زاد من نوع خاص وليس أي زاد ، ومن شخص أمين وناصح وليس أي شخص فما ظنك بزادٍ من شخص كالإمام جعفر الصادق عليه السلام .
رابعاً :تمسك العرفاء بها وإصرارهم على طلبتهم تطبيق مطالبها العرفانية،ومن جملة هؤلاء العرفاء العارف الكبير المرحوم العلامة القاضي ،عارف القرن بلا بديل، الذي يقول فيه الأستاذ الحاج العارف السيد هاشم الحداد : (منذ صدر الإسلام حتى الآن لم يأت عارف بجامعية المرحوم القاضي )1، فقد كان يأمر تلامذته ومريدي السير والسلوك إلى الله أن يعملوا برواية عنوان البصـري ، أي أن العمل طبقاً لمضمون هذه الرواية هو برنامج أساسي ومهم ،إضافة إلى هذا كان يأمرهم بأن يضعوها في جيوبهم وأن يطالعوها مرة أو مرتين في الأسبوع ،بل كان رضوان الله عليه لا يقبل تلميذاً بدون الالتزام بمضمون هذه الرواية .
وهي منقولة عن الإمام الصادق ( ع) وذكرها المجلسـي في كتاب " بحار الأنوار" . وبما أنها برنامج عمل جامع ، منقول عن الإمام ( ع) فنحن هنا سنذكر نفس ألفاظ وعبارات الرواية ، بدون أدنى تصـرف ، ليتمتع بها المحبون ، وعاشقو السلوك إلى الله . قال الشيخ شمس الدين محمد بن مكي : نقلت من خط الشيخ أحمد الفراهاني رحمه الله ، عن عنوان البصري،وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة.
قال : كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين ، فلما قدم جعفر الصادق (ع) المدينة اختلفت إليه ، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك . فقال لي يوماً : إني رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل والنهار ، فلا تشغلني عن وردي ، وخذ عن مالك ، واختلف إليه كما كنت تختلف إليه .
فاغتممت من ذلك ، وخرجت من عنده وقلت في نفسـي : لو تفرس فيَّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه . فدخلت مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وسلمت عليه، ثم رجعت من الغد إلى الروضة وصليت فيها ركعتين ، وقلت : أسألك يا الله يا الله أن تعطف علي قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم ، ورجعت إلى داري مغتماً ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما أشرب قلبي من حب جعفر ، فما خرجت من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري ، فلما ضاق صدري تنعلت وترديت وقصدت جعفراً وكان بعد ما صليت العصر .
فلما حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : السلام على الشريف . فجلست بحذاء بابه فما لبثت إلا يسيراً إذ خرج خادم فقال : ادخل على بركة الله . فدخلت وسلمت عليه ، فرد السلام وقال : اجلس غفر الله لك ! فجلست فأطرق ملياً ، ثم رفع رأسه ، وقال : أبو من ؟! قلت أبو عبد الله ! قال : ثبت الله كنيتك و وفقك ، يا أبا عبد الله ! ما مسألتك ؟!. فقلت في نفسي : لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً .
ثم رفع رأسه ، ثم قال : ما مسألتك ؟ فقلت : سألت الله أن يعطف قلبك عليَّ ويرزقني من علمك ، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته . فقال : يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلم ، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية ، واطلب العلم باستعماله ، واستفهم الله يفهمك !.قلت : يا شريف .
فقال : قل يا أبا عبد الله ! قلت : يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية ؟! قال : ثلاثة أشياء : أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ، ولا يدبراً العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه . فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه . وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس . فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا ، وإبليس ، والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً ، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلواً ، ولا يدع أيامه باطلاً ، فهذا أول درجة التقى ، قال الله تبارك وتعالى :﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾2
قلت : يا أبا عبد الله أوصني !. قال : أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله . ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك والتهاون بها!.قال عنوان : ففرغت قلبي له . فقال : أما اللواتي في الرياضة : فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنه يورث الحماقة والبله ، ولا تأكل إلا عند الجوع ، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله ، واذكر حديث الرسول صلى الله عليه وآله: : ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه فإن كان ولابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه".وأما اللواتي في الحلم : فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل : إن قلت عشراً لم تسمع واحدة ، ومن شتمك فقل له : إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك . ومن وعدك بالخنى فعده بالنصيحة والرعاء .
وأما اللواتي في العلم : فاسأل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتاً و تجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئاً ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا ، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً .
قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد علي وردي ، فإني امرء ضنين بنفسي ، والسلام على من اتبع الهدى .
المطالب العرفانية للرواية :
1- معنى العبودية وتحقيق معناها .
2- طلب العلم باستعمال حقيقية مفهوم العبودية .
3- استفهام الله .
الوصايا العرفانية التسع :
أ- ثلاث في الرياضة النفسية.
ب- ثلاث في الحلم .
ج- ثلاث في العلم .
في القسم الثاني إن شاء الله نواصل معاكم هذه المطالب الشيقة.......
_______________________________________________
[1] صادق زاده،كنز العرفان،ص3.
[2] - (83) سورة القصص