اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
يحطّ الإنسان قدمه على هذه الأرض و هو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات و المواهب التي تبقى في مرحلة القِوى و في صورة الطاقات المعطّلة المخزونة، إلاّ أن تتوجّه إليها صدمة قويّة تحرك القابليات، و تفجّر المواهب، و تُظهر المعادن، و تصقل الجواهر.
و بعبارة واضحة: إذا لم يتعرّض الإنسان للمشاكل في حياته فإنّ قابليّاته و مواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لاتنمو و لاتنفتح، بل تبقى في مرحلة القوّة و الذخيرة المهملة، فإذا تعرّض الإنسان للمشاكل والمحن تفتّقت فيه تلك القابليات، و نمت تلك المواهب، و انتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفاعلية، و تفتّحَ فكره، و تكامل عقله.
و لايعني هذا أن يعمد الإنسان بنفسه إلى خلق المشاكل، و إثارة الشدائد و المصائب و جرّها إلى نفسه ابتداءً، بل يعني أن يستقبلها الإنسان ـ إذا جاءت ـ برحابة صدر، و يستفيد منها في تفجير قابلياته، و تنمية مواهبه، و إذكاء عقله، و تقوية روحه، لا أن يستسلم أمام عواصفها، أو ينهزم أو ينهار، فلا يحصد إلاّ الخسران، و لا يقطف إلاّ ثمرة السقوط المُرّة.
إنّ البلايا و المصائب و المحن خير وسيلة ـ لو أحسن المرء استغلالها و استخدامها ـ لتفجير الطاقات، بل تقدّم العلوم، ورقيّ الحياة البشريّة.
فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تتفتّق و لم تزدهر إلاّ في أجواء الحروب و الصراعات و المنافسات، حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع و في مواجهة الأعداءِ المهاجمين، أو إصلاح ما خلّفته الحروب من دمار و نقص و تخلّف، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار مثلاً.
فقد كانت ـ في مثل هذه الظروف ـ تتفتّق المواهب و تتحرّك القابليّات لملافاة ما فات، و تكميل ما نقص و تهيئة ما يلزم. و من هنا قالوا: "إنّ الحاجة اُمّ الاختراع".
قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد:
«إنّ البحث الدقيق في العوامل المولّدة للسجايا النفسانيّة بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك، فإنّ المجتمعات العائلية و الأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيويّة أو دينيّة في أوّل تكوّنها و نشأتها تحسّ بالموانع المضادّة و المحن الهادمة لبنيانها من كلّ جانب فتتنبّه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، و يستيقظ ما نامت من نفسيّاتها للتحذّر من المكاره، و التفدية في طريق مطلوبها بالمال و النفس، و لا تزال تجاهد و تفدي ليلها و نهارها، و تتقوّى و تتقدّم حتى تمهّد لنفسها فيها بعض الاستقلال و يصفو لها الجوّ بعض الصفاء، و تأخذ بالاستفادة من فوائد جهدها».
ثم إنّنا لاندّعي بأنّ هذه النتائج و الثمار توجد دائًما في جميع الحوادث و الكوارث، و إنّما في أغلبها.
فإنّ أغلبيّة هذه المصائب و البلايا تعطي دفعة قويّة لقابليات الأفراد، و تطرد الكسل عن نفوسهم و الجمود عن أفكارهم.
أليس الحديد يزداد قوة و صلابة كلّما تعرّض للنار، و أليس السيف يزداد حدة و قاطعية كلّما تعرّض للمبرد.
و من هنا فإنّ الوالدين اللذين يعمدان إلى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفّهة بعيدة عن الصعوبات و الشدائد، لايقدّمان إلى المجتمع إلاّ إنسانًا هزيلاً ضعيف الإرادة فاقد الطموح، أشبه ما يكون بالنبتة الغضّة في مهبّ الريح، بل و التبنة الخفيفة الوزن أمام هبوب العاصفة تأخدها يمينًا و شمالاً.
و أمّا الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل و المصائب، و المصاعب و المتاعب، فإنّه يكون أشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كلّ السهام، و تتحطّم عندها كلّ العواصف أو كما وصف الامام علي (عليه السلام) إذ قال: «ألا إنّ الشجرة البرية أصلب عودًا، و الروائع الخضرة أرقّ جلوداً، و النباتات البدوية أقوى وقودًا، و أبطأ خمودًا».
و إلى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه: ﴿فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [ النساء/19].
و قوله تعالى: ﴿فَاِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * اِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ [الشرح/5و6].
و قوله سبحانه: ﴿فَاِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَ اِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [ الشرح/7و8].
أي تعرّض للنصب و التعب بالإقدام على العمل و السعي و الجهد كلّما فرغت من العبادة، و كأنّ النصر و المحنة حليفان لا ينفصلان، و إخوان لايفترقان.
و خلاصة القول: إنّ القدرة على المقاومة و الظفر بالنجاح يتوقّف على صلابة الإنسان الحاصلة من المرور بالصعوبات و المشاق، ليزداد قوّة إلى قوّة، و تماسكًا إلى تماسك كما يزداد الحديد صلابة إذا تعرّض لمطرقة الحدّاد، و لكي يخلص عقله و روحه من علائق الكسل و الجمود كما يخلص الذهب من الشوائب إذا تعرّض لألسنة اللهب.
آية الله الشيخ الشيخ جعفر السبحاني -